العنوان هنا
دراسات 16 يناير ، 2011

إيران والأمن القومي العربي

الكلمات المفتاحية

محمد السعيد إدريس

عضو المكتب التنفيذي – عضو الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي. الأمين العام لملتقي الشباب القومي العربي. عضو المجلس الأعلى للرابطة العالمية للسادة الشرفاء الأدارسة. دكتوراه فى العلوم السياسية – جامعة القاهرة. متخصص فى العلاقات الدولية الإقليمية وخاصة النظام الإقليمى للشرق الأوسط والصراع العربى - الإسرائيلى، والنظام الإقليمى الخليجى (مجلس التعاون الخليجى+ إيران + العراق). رئيس وحدة الدراسات العربية والإقليمية بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية فى الأهرام. رئيس وحدة دراسات الثورة المصرية بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية فى الأهرام. رئيس تحرير مجلة مختارات إيرانية. وله العديد من المؤلفات المعنية بالشأن العربي والمحلي. ويكتب فى مجموعة من الدوريات والصحف العربية.

  

 مقدمة

يعانى الأمن القومي العربي من تحديات عديدة ومكثفة تتنوع بين ما هو تحديات داخلية المصدر وأخرى مصدرها البيئة الإقليمية والدولية للنظام العربي. وإذا كانت التحديات الداخلية هى الأساس، من وجهة نظرنا، وبالذات ما يتعلق بخصوصيات نظم الحكم العربية وإدارة السياسة في الداخل العربي، فإن تحديات البيئة الإقليمية والدولية لا تقل خطورة.

من بين هذه التحديات يبرز التهديد الإيراني، لكن الأهم منه هو الانقسام العربي حول إدراك هذا التهديد، وهو الانقسام الذى يكشف عن حالة من عدم اليقين العربي حول مصادر تهديد الأمن القومي العربي وخاصة ما يتعلق بالبيئة الإقليمية ودور إيران في هذا التهديد. عدم اليقين هذا يؤدى إلى حالة ارتباك عربية في إدارة العرب لأنماط علاقاتهم وتحالفاتهم الإقليمية وفي صياغة توجهاتهم الاستراتيجية لتحقيق الأمن القومي.

هذه الورقة سوف تركز أولاً على دراسة الأمن القومي العربي من منظور صراعات الإقليمية والعالمية في المنطقة، وعلى علاقات العرب وإيران من منظور خرائط التحالفات والصراعات الإقليمية، وأخيراً سوف نعرض للإدراك العربي لإيران كمصدر لتهديد الأمن القومي العربي.

أولاً: الأمن القومي العربي وصراعات الإقليمية والعالمية 

في الوقت الذى أخذ فيه النظام الدولى يشهد تطورات مهمة في هيكليته منذ سقوط النظام ثنائى القطبية، بدخول فواعل جدد Actors في عضويته، حولته من نظام دولى يقتصر فقط على عضوية الدول إلى نظام عالمى يجمع بين عضويتة الدول من ناحية، والعديد من المنظمات والهيئات ذات التأثير القوى في السياسة الدولية مثل المنظمات الإقليمية والشركات متعددة الجنسية ومنظمة التجارة العالمية، ومجموعة العشرين من ناحية أخرى، فإن النظام العالمى الجديد الذى مال مؤقتاً ناحية أخذ طابع القطبية الأحادية، ثم تحول فيما بعد إلى نظام أشبه بـ "اللا قطبية"، أملاً في أن يتجه نحو نظام متعدد الأقطاب، شهد بروزاً مهماً لدور الأقاليم على حساب قيادة النظام العالمى وأيضاً حساب دور الدولة الوطنية، بحيث أخذت تفاعلات الدول داخل أقاليمها الخاصة تتنافس، وأحياناً، تتفوق على علاقتها بقيادة النظام العالمى ومنظمته العالمية (الأمم المتحدة).

هذا الإتجاه إلى تدعيم دور الأقاليم من ناحية، وسياسات التعاون والإعتماد الإقتصادى المتبادل والتكامل الإقليمى من ناحية أخرى الذى أصبح أحد أهم معالم النظام العالمى الجديد، لم يكن له أي وجود فعلى في إقليم الشرق الأوسط، الذى كاد ينفرد على معظم، وربما كل، أقاليم العالم، في أنه يتجه نحو "العسكرة"، وليس إلى الإعتماد المتبادل والتكامل الإقتصادى بين دوله.

فإقليم الشرق الأوسط الذى يمتد من أفغانستان وباكستان شرقاً إلى المملكة المغربية وموريتانيا غرباً، ومن تركيا وجمهوريات آسيا الوسطى شمالاً حتى القرن الأفريقى ومنابع نهر النيل جنوباً، يكاد يكون الإقليم الوحيد في العالم الذى يشهد أعلى درجات العسكرة، وأخطر أنواع الحروب، ومعظم القواعد العسكرية ابتداءاً من حرب الخليج الأولى التي امتدت ثمانى سنوات بين إيران والعراق، ثم حرب تحرير الكويت (حرب الخليج الثانية) العام 1991، ووضع العراق تحت السيطرة العسكرية الأميركية ـ البريطانية منذ ذلك العام وحتى غزوه واحتلاله العام 2003، وقبل ذلك الغزو الأمريكي لأفغانستان، واستمرار مسلسل العنف وإراقة الدماء في العراق، وعلى الحدود العراقية ـ التركية، وفي الصومال والقرن الأفريقى، وحروب إسرائيل ضد لبنان العام 2006، وضد قطاع غزة (ديسمبر 2008 إلى يناير 2009)، ناهيك عن القواعد العسكرية، وتحركات القطع العسكرية التي تخص دول الإقليم والدول الحليفة لها، والإنفاق العسكرى الهائل وغير المسبوق، كلها شواهد تؤكد أن إقليم الشرق الأوسط يتطور في اتجاه معاكس لتطور معظم الأقاليم في العالم.

الوجه الآخر لهذا التطور الدامى في الشرق الأوسط هو عدم الإستقرار السياسى، وسيطرة النظم الإستبدادية، وغياب الحريات، وانتشار الفقر والتخلف والتبعية، والاعتماد المتزايد على المعونات الخارجية، لكن هناك تطور جديد له أهميته، وهو أن تلك الأنماط التفاعلية التي تعتمد بدرجة مكثفة على العسكرة، أخذت تلعب دور المحدد الأساسى في تشكيل خرائط التحالفات الإقليمية والدولية في الإقليم.

إن نظرة، ولو سريعة، لما يجرى من مناورات عسكرية على أرض الإقليم كافية للكشف عن أبرز هذه التحالفات. فإذا كانت إيران تتفرد عن غيرها من دول الإقليم باعتمادها على الذات في إجراء مناوراتها العسكرية، فإن هذا الاعتماد على الذات والمناورات الانفرادية دون مشاركة أي أطراف أخرى إقليمية أو دولية، يكشف عن أحد أهم معالم السياسة الإيرانية، حيث تخضع إيران لحصار أمريكي منذ العام 1981، وهو الحصار الذى فرض عليها اللجوء الإضطرارى إلى سياسة الاعتماد على الذات اقتصادياً وعسكرياً، وحال دون انخراط إيران في تجمعات إقليمية ذات صفة عسكرية.

أما دول مجلس التعاون الخليجى التي تعتمد بدرجة كبيرة على الدعم العسكرى الأمريكي والدولى عبر العديد من الاتفاقيات العسكرية والأمنية، فإنها تشترك مع هذه الدول الصديقة في مناورات عسكرية دورية وغير دورية، وتحتفظ بقواعد عسكرية لبعض هذه الدول، ما يجعلها على مستوى التفاعلات السياسية والعسكرية أكثر "عولمة" أو "دولنة" من كونها تفاعلات إقليمية، فالأمن الخليجى، بفضل هذه التفاعلات، أضحى أمناً "مدولناً" أو "فوق إقليمى" على أقل التقديرات. والأكثر من ذلك أن الحروب التي تدور على أرض دول هذا الإقليم الشرق أوسطى أضحت معظمهما حروباً معولمة أو مدولنة تشارك فيها عشرات الدول من خارج الإقليم.

حرب الخليج الثانية العام 1991، والغزو الأمريكي للعراق واحتلاله العام 2003، وقبله الغزو الأمريكي لأفغانستان العام 2002، كلها حروب أدارها تحالف دولى من خارج الإقليم، حتى الحرب المحتملة ضد إيران فإنها، على الأغلب، لن تكون في حال حدوثها حرباً إقليمية تدور في حدود دول الإقليم، بل إنها ستكون بمشاركة أطراف أخرى خارجية مع بعض دول الإقليم.

هذا يعنى أن إقليم الشرق الأوسط، وفي القلب منه النظام العربي وخاصة جزئه  الخليجى، دون غيره من الأقاليم في العالم، تجرى عسكرته على حساب تفاعلاته التنمويه والتكامليه، وتجرى عولمته على حساب تحويله إلى كتلة أو جماعة اقتصادية ـ سياسة قادرة على التفاعل الإيجابى مع المجتمع الدولى من المنطلق ذاته الذى أخذ يتعامل به النظام العالمى أي منطلق الأقاليم أو النظم الإقليمية.

ابتداءاً من هذا التشخيص يجدر التساؤل عن تأثير هاتين الخاصيتين على الأمن القومي العربي وعلى أنماط التفاعل بين دول الإقليم وبالذات علاقات العرب بإيران، وهل توجد تحالفات إقليمية داخل إقليم الشرق الأوسط تقتصر على الدول أعضائه، أم أن تأثير هاتين الخاصيتين أضحى فاعلاً، وباتت تحالفات الإقليم هى الأخرى تحالفات متجهة نحو الخارج.

ربما تكشف حالة النظام العربي، باعتباره نظاماً فرعياً من النظام الإقليمى للشرق الأوسط، إن التحالف مع خارج النظام هو الأكثر رواجاً. فالنظام العربي جرى تفكيكه فعلياً منذ توقيع مصر معاهدة السلام مع إسرائيل، حيث تراجعت مكانة القضية الفلسطينية كقضية مركزية لهذا النظام.

 فهذه القضية لم تكن، كما يتصور البعض، مجرد قضية ذات أولوية طاغية على غيرها من القضايا العربية الأخرى الأولى بالاهتمام مثل قضايا التطور الديمقراطى والتقدم الاقتصادى والاندماج السياسى، بل كانت أيضاً "قضية جمعية" أي قضية قادرة، دون غيرها، على تجميع أشتات العرب في أداء وعمل استراتيجى موحد، وعندما تراجعت مكانة هذه القضية انفرط العقد العربي تماماً، وجاءت حرب الخليج الثانية وتداعياتها، وخاصة التوجه نحو تطبيع العلاقات العربية ـ الإسرائيلية، والاختراق الأمريكي القوى للنظام العربي ليكمل انفراط هذا العقد الذى أضحى مبعثراً مع غزو العراق واحتلاله، ومن بعده الحرب الإسرائيلية على لبنان صيف 2006 والحرب الإسرائيلية على قطاع غزة (ديسمبر 2008 ويناير 2009).

وبين هذا الإنفراط وذاك كان النظام العربي يتفكك ويخترق من الخارج ابتداءاً من النظام الإقليمى الأوسع (نظام الشرق الأوسط)، وانتهاءً بالنظام العالمى. حال التجمعات الفرعية العربية خاصة مجلس التعاون الخليجى والاتحاد المغاربى الآن أكبر دليل على ذلك.

فمجلس التعاون الخليجى أقام نظريته الأمنية على أساس الاعتماد الكامل على الولايات المتحدة دون أفق لنظام أمن جماعى خليجى، بل أمن منفرد لكل دولة خليجية على حدة. وبعدها وقعت أربعة دول من أعضائه على "وثيقة اسطنبول" مع حلف شمال الأطلسى (الناتو)، هى الإمارات والكويت وقطر والبحرين دون مشاركة المملكة العربية السعودية وسلطنة عمان، ودون أفق لأمن خليجى عربي، أي أمن خليجى مرتبط بأمن قومي عربي، أما مسيرة التكامل والاندماج فمازالت هى الأخرى عند حدها الأدنى، ومازالت الأولوية الوطنية طاغية على الأولوية الجماعية، ولعل الخلاف الأخير حول البنك الخليجى والعملة الخليجية الموحدة يكشف مدى هشاشة البنية الإندماجية داخل المجلس.

أما حال الإتحاد المغاربي فليس أفضل بأي حال من الأحوال من حال مجلس التعاون الخليجى، فمسيرة الاندماج معطلة بالكامل، والأمن الجماعى غائب، والتوجه البارز هو الارتباط بالأفق المتوسطى.

 أما القلب العربي، ونقصد به المشرق العربي فهو ممزق بين خلافات القاهرة ودمشق، والانقسام حول عملية السلام والتحالفات الإقليمية، في وقت أضحى فيه العراق غارقاً تحت الإحتلال والتنافس بين أمراء الحرب الذى يكاد يحوله إلى أفغانستان أخرى مع اقتراب موعد الانسحاب العسكرى الأميركى الكامل أو حتى شبه الكامل. ففي وقت تتجه فيه القاهرة إلى مزيد من التطبيع مع الدولة الصهيونية، وتكثيف العلاقات مع الولايات المتحدة، أضحت سورية أقرب إلى إيران وتركيا.

 ثانياً: العرب وإيران وخريطة الصراعات والتحالفات الإقليمية

هذا الوضع الانقسامى للنظام العربي المقترن بافتقاد الفعالية سواء على مستوى القيام بالوظائف المنوطة به أو على مستوى مواجهة التحديات التي تواجه الأمة تتفاقم كارثيته في ظل بروز خريطة صراعات وتحالفات إقليمية جديدة وحدوث استقطاب حاد لقلب النظام وتركزه في ثلاثة قوى إقليمية أساسية هى: إسرائيل وإيران وتركيا، وتحول العرب إلى مجرد طرف في تفاعلات النظام الشرق أوسطى الأوسع الذى يكاد يبتلع النظام العربي داخل أسوأ أطوار تفككه وصراعاته الداخلية، بدليل كل ذلك الفشل الذى منيت به "القمة العربية الاستثنائية" التي عقدت في مدينة سرت الليبية  9 أكتوبر 2010 الذى عجز فيها القادة العرب عن التوصل إلى رؤية مشتركة لتطوير جامعة الدول العربية وتحويلها إلى اتحاد عربي، كما عجزوا فيه عن إقرار مشروع الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى الخاص ببلورة إطار تفاعلى عصرى مع دول الجوار الإقليمى تحت اسم "رابطة الجوار الإقليمى".

 فجوهر التفاعلات الإقليمية الآن، وكما تعبر عنها خريطة توزيع القوة بين الفواعل الأساسية للنظام تقول أن هذا النظام يتجه إلى هيكلية قيادة ثلاثية متصارعة؛ حيث تسعى إسرائيل إلى أن تفرض نفسها كقوة إقليمية عظمى مسيطرة، في حين ترفض إيران ذلك وتقوم بدور القوة المناوئة والساعية إلى فرض نفسها كزعامة مهيمنة إقليمية بديلة، في حين أن تركيا وإن كانت تبدو أنها راضية بدور الموازن الإقليمى Regional Balancer  فإنها أيضاً حريصة على أن تكون قوة منافسة على الزعامة الإقليمية وإن كانت تعطى الأولوية لعناصر القوة الناعمة دون الخشنة عكس القوتين الإسرائيلية والإيرانية.

هذه التوجهات قد لا تعبر بدقة عن واقع خريطة توازن القوى الفعلى من ناحية، وحدود فرص نجاح كل من هذه القوى الثلاثة في تحقيق أهدافه من ناحية أخرى.

فخريطة توازن القوى الإقليمية كما هى واضحة ومؤكدة تعبر عن حالة اشتباك بين مشروعات إقليمية ثلاثة هى: المشروع الصهيونى – الإسرائيلي، والمشروع الإيراني – الإسلامي، والمشروع التركي الذى مازال محكوماً بتفاعلات شديدة الخصوصية بين ما هو "أتاتوركى" وما هو "عثمانى جديد" دون استقرار على صيغة لمشروع واضح ومحدد المعالم يحقق لتركيا طموحاتها في الاندماج بالاتحاد الأوروبى من ناحية ويحقق لها أيضاً نوازعها الشرقية بأبعادها الحضارية والتاريخية.

التفاعل بين هذه المشروعات الثلاثة يؤثر بقوة على الأمن القومي العربي ويزيد الخيارات العربية تعقيداً، وبالذات بالنسبة للعلاقة مع إيران التي تثير انقساماً واضحاً في الإدراك السياسى العربي، بعضه ناتج من خصوصيات المشروع الإيراني وبعضه الآخر ناتج من تفاعلات هذا المشروع الإيراني مع كل من المشروعين الإسرائيلي والتركي، حيث يظهر التنافس قوياً بين إيران وإسرائيل على كسب تركيا ضمن الصراع الأهم بينهما على فرض السيطرة والهيمنة الإقليمية.

هذا التنافس الإيراني – الإسرائيلي على كسب تركيا كحليف إقليمى يزيد من تعقيد خريطة التفاعلات الإقليمية أمام العرب الذين يراهن بعضهم على تركيا كموازن إقليمى لإيران ويراهن آخرون منهم على دور تركيا كوسيط لإنقاذ مشروع تسوية الصراع العربي – الإسرائيلي من الفشل، الذى أضحى مؤكداً في ظل العجز العربي عن إدارة الصراع مع إسرائيل، وفي ظل التوجه الإسرائيلي نحو المزيد من التشدد لفرض مشروع السلام الإسرائيلي الذى أخذ يتمحور الآن حول مشروع "الدولة اليهودية" والتوسع الاستيطانى، وتسويف مشروع "حل الدولتين" وطرح مشروع "الوطن البديل" للفلسطينيين في الأردن أو طرح مشروع الدول الثلاث، وفي ظل الانحياز والدعم الأمريكي المطلق لكل ما له علاقة بأمن ومستقبل إسرائيل، على نحو ما تأكد من التراجع الأمريكي للربط بين المفاوضات المباشرة وتجميد سياسة الاستيطان الإسرائيلي.

ضمن هذا التعقيد تفرض خصوصية نظام الجمهورية الإسلامية نفسها على الإدراك السياسى العربي وبالذات التوجهات الاستراتيجية لنظام الجمهورية الإسلامية نحو العرب ونحو خريطة التحالفات والصراعات الإقليمية، ومنه يتبلور الإدراك العربي لإيران كمصدر لتهديد الأمن القومي العربي، أو كحليف استراتيجى محتمل.

فنظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية يمكن وصفه بأنه "نظام ثورى" يسعى إلى التغيير وتصدير الثورة لفرض نموذجه على الجوار الإقليمى، كما يمكن وصفه بأنه "نظام أيديولوجى إسلامي راديكالى" يطرح الرسالة العالمية للإسلام ويرفع شعارات تدفعه حتماً إلى الصدام مع دول الجوار أبرزها شعار "البراءة والموالاة"، الذى يعنى التبرؤ من الظلم والاستكبار ومعاداتهما بل ومواجهتهما من ناحية وموالاة المستضعفين ودعمهم في كل مكان في العالم، الأمر الذى يعنى حتمية التورط في سياسات تدخل في الشؤون الداخلية للدول، والتغلغل إلى داخلها والتحالف مع قوى سياسية داخلية، والدخول في صدامات مع أطراف دولية وإقليمية أخرى.

 كما أن هذا النظام يوصف أخيراً بأنه "نظام طائفي – مذهبى" حيث تنص المادة رقم 13 من الدستور على أن "الدين الرسمى لإيران هو الإسلام والمذهب هو الجعفرى الاثنى عشرى"، كما تنص المادة 76 من الدستور الخاصة برئيس الجمهورية على "أن يكون إيراني الأصل، ويحمل الجنسية الإيرانية مؤمناً ومعتقداً بمبادئ جمهورية إيران الإسلامية والمذهب الرسمى للبلاد".

وبسبب هذين النصين ومسائل أخرى مهمة واجهت الجمهورية الإسلامية السؤال الصعب: هل هذه التجربة تعبير عن ما يسمى بـ "العالمية الإسلامية" و"الوحدة الإسلامية"، أم هى تعبير عن إسلام طائفي شيعى، بمعنى آخر هل الجمهورية الإسلامية مشروع إسلامي عالمى أم هى مشروع شيعى طائفي؟

على المستوى الرسمى هناك نفي قاطع لأي اتهامات لمشروع الجمهورية الإسلامية الإيرانية بأنه مشروع شيعى طائفي، لكن الممارسات العملية تكشف عن دور مهم للمحدد الطائفي في صنع السياسة الإيرانية داخلياً وخارجياً.

الوقوف عند السؤال السابق أو الاكتفاء به يؤدى إلى طمس نصف الحقيقة مع التشكيك في النصف الآخر. فالجمهورية الإسلامية الإيرانية ترتكز في الواقع على دعامتين على نحو ما ينص الاسم: الجمهورية (أي المصلحة) والإسلامية أي الأيديولوجيا. وهى مزيج أو خليط من الدولة والمجتمع الإيراني بتاريخه الطويل والعميق والممتد وتجاربه الإمبراطورية والدور التاريخى للشعب الإيراني في الثقافة والحضارة العالمية ثم الإسلامية، ومن الإسلام كأيديولوجية.

الجمهورية الإسلامية الإيرانية هى مصالح إيران أولاً الدولة والمجتمع والحضارة والتاريخ والدور بغض النظر عن كونها إسلامية أم غير إسلامية، وهى، وهذا هو جديد الجمهورية الإسلامية كونها ملتزمة بمشروع إسلامي عالمى له التزاماته بغض النظر عن كونه مذهبياً، لكن المذهبية الشيعية تضيف أعباءً والتزامات أخرى على كاهل هذه الجمهورية.

هذا يعنى أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية ليست كلها إسلام وأدوار والتزامات إسلامية أو حتى طائفية شيعية لكنها أولاً دولة إيران بمجتمعها وأصوله الاجتماعية التعددية التي تتكون من قوميات وأديان وطوائف متعددة وبمصالحها القومية ومتطلبات الأمن القومي الإيراني.

الخليط بين المصالح القومية والاعتبارات الإسلامية قد تختلف من تيار سياسى إيراني إلى آخر (محافظ تقليدى، محافظ أصولى ثورى، إصلاحى معتدل أم إصلاحى متطرف) ومن زعيم إيراني إلى آخر، لدرجة نستطيع أن نقول معها أن في إيران كل ألوان الطيف الممتدة من أقصى حماس للمصالح الوطنية دون اعتبار للإسلام وأقصى حماس للإسلام دون اعتبار للمصالح القومية. وبين هذين المحورين الافتراضيين تتعدد القوى والتيارات السياسية وتتباين وتتوافق حول الرؤى والسياسات والبرامج الوطنية.

لكن بشكل عام نحن أمام تجربة سياسية جديدة محاصرة بسبب خصوصيتها، ورغم ذلك استفادت من مصادرها واكتسب قدرات مادية وعلمية وعسكرية ومكانة سياسية في العالم العربي وفي الأقاليم المجاورة وفي العالم، وهى تعيش حزمة من علاقات التعاون وعلاقات الصراع مع دول العالم العربي والشرق الأوسط والعالم، وهى لذلك تعيش معضلة الإدراك الملتبس لدى العالم العربي بين من يراها مصدراً للتهديد ومن يراها حليفاً محتملاً ومن يراها شريكاً استراتيجياً بسبب سياساتها التي تخلط بين البراجماتية السياسية التي تعبر عن مصالح وطنية إيرانية بحتة والالتزامات الإسلامية التي تعطى القضايا الإسلامية وعلى رأسها القضية الفلسطينية والمقدسات الإسلامية أولوية معتبرة في سياساتها.

وبسبب هذا الخليط انحازت إيران إلى الغزو الأمريكي لكل من أفغانستان والعراق بسبب صراعات سياسية وطائفية مع نظام حكم طالبان في أفغانستان وصراعات سياسية وعسكرية دامية امتدت ثمانية أعوام مريرة من الحرب مع نظام صدام حسين في العراق.

إيران لم تؤكد انحيازها للغزو الأمريكي للعراق فقط بل انحازت إلى السياسات الأمريكية في العراق على الأقل في الفترة من 2003 – 2005 بسبب المكاسب التي حققتها هذه السياسات الأمريكية في العراق لإيران من منظور المصلحة ومن منظور مكونات المشروع الإيراني في العراق وعلى الأخص منع قيام نظام عدو لإيران في بغداد، وفرض حلفاء إيران على رأس السلطة في العراق، لكن الخلاف ثم الصدام أخذ يظهر بين إيران وأمريكا في العراق بسبب تنامى التناقض في المصالح، بعد أن أدركت واشنطن خطورة انحيازها المطلق للشيعة على حساب السنة، مما أدى أولاً إلى تنامى ظاهرة التشيع السياسى في المنطقة وصعود دور الشيعة سياسياً في الدول المجاورة، وأدى ثانياً إلى تحول السنة في العراق إلى مؤيد وداعم وحامى للمقاومة، وتحول السنة خارج العراق إلى معارضين للاحتلال الأمريكي وللمشروع الأمريكي في العراق.

وبسبب هذا الخليط أيضاً انحازت إيران إلى مشروع المقاومة في لبنان وفلسطين بدافع من التزامات إسلامية أولاً، وبوعى ثانياً بأهمية هذا الدور من أجل كسب مصداقية وشرعية للمشروع السياسى الإيراني في المنطقة الذى يهدف إلى توسيع مناطق النفوذ وخلق قوى حليفة وموالية لإيران في صراعها مع الولايات المتحدة والكيان الصهيونى، وهو صراع يعكس قدراً لا بأس به من الصراع على الزعامة الإقليمية.

المشروع الإيراني تورط بسبب هذه السياسة في صدام مع الأمريكيين منذ ولادة الجمهورية الإسلامية التي رفعت شعار العداء للأمريكيين (الموت لأمريكا) وأطلقت اسم "الشيطان الأكبر" على الولايات المتحدة. لكن الحصار والاحتواء تحول إلى سياسة مواجهة وتهديد عسكرى أمريكي وإسرائيلي بسبب مشروع إيران النووى المتهم بأنه يسعى إلى التحول إلى مشروع عسكرى وبسبب الدور الإيراني المناهض لمشروع السلام الإسرائيلي – الأمريكي (فرض الاستسلام على العرب والفلسطينيين) والدور الإيراني المناهض للأمريكيين في العراق خاصة بعد عام 2005.

وبسبب هذا الخليط أيضاً تقع إيران في ازدواجية المبادئ بين الحرص على تأكيد دورها في الدفاع عن استقلالية وحريات الشعوب والتواصل مع القوى العالمية المناهضة للإمبريالية وفي مقدمتها دول اليسار اللاتينى الجديد، وبين تورطها في ممارسات من إرث الإمبراطورية الإيرانية الشاهنشاهية التي لا تخلو من ممارسة الاستكبار التي تزعم محاربته على نحو إصرارها على الاستمرار في احتلال جزر الإمارات الثلاث، والتعنت في رفض القبول بالتحكيم الدولى لحل النزاع حول هذه الجزر، والتلويح بين حين وأخرى بتبعية البحرين للأرض الإيرانية، ناهيك عن إدارة أزمة ملفها النووى بمعزل كامل عن التنسيق مع دول الجوار الإقليمى والخليجى بصفة خاصة، الأمر الذى رجح إدراك بعض هذه الدول لإيرن كمصدر للتهديد.

وبسبب كل هذه الممارسات فإن إيران أضحت متهمة بأنها "دولة مارقة" من جانب الأمريكيين والإسرائيليين ومتهمة بدعم الإرهاب، ولذلك وضعت على رأس مجموعة دول "محور الشر" في المنطقة ضمن سياسة الاستقطاب الأمريكية الرامية إلى تمزيق النظام العربي إلى "محور للشر" يضم الدول والقوى الرافضة للمشروعين الأمريكي والإسرائيلي، و"محور للاعتدال" يضم الدول الصديقة لأمريكا والمستعدة للتعامل مع إسرائيل وإنجاح مشروع عربي للسلام يرضى عنه الأمريكيون والإسرائيليون.

المشروع الإيراني المحاصر أمريكياً وإسرائيلياً والمختلف حوله عربياً يعانى داخلياً وإقليمياً لكن رغم هذه المعاناة فإنه يتقدم ويحقق نجاحات تحسب له في العراق ولبنان وعلى صعيد البرنامج النووى وعلى صعيد تحالفاته الإقليمية خاصة مع سوريا وتركيا ومنظمات المقاومة التي يرى ريتشارد هاس في دراسة بعنوان "الشرق الأوسط الجديد" أنها سوف تلعب أدواراً مهمة في هذا النظام الذى لم يتشكل بعد.

ثالثاً: العرب والموقف من إيران كمصدر للتهديد

تشكل إيران إشكالية شديدة التعقيد في الإدراك السياسى العربي لأنها بقدر ما يمكن التعامل معها على أنها مصدر أكيد أو محتمل للتهديد بالنسبة للعرب، فإنها أيضاً تبقى شريكاً إن لم تكن حليفاً ثقافياً وسياسياً بل وحضارياً، ويبقى الاستثناء محدوداً في الإدراك السياسى الذى يرى أن إيران مصدر كامل للتهديد ولا يمكن أن تكون حليفاً أو الذى يرى إيران حليف بالمطلق ولا يمكن أن تكون مصدراً للتهديد. سبب هذه الإشكالية يرتكز في عاملين رئيسيين: العامل الأول، يتعلق بخصوصية مسألة إدراك التهديد وتعقد العوامل التي يمكن أن ينشأ معها الوعى أو الإدراك للتهديد. والعامل الثانى، يخص السياسة الإيرانية التي تميل إلى المزج بين ما يمكن اعتباره تهديداً وما يمكن النظر إليه على أنه سياسات تعاونية.

فبالنسبة للعامل الأول الخاص بالتعقيدات الشديدة التي تحيط بعملية إدراك التهديد يمكن إرجاعه إلى الدور شديد الأهمية الذى يلعبه التهديد أو بمعنى أصح إدراك التهديد في تحديد أنماط التفاعل بين الدول، هل هى أنماط تفاعل تعاونية أم صراعية أم هى تفاعلات تقع على مسافات متباينة بين التعاون والصراع، وبناءً على هذا الإدراك تتحدد رؤية دولة لدولة أخرى وللعلاقات معها هل هى صداقة أم عداوة أم تنافس؟.

 ويتوقف إدراك دولة ما للتهديد من دولة أخرى على عوامل كثيرة بعضها يخص الدولة المعنية ذاتها منها نوع وثقافة القيادات المسؤولة عن قرارات السياسة الخارجية والأمن الوطنى، وخبراتها السابقة بسلوك الدولة الأخرى مصدر التهديد. كما تلعب الأصول الاجتماعية والاقتصادية لهؤلاء القادة، والطريقة التي وصلوا بها إلى السلطة، وديمقراطية أو شمولية نظام الحكم، وبالتحديد ما يتعلق بمدى شرعية الحكم وتداول السلطة، والحالة العامة للأوضاع السياسية داخل الدولة من ناحية الاستقرار أو عدم الاستقرار، أدواراً كبيرة في مستوى وكيفية إدراك التهديد.

كما تتوقف عملية إدراك التهديد أيضاً على عوامل كثيرة بالدولة مصدر التهديد وأنشطتها المختلفة، منها نوع الحكم في تلك الدولة ومدى تجانسه أو تعارضه مع نظام الحكم في الدولة المعنية المعرضة للتهديد، ومدى قوة هذه الدولة وأنواع القوة التي تمتلكها عسكرية أم اقتصادية أم ثقافية، وكيفية إدارتها لهذه القوة، هل اعتادت توظيفها بشكل عدائى أم تعاونى، كما تتوقف أيضاً على مدى وجود نزاعات حدودية أو تاريخية، وعلى ميل الدولة مصدر التهديد إلى تشكيل تحالفات عسكرية مع دولة أو دول أخرى صديقة أو معادية للدولة المعنية، ويتوقف أيضاً على لجوء أو عدم لجوء قيادات تلك الدولة إلى إطلاق تصريحات عدائية مباشرة وممارسة أنشطة عدائية صريحة.

كذلك يتوقف إدراك التهديد وكيفية ووسائل وأدوات الرد عليه على نوع هذا التهديد، وتكتسب التهديدات أولوياتها حسب تدرجها في نوع ومستوى الخطر الذى توحى به: هل هى تهديدات عسكرية أم سياسية أم اقتصادية أم ثقافية أم اجتماعية، أم هى خليط متنوع من بعض أو كل هذه الأنواع من التهديد.

 وهنا تلعب خصوصية نظام الحكم في الدولة المعنية أي المعرضة للتهديد، من ناحية كونه ديمقراطياً أم شمولياً، وحالة الاستقرار أو عدم الاستقرار السياسى، ومستوى إدراك النظام لشرعيته دوراً مهماً في الاستجابة أو عدم الاستجابة، وفي إدراك أو عدم إدراك تلك الأنواع المختلفة من التهديدات.

وعلى الرغم من كل هذه العوامل الداخلية والإقليمية التي تتحكم في عملية إدراك التهديد بالنسبة لدولة من الدول في علاقاتها مع دولة أو دول أخرى، فإن العامل الخارجى، أو ما يسمى بدور القوى الخارجية يلعب دوراً أساسياً ومؤثراً جداً في إدراك دولة ما للتهديد من دولة أخرى في الإقليم الذى تنتمى إليه أو من خارجه.

 فكما هو معروف فإن شؤون النظم الإقليمية وتفاعلاتها ليست حكراً على الدول ذات العضوية المباشرة بها، فهناك دول من خارج الإقليم لها نفوذ وتأثير قد يفوق نفوذ وتأثير أي دولة من أعضاء النظام، على نحو ما يحدث بكثافة في تفاعلات النظام العربي ومن ثم تشكيل الوعى بإدراك أو عدم إدراك التهديد.

وبالنسبة للعامل الثانى الخاص بإيران فإن سياسة الجمهورية الإسلامية الخارجية التي ترتكز على ركيزتى المصلحة الوطنية والأيديولوجية الإسلامية ضمن إطار من الإرث التاريخى الإمبراطورى وأفق من التطلع للقيام بدور الدولة الإقليمية المهيمنة تجعل من الصعب التعامل مع إيران كمصدر للتهديد بالمطلق أو النظر إليها كحليف بالمطلق نظراً لأن التزام إيران بسياسة الموالاة للمستضعفين والعداء للمستكبرين (مبدأ التبرى والتولى) يدفع إيران كما سبق وأشرنا إلى التورط في سياسات ومواقف عدائية أحياناً ويجعلها أيضاً حريصة على مد جسور المودة والتعاون في الوقت نفسه، الأمر الذى يحدث قدراً لا بأس به من الإرباك في الإدراك السياسى العربي (إيران هل هى قوة إسلامية مضافة أم هى قوة طائفية تعبر عن التطلع للتمدد والهيمنة، هى هل قوة معادية للغرب والصهيونية، أم أنها يمكن أن تكون حليفاً محتملاً لهذه الأطراف ضمن صفقة تاريخية يدفع ثمنها العرب).

لكل هذه الأسباب بات مستبعداً الحديث عن إدراك عربي واحد لإيران وما تمثله بالنسبة للعرب والنظام العربي، بل أضحى ضرورياً الحديث عن إدراكات عربية متعددة لإيران، إدراكات ليست فقط متعددة بل ومتباينة وأحياناً متناقضة تمتد بين ما هو أقصى عداوة وتمتد إلى ما هو أقصى صداقة وفقاً للنموذج الذى صاغه بارى بوزان Barry Buzan الذى تحدث فيه عن محور "العداوة – الصداقة" Emites – Aamuty Axis   فيما يشبه تدرج ألوان الطيف على النحو الذى تحدث عنه كل من كانتورى وشبيجل ووصفاه بـ "طيف العلاقات" The Spectrum of Relations.

هذه الإدراكات العربية المتعددة والمتباينة لإيران لا تقتصر فقط على مستوى إدراك الدول العربية بل تمتد إلى إدراك النخب العربية وإدراك الرأي العام. ففي الوقت الذى ترى فيه حكومات عربية أن إيران مصدر للتهديد، ترى فيه نخب عربية أن إيران على العكس هى دولة صديقة بل وشقيقة للعرب، وقد تتنوع مواقف الرأي العام بين هذين الإدراكين. الأكثر من ذلك أن التعدد في الإدراكات يأخذ أحياناً تنوعاً في الإدراك الواحد، بمعنى أن دولة عربية قد ترى أن سياسة إيرانية ما تعتبر تهديداً في حين لا ترى في سياسة إيرانية أخرى تهديداً. فعلى سبيل المثال قد ترى دولة عربية أن استمرار احتلال إيران للجزر الإماراتية الثلاث تهديد في حين لا ترى أن المسعى الإيراني لامتلاك برنامج نووى يعتبر تهديداً.

 كذلك ينقسم الإدراك العربي للدور الإيراني في العراق وفي لبنان، لكن من يرفض الدور الإيراني في العراق قد يؤيد الدور الإيراني في لبنان، وهناك من يرفض إيران بالمطلق، ولعل في دراسة مستقلة للإدراك العراقى واللبنانى والفلسطينى لإيران يمكن أن نقدم نموذجاً مهماً لمستوى التعقيد الذى يتعلق بهذا الإدراك خصوصاً إذا أخذت مثل هذه الدراسة بتحليل مقارن لهذا الإدراك على مستوى النخب الحاكمة، ومستوى النخب المثقفة، ومستوى الرأي العام. فمثل هذه الدراسة ستقدم لنا خليطاً متنوعاً من الإدراكات التي قد تبدو شديدة الغرابة بسبب التباين الشديد في الرؤى ليس فقط بين المستويات التحليلية الثلاث بل وأيضاً داخل كل مستوى من هذه المستويات.

هذا التعدد والتنوع في الإدراك العربي لإيران الذى يمتد بين أقصى عداوة وأقصى صداقة يفرض نفسه في الوقت الراهن كواقع، أو كأمر واقع لأسباب أخرى كثيرة منها:

1- أن واقع التقسيم والتجزئة للوطن العربي الذى فرض وجود 22 دولة عربية تحظى بعضوية النظام العربي ومنظمته الإقليمية (جامعة الدول العربية) حال دون وجود إدراك عربي واحد لإيران في ظل تنوع المصالح بين الدول العربية إلى درجة التباين وأحياناً التناقض، وتعدد وتباين التحالفات والعلاقات بين هذه الدول وإيران، وبين هذه الدول والقوى الدولية والإقليمية التي تتشابك في صراعات مع إيران.

2- هذا الانقسام الذى حال دون وجود إدراك عربي واحد للأمن القومي العربي ومصادر تهديد هذا الأمن قام بدور مهم في تباين إدراك الدول العربية لإيران، فقد كشفت دراسة حديثة بعنوان "تهديدات الأمن القومي العربي" أن الوطن العربي ينقسم إلى خمسة أقاليم فرعية لكل منها بيئتها الجيوستراتيجية الخاصة التي تؤثر بقوة على رؤيتها الأمنية وإدراكاتها لمصادر التهديد هى: إقليم المشرق العربي، وإقليم الخليج، وإقليم البحر الأحمر ووادى النيل، وإقليم القرن الأفريقى، وإقليم شمال أفريقيا.

 كما كشفت هذه الدراسة أن تنوع وتباين البيئة الجيوستراتيجية لكل نظام أمنى فرعى عربي أفرز تنوعاً وتبايناً في إدراك مصادر التهديد لكل نظام فرعى من هذه الأنظمة الخمسة. ومن بين هذه الإدراكات المتنوعة لمصادر التهديد، تباين إدراكات كل نظام أمنى فرعى عربي لإيران كمصدر للتهديد.

 فإيران تحتل المرتبة الثالثة كمصدر للتهديد في إقليم المشرق العربي بعد الإرهاب وأدواته، وتهديد الاختراق الإمبريالى المتمثل بالوجود الأمريكي الاحتلالى في العراق، والحضور الأمنى في الخليج، وبعد إيران تأتى إسرائيل، ثم التهديد البيئى وأخيراً التهديدات الداخلية. وفي إقليم الخليج جاءت إيران في المرتبة الأولى وخاصة برنامجها النووى، وبعدها التهديد الناجم عن تفاقم الوضع في العراق، ثم الإرهاب في المرتبة الثالثة، وبعده، التهديد الناجم عن الوجود العسكرى الأمريكي وعن الصراع الأمريكي – الإيراني على النفوذ في الخليج، وأخيراً التهديد الناجم عن الهجرة الأجنبية في الخليج. وهنا نلحظ، حسب الدراسة، غياب إسرائيل كمصدر للتهديد بالنسبة لإقليم الخليج.

أما إقليم وادى النيل والبحر الأحمر فإن إيران لم ترد كمصدر للتهديد حيث ضمت مصادر التهديد لهذا الإقليم أربعة مصادر هى على الترتيب: التهديد الذى يعانى منه السلم الأهلى والوحدة الوطنية (السودان والصومال نموذجان)، ثم التهديد الناجم عن التدخل الخارجى في الخيارات الوطنية (الأمريكي على وجه التحديد)، ثم التهديد الإسرائيلي، وأخيراً طموحات أثيوبيا المثيرة للقلق. أما مصادر التهديد لإقليم شمال أفريقيا فتتركز في التهديد الإرهابى والتهديد الموجه للسلم الأهلى. وهنا نلاحظ غياب إدراك إيران كمصدر للتهديد، كما غابت إسرائيل هى الأخرى كمصدر للتهديد.

3- اشتباك إيران مع العرب بحزمة متنوعة من القضايا الخلافية التي تحول دون وجود إدراك محدد بعينه لإيران وتفرض الالتباس في الإمساك بمثل هذا الإدراك حيث تفرض إيران نفسها أحياناً كمصدر للتهديد (في العراق والخليج) وحيث تفرض نفسها أحياناً كدولة صديقة بل وحليفة (العلاقة الإيرانية مع حزب الله والعداء الإيراني لإسرائيل).

4- تفاقم حالة الاستقطاب العربي بسبب حالة التبعية العربية غير المسبوقة للولايات المتحدة في وقت تخوض فيه الولايات المتحدة صراعاً مريراً ضد إيران وتدفع الدول العربية للدخول كطرف أساسى فيه. فالمشروع الأمريكي للشرق الأوسط الجديد الذى كشفت عنه وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس أثناء الحرب الإسرائيلية على لبنان صيف 2006، ثم لقائها في نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة مع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجى ومصر والأردن، كان بداية لفرض استقطاب إقليمى جديد بين محور للاعتدال يضم الدول العربية الست الصديقة للولايات المتحدة وبالتحديد (دول مجموعة 6+2)، ومحور آخر للشر يضم إيران وسوريا وحزب الله اللبنانى وحركتى حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين.

هذا الاستقطاب الذى أرادته واشنطن كشف الرئيس الأمريكي جورج بوش عن قاعدة الفرز الأساسية فيه وهى: التحالف أو الشراكة مع إسرائيل والعداء لإيران. بوش طالب الدول العربية الالتزام بهذا التوجه أثناء زيارته للمنطقة في يناير 2008 وجدد هذا الطلب في زيارته لها مرة أخرى في مايو 2008 على هامش مشاركته في ما سمى بـ "العيد الستينى لتأسيس دولة إسرائيل"، حيث ركز على وصف إيران بأنها المصدر الأساسى للإرهاب ولدعم الإرهاب في العالم. فقد وصف بوش إيران بأنها "أكبر دولة راعية للإرهاب في العالم" وقال أن "السماح لها باكتساب أكثر أسلحة العالم فتكاً سيكون خيانة للأجيال في المستقبل لا يمكن غفرانها".

وذكرت مصادر في مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي، حسب إذاعة الجيش الإسرائيلي، أن زيارة بوش لإسرائيل (مايو 2008) أفضت إلى "نتيجة محورية" تتمثل في "التوافق على ضرورة القيام بعمل ملموس" ضد إيران، وأن بوش قال أنه "يتوجب معالجة جذرية لمشكلة إيران وأن يكون لهذه المعالجة انعكاسات إيجابية على المنطقة برمتها وتؤدى إلى تغير في نمط أداء حزب الله وحماس".

خلفيات هذا التوجه الأمريكي كشف عنها "سيمور هيرش" الصحفي الأمريكي المرموق الذى سبق أن كشف حقيقة التورط الأمريكي في الحرب التي شنتها إسرائيل على لبنان في صيف 2006. هيرش كشف هذه الخلفيات في محاضرة مهمة له في القاهرة بدعوة من مؤسسة محمد حسنين هيكل، ثم عاد ونشر ما قاله في دراسة مهمة بمجلة نيويوركر، أعادت صحيفة السفير اليبروتية نشرها كاملة في 26 فبراير 2008.

جوهر هذا التوجه أن الولايات المتحدة وضعت استراتيجية جديدة للمنطقة انطلقت من إعادة تقييمها للتطورات التي شهدتها، واستخلص منها المحللون الأمريكيون أنهم يواجهون خطرين أحدهما يهدد استمرار الهيمنة الأمريكية على النفط العراقى، كما يؤثر على نفوذها في العالم العربي، والثانى يهدد الحسابات الإسرائيلية ويخل بتوازن القوى في المنطقة.

واعتبر أولئك المحللون أن إيران هى المصدر الأساسى للخطرين، وبالتالى فإن هدف السياسة الجديدة هو توجيه ضربة لها تستهدف إضعافها وتركيعها من خلال الاستراتيجية التي أطلق عليها اسم "إعادة التوجه"، أو "إعادة النظر في الأهداف"، وتم الانتهاء منها في أواخر عام 2006، ووصفها مستشار حكومى أمريكي له علاقات وثيقة مع إسرائيل بأنها، أي هذه الاستراتيجية الأمريكية الجديدة "تعتبر تحولاً رئيسياً في السياسة الأمريكية.. إنها بحر من التغييرات"، لكن أهم ما في هذه الاستراتيجية هو تلك الإدراكات الأمريكية الجديدة لإيران كمصدر للتهديد كما نقلها هيرش وما قاله بأن دولاً عربية ليست فقط على اتفاق كامل مع الأمريكيين في هذا الإدراك بل إنها تدفع به وتغذيه.

هذا الإدراك يقول أولاً أن إيران أصبحت أشد خطراً على المنطقة من إسرائيل وأن التهديد الإيراني، بما قد يصحبه من انبعاث شيعى، يفوق ما يمثله المتطرفون من أهل السنة الذين هم الأعداء الأقل شأناً (تنظيم القاعدة). هذا يعنى أن الإرهاب والحرب الدائرة ضده لم تعد بالأساس ضد تنظيم القاعدة وحلفائه بل ضد إيران والانبعاث الشيعى.

ويقول ثانياً أن مواجهة هذا الانبعاث أو "الخطر الشيعى" وما أخذ يعرف بـ "الهلال الشيعى" يجب أن يواجه بتأسيس "هلال سنى" يتسع لضم دولاً عربية إقليمية سنية مثل تركيا وباكستان إلى جانب دول "مجموعة 6+2" العربية أي دول مجلس التعاون الخليجى الست ومصر والأردن.

الملفت للانتباه هنا، أن إسرائيل دخلت على الخط وأعلنت على لسان وزيرة خارجيتها (السابقة) تسيبى ليفنى أنها تسعى للتحالف مع "الدول السنية" أو "الحلف السنى" في المنطقة لمواجهة الخطر الإيراني و"الهلال الشيعى".

مجمل هذه التوجهات الأمريكية – الإسرائيلية بمشاركة أطراف عربية أخذت تدفع بفرض حالة جديدة من الاستقطاب الإقليمى بين محورى "الاعتدال" و"الشر" أو "الممانعة" حيث أضحت إيران هى المعنية بالشر بصفة أساسية وهى المقصودة بالعداء.
لقد انخرطت دول عربية في هذه التوجهات التي أخذت تتحول إلى سياسات ولكن بدرجات مختلفة في حين حرصت دول أخرى على أن تبقى متوازنة في علاقاتها مع إيران، بينما أكدت أطراف ثالثة تحالفها مع إيران، وهى الأطراف المتهمة بعضوية محور الشر مع إيران خاصة سوريا وحزب الله وحركة حماس.

هذه المواقف الثلاث من تلك التوجهات الأمريكية الجديدة هى أولاً تعبير عن درجة انخراط دول عربية في المشروع الأمريكي الجديد في الوطن العربي، وهى ثانياً تقدم تصنيفاً دقيقاً لإدراكات الدول العربية لإيران بين موقف يرى إيران مصدراً للتهديد وموقف آخر يراها حليفاً استراتيجياً، أو على الأقل صديق يعتمد عليه، وموقف ثالث متوازن بين إدراك إيران كعدو أو كمصدر للتهديد، وإدراكها كحليف أو صديق.

 ونستطيع أن نقول أن هذا الموقف الثالث يكاد يكون الموقف الأصدق في إدراكه لإيران، فهو يمثل القطاع الشعبى العريض أولاً، ويمثل مواقف دول عربية ومؤسسات، لكنه، وهذا هو الأهم القاسم المشترك لكل المواقف العربية، بمعنى أن الدول العربية التي تدرك أن إيران مصدر للتهديد لا تلجأ في العادة إلى تعميم هذا الإدراك لكنها ترى أن إيران مصدر للتهديد في قضايا معينة، وأنها طرف صديق أو محايد على الأقل في قضايا أخرى.

 بمعنى أن الإدراكات غير ثابتة، فهى متحركة بين محورى "العداوة – الصداقة"، وأن القضايا الخلافية والمتنازع عليها هى العامل الحاسم، أي أن الإدراك يتعلق بسياسات إيران إزاء قضايا معينة أكثر من كونه إدراكاً لإيران نفسها التي تحظى بمكانة مهمة في الإدراك العربي ممتدة في أعماق التاريخ العربي الإسلامي.

اخيرا

وهكذا نستطيع أن نقول أن إيران ستظل تمثل إشكالية في الوعى السياسى العربي وفي الإدراك السياسى العربي إذا بقيت الأمور على ما هى عليه، أي إذا ما ظل الموقف العربي منقسماً داخلياً وخاضعاً لضغوط فرض الاستقطاب التي تقوم بها الولايات المتحدة، وإذا استمر الصدام الإيراني – الأمريكي، وإذا بقيت إيران مترددة في توظيف تفوقها في القوة بشكل تكافلى في إدارة علاقاتها الإقليمية وخاصة مع الدول العربية الخليجية، وإذا ما استمرت في حرصها على فرض نفوذها داخل العراق والانحياز لطرف عراقى دون الآخر. ولكن بشكل عام فإن المسؤولية تفرض الالتزام بثوابت حضارية واستراتيجية في التعامل العربي مع إيران باعتبارها، مع تركيا، "الجوار الحضارى" للأمة العربية.

فإيران تبقى مع تركيا أهم ركائز تنمية الحضارة العربية الإسلامية، لقد قامت هذه الحضارة على تلك الركائز الثلاث: العرب والفرس والأتراك، ويبقى التطلع إلى مستقبل حضارى واعد مرهوناً بتحقيق ذلك التعاون بين تلك المرتكزات الثلاث. ولن يتحقق ذلك في ظل الغياب العربي عن إدارة موازين القوى الإقليمية، فالنظام الإقليمى للشرق الأوسط يضم الآن ثلاثة قوى إقليمية أساسية هى: إسرائيل وتركيا وإيران، في ظل غيبة عربية مفزعة.

ولذلك فإنه إذا كان العرب مطالبين بالتحول إلى قوة قادرة على موازنة القوى الثلاث الكبرى في إقليم الشرق الأوسط وفرض معادلة الأمن القومي العربي على هذه القوى الثلاث فإنهم مطالبون أيضاً بإدارة علاقاتهم الإقليمية مع هذه القوى بما يحقق المصالح القومية العربية العليا، ومن هذا الإدراك فإن العرب يبقى أمامهم خيارين أساسيين:

الأول: إما تطوير مشروع تفاعلات يضم إيران وتركيا والعرب ضمن ما يعرف بـ "مثلث النهوض الحضارى الإسلامي".

الثانى: أو تطوير مشروع تفاعلات يضم إسرائيل وتركيا والعرب ضمن ما يعرف بـ "مثلث التبعية للمشروع الأمريكي"، هذان الخياران هما أبرز تفاعلات ما نسميه بـ "مستطيل صراعات الهيمنة" التي تتركز في الأنماط التفاعلية التالية:

  1. تفاعلات التعاون بين إيران وتركيا والعرب (مثلث النهوض الحضارى).
  2. تفاعلات التعاون بين إسرائيل وتركيا والعرب (مثلث التبعية للمشروع الأمريكي).
  3. تفاعلات التعاون بين إيران وتركيا وإسرائيل (مثلث الهيمنة على العرب).
  4. تفاعلات التعاون بين إيران والعرب وإسرائيل (مثلث المستحيل الحضارى).

أنماط التفاعلات الثالث والرابع مستبعدان في ظل تباعد المصالح بين أطرافهما وبالذات من جانب الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ولذلك فإن نمطى التفاعل الأول والثانى هما الأكثر واقعية وليس أمام العرب سوى حسم خياراتهم، وهنا تبدو الإشكالية الأكثر صعوبة وهى الانقسام العربي على الخيارات والمصالح بين دول تفضل التعاون مع إيران وأخرى متورطة بتعاون مع إسرائيل والولايات المتحدة، وبين خيارات دول وخيارات شعوب، ففي حين تنحاز النظم الحاكمة في بعض الدول العربية للعلاقة مع إسرائيل والولايات المتحدة، تبدو الشعوب في هذه الدول أكثر ميلاً للتقارب مع إيران.

 في حين يبقى الموقف العربي من تركيا غامضاً ومتردداً، وفي حاجة إلى حسم لن نقدر عليه إلا بإعادة إحياء تلك الكتلة التاريخية التي منها يجب أن ينطلق العمل العربي الجاد لتحقيق المصالح والحفاظ على الأمن، فهى وحدها التي تستطيع أن تحسم توجهات الخيارات الاستراتيجية العربية وأن تعيد تفعيل النظام العربي بحيث يصبح قادراً، عبر امتلاك مشروعه النهضوى، على أن يفرض نفسه كقوة فاعلة في إدارة شؤون الإقليم الأوسع عبر علاقة شراكة وتحالف مع المشروعين الإيراني والتركي، شراكة تقوم على أجندة مصالح مشتركة يمكن معها أن تعيد إحياء الحضارة العربية الإسلامية التي توارت وانزوت مع انزواء العرب كقوة حضارية قادرة على الفعل والتأثير والقيادة.