العنوان هنا
دراسات 17 يناير ، 2011

التاريخ والدين فى العلاقة بين العرب وإيران

الكلمات المفتاحية

فهمي هويدي

من أهم الكتاب الصحفيين العرب حاصل على ليسانس حقوق جامعة القاهرة. وهو مختص في الفكر السياسي والاسلامي المعاصر وشئون العالم الاسلامي والعربى. له مقال اسبوعي ينشر في مصر و 8 صحفة عربية من بينها السفير (لبنان)، الخليج (الامارات)، الوطن(الكويت)، الشرق (قطر) الشبيبة (سلطنة عمان)، السبيل (الاردن) البحرين (اخبار الخليج) عمود يومي في صحيفة «الشروق» المصرية المستقلة و ينشر فى «الشرق» القطرية، و«السبيل» الاردنية. له العديد من المؤلفات كتبا وأبحاثا في الشأن السياسي والإسلامي وهو عضو الامانة العامة للمؤتمر القومي العربي (بيروت)، عضو المؤتمر الاسلامي القومي (بيروت)، عضو مجلس ادارة "المسلم المعاصر" (القاهرة) - عضو مجلس امناء اتحاد علماء المسلمين (الدوحة).

 شاهد فيديو كلمة فهمي هويدي

رغم الانتماء إلى الدين الواحد، إلا أن تأثير المذهب والسياسة في العلاقة بين العرب وإيران ظل مهيمنا منذ القرن السادس عشر الميلادي وحتى اللحظة الراهنة. وإذا جاز لنا أن ندقق في سجل تاريخ العلاقة بين العرب وإيران، فسنجد أنها مرت بأربع مراحل هي:-

- مرحلة ما بعد فتح بلاد فارس ودخول أهلها في الإسلام، وهى التي يطلق عليها مرحلة التاريخ المشترك التي كان الدين الواحد هو القاسم المشترك الأعظم بين مختلف الأقوام التي انتسبت إلى الدين الإسلامي.

- مرحلة تحول إيران إلى المذهب الشيعي في العصر الصفوى، التي أفضت إلى التنازع والصراع على النفوذ مع الإمبراطورية العثمانية التي كانت تمثل أهل السنة وانحيازها المعلن إلى المذهب الحنفي. الأمر الذي يسوغ لنا اعتبارها تجسيدا للصراع المذهبي في المنطقة.

- مرحلة هيمنة النفوذ الغربي على إيران وتحولها إلى ساحة للصراع الدولي ثم إلى قاعدة للنفوذ الأمريكي، ومن ثم اشتباكها مع المد القومي الذي قادته مصر في الفترة الناصرية. وقد غيب دور المذهب في تلك المرحلة وبدا الصراع سياسيا خالصا.

- مرحلة تبادل الأدوار التي في ظلها هيمن النفوذ الغربي على العالم العربي في حين استقلت إيران بعد الثورة الإسلامية، التي دخل فيها الصراع إلى طور جديد، حيث كان سياسيا بحتا وغدا المذهب أحد أسلحته وأدواته. ليس ذلك فحسب وإنما كان واضحا أن طرفي الصراع ليس العرب والإيرانيون وحدهم، ولكن القوى الدولية المهيمنة صارت طرفا ثالثا فيه، ظاهرا حينا وكامنا في أحيان كثيرة. وربما كان الأدق أن الاشتباك العربي مع إيران كان اشتباكا بالوكالة عن تلك القوى الغربية المهيمنة.

ثمة لحظات ربما كان من الصعب أن نسميها مرحلةـ تحقق فيها الوفاق بصورة نسبية بين العرب وإيران، تمثلت في الأوقات التي تلاقت في ظلها المصالح الغربية بين البلدين، وكان ذلك أوضح ما يكون في زمن شاه إيران وارتباطه بالزواج من العائلة المالكة في مصر، وهى الفترة التي انطلقت فيها فكرة التقريب بين المذاهب من مصر. ثم في فترة الرئيس أنور السادات الذي كان على وفاق كبير من شاه إيران إبان سنوات حكمه.

(2)
قبل أن ننتقل إلى تفصيل هذه المراحل ولكي نحسن قراءة صحف العلاقات العربية الإيرانية، ثمة اعتبارات ينبغي أن تكون واضحة في الأذهان أوجزها فيما يلي:

- إن التاريخ حمال أوجه، بمعنى أنه يمكن أن تقرأ بعض وقائعه لكي تخدم اتجاها بذاته، كما يمكن أن تستدعى منه وقائع أخرى تعزز اتجاها معاكسا تماما.. والعبرة ليست فقط بما يقوله التاريخ، ولكنها أيضا بما نريد أن نستخلصه نحن من التاريخ. وهل نريد أن نوظفه لأجل الشقاق أم لأجل الوفاق، وما هي استحقاقات كل وجهة.

- إن الأمر لا ينبغي أن يترك للانفعالات والأهواء، كما لا ينبغي أن تحدد الوجهة المرجوة طبقا لما تقتضيه مصالح الدول الكبرى. وإنما تحديد الوجهة يجب أن يتحرى المصالح العليا للأمة، وينطلق من رؤية إستراتيجية واضحة لا تحدد الأهداف فحسب، وإنما ترتب أولويات تلك الأهداف أيضا.

وهذه الإستراتيجية لا تغفل عوامل التاريخ ممثلة في الوشائج التي تربط بين الشعوب على الطرفين، ووحدة الدين على رأسها. كما أنها لا تغفل عامل الجغرافيا المتمثل في الجوار الطبيعي، الأمر الذي يجعل من إيران ليس عمقا حضاريا للعرب فحسب «والعكس صحيح أيضا»، ولكنها تمثل عمقا استراتيجيا أيضا. ويبقى بعد ذلك السؤال: كيف يمكن أن تستثمر عناصر التاريخ والجغرافيا لصالح مواجهة تحديات الحاضر والمستقبل.

- إن منطقة الشرق الأوسط في التفكير الاستراتيجي لها ثلاثة أعمدة أساسية، تمثلها مصر وتركيا وإيران، والوفاق بين هذه الدول يفتح الباب واسعا للنهوض بالمنطقة بأسرها، في حين أن الشقاق بينها يشكل عائقا أساسيا يحول دون تقدمها واستقرارها.

- إنه ليس مطلوبا إنهاء كل خلافات بين العرب وإيران لكي يستقيم التعاون بينهم، ولكن المطلوب توفير قدر من الثقة بين الطرفين يسمح بإدارة الخلافات بأسلوب سلمى وحضاري، حتى لا تتحول إلى صراعات.

- إن أحدا لا يستطيع أن يحسب كل شيعة المنطقة العربية على المربع الإيراني. لأن واقع الحال ليس كذلك بالضرورة. ومن المهم للغاية أن تتعامل الأنظمة العربية مع الشيعة الذين يعيشون تحت مظلتها باعتبارهم مواطنين لهم جميع حقوق المواطنة في أقطارهم، لأن الانتقاص من حقوقهم أو تعريضهم للاضطهاد يدفعهم دفعا إلى الاحتماء بمظلة المذهب في إيران. وهذا التحليل يسلط الضوء على أهمية الدور الذي يمكن أن تلعبه الديمقراطية في تكريس حقوق المواطنة وتعزيز السلام الأهلي والاجتماعي في كل قطر.

- إن الحالة الشيعية ليست واحدة في العالم العربي، فهي إن كانت لها تجلياتها في المشرق وفى منطقة الخليج، إلا أنها ليست واردة ولا وجود يذكر لها في مصر أو في دول المغرب العربي.

- إن تمدد الدول أو تقلص نفوذها ليس منوطا بإرادة الدولة وتطلعاتها فحسب، ولكن تفاعلات البيئة الإقليمية لها إسهامها الذي لا ينكر في دفع الدول في هذا الاتجاه أو ذاك. فالفراغ الحاصل في الساحة العربية على سبيل المثال يغرى أي دولة أخرى بمحاولة التمدد لملأه، خصوصا إذا كانت الدول الغربية المهيمنة تتسابق في ذلك، فضلا عن إسرائيل بطبيعة الحال. وحين يغيب العرب عن أزمات لبنان والعراق والسودان واليمن مثلا، فإن ذلك يشكل عنصر جذب لأي دولة إقليمية أو غير إقليمية لكي تسعى إلى أن تقوم بأدوار بديلة في هذه الأقطار، تخدم مصالحها واستراتيجياتها.

- إن المصالح العربية العليا لا يخدمها فقط إبعاد النفوذ الإيراني عن الساحة العربية، ولكن يحققها أيضا إبعاد كل نفوذ أجنبي عن تلك الساحة. ولا يعقل أو يقبل أن تكون هدف الدعوة لإخراج إيران مثلا هو إخلاء الساحة للنفوذ الغربي والاختراق الإسرائيلي. ولا ينبغي أن يكون السؤال منصبا على الاختيار بين التحالف مع إيران أو التحالف مع الأمريكيين والفرنسيين والإسرائيليين، لأن ذلك سيكون في صالح التحالف الأول، على الأقل من حيث إنه سيكون سندا للعرب في سعيهم لمقاومة الهيمنة الغربية والتحدي الإسرائيلي.

- إن الصيغة المثلى لكبح جناح المخاوف والأطماع، سواء كانت إقليمية أو دولية، تتحقق باستقلال وتحرير الإرادة السياسية أولا، وبتقوية الذات سياسيا واقتصاديا وعسكريا ثانيا. وفى حالة الأمة العربية بوجه أخص فإن الوحدة، أيا كانت صيغتها، هي سبيلها إلى المنعة فضلا عن أنها من أهم مقومات تقوية الذات والثبات في مواجهة التحديات.

(3)
التاريخ المشترك: المقصود بالتاريخ المشترك هو تلك الفترة التي تعايش فيها العرب والفرس على اختلاف مواقفهم المذهبية في ظل دولة واحدة، مما مكن الطرفين وغيرهما من مكونات المجتمع الإسلامي من الإسهام في بناء الحضارة الإسلامية. جدير بالذكرى في هذا الصدد أن خلية تشكلت في الإسلام كانت جامعة لتلك المكونات، حيث ضمت في العهد النبوي كلا من صهيب الرومي، وبلال الحبشي، وسلمان الفارسي. ساعد على ذلك أن العروبة في المفهوم الإسلامي المبكر كانت لغة وليست عرقا. بمعنى أن كل من نطق بالعربية اعتبر عربيا. وهو ما عبر عنه الحديث النبوي الذي يقول ما معناه (ليست العربية منكم بأب وأم، ولكنه اللسان).

وبطبيعة الحال فإن التاريخ المشترك أرسى أساس الوجدان المشترك. الذي استمر رغم انفراط عقد الدولة وظهور الكيانات الشيعية إلى جانب أهل السنة. إلا أنه بوسعنا أن نقرر بأن مرحلة التاريخ المشترك استمرت طوال القرون التسعة الأولى من عمر الدولة الإسلامية.

إذ تسجل المراجع التاريخية أن الفتح الإسلامي للهضبة الإيرانية بدأ بمعركة جلولاء (16هـ/٦٣٧م) بعد أقل من عام على معركة القادسية، التي أوقع فيها الفاتحون المسلمون هزيمة كبرى بالساسانيين، إلا أنهم لم يستسلموا وظلوا يناوشون حتى احتاج المسلمون إلى ثماني سنوات قبل أن يبسطوا سلطانهم على المجال الساسانى، وبمضي الوقت تداخل العرب مع الفرس الذين انتقل بعضهم إلى الإسلام، حتى تسجل المراجع التاريخية أن أعدادا كبيرة منهم التحقت بالإسلام خلال مرحلتي الخلافة الراشدة والخلافة الأموية. كما أن العرب الذين استوطنوا مناطق مثل خوزستان وخراسان أخذوا في التزاوج مع السكان الأصليين.

خلال تلك الفترة برز عدد غير قليل من علماء المسلمين من ذوى الأصول الفارسية، وكان لهم دورهم في مختلف العلوم والفنون، من أمثال البخاري، ومسلم، وسيبويه، والخليل بن أحمد، والطبري، والبيروني، وابن سينا، والغزالي، والفارابي، والفخر الرازي، وغيرهم ممن يعدون من مفاخر الحضارة الإسلامية وأعلامها.

استمرت سنوات العيش المشترك طوال تسعة قرون، انقطعت بعدها المسيرة بقيام الدولة الصفوية في إيران (906هـ ـ 1500م) وإعلانها المذهب الشيعي الإمام مذهبا رسميا للدولة عام 907هـ ـ 1501م.

(4)
انقسام الأمة بين الشيعة والسنة: تلقت وحدة الأمة الإسلامية ضربة قاصمة بقيام الدولة الصفوية الشيعية واشتباكها مع الدولة العثمانية التي باتت تصنف بحسبانها زعيمة المعسكر السني. وكانت الضربة من شقين، أحدهما تمثل في الانقسام والتحارب انطلاقا من الاختلاف حول المذهب، والثاني الذي لا يقل أهمية تمثل في أن الاحتراب أضعف الطرفين ويسر للاستعمار الغربي سبل السيطرة على كثير من الدول الإسلامية والتدخل في شئونها. وساهم في إيجاد العديد من المشكلات التي لايزال بعضها قائما حتى الوقت الراهن. فيما صار يعرف لاحقا بمشكلات الشرق الأوسط.

ظلت نيران الحرب بين الصفويين والعثمانيين مستعرة طوال قرنين من الزمان. ذلك أنه حين تحولت إيران إلى التشيع الصفوى في القرن العاشر الهجري «السادس عشر الميلادي» كانت الدولة العثمانية في أوج قوتها، الأمر الذي مكنها من بسط نفوذها على بلاد البلقان، إذ خضع لها اليونانيون والرومانيون والبلغار والصقالية والألبان. وتوغلت جيوشها بقيادة السلطان سليم الأول في وسط أوروبا، فسيطرت على المجر ودخلت أراضى النمسا، وطرقت أبواب عاصمتها فيينا، ولكنها توقفت عندها ولم تستطع الاستيلاء عليها.

عندما قامت الدولة الصفوية الشيعية في إيران رأى العثمانيون في قيامها خطرا يهدد دولتهم من الشرق، ونظروا إلى ذلك الخطر نظرة جدية فصمموا على القضاء عليه قبل القيام بأي عمل آخر، وهكذا تحولت وجهة العثمانيين من الغرب إلى الشرق، وارتدوا بأبصارهم إلى آسيا بعد أن كانوا يتطلعون بها إلى أوروبا الوسطى.

كان إسماعيل الصفوي بعد قيام الدولة الصفوية في أذربيجان، قد واصل الزحف على أقاليم إيران المختلفة في الوسط، والجنوب، والشرق، وتمكن في خلال اثني عشر عاما من السيطرة على سائر أنحاء إيران، وغير مذهب الإيرانيين المسلمين من المذهب السني إلى المذهب الشيعي بالإقناع تارة، وبالضغط والإكراه تارة أخرى، وبعد أن استتب للشيعة الأمر في إيران، بدأوا يفكرون في غزو العراق للسيطرة على الأماكن الشيعية المقدسة في تلك البلاد، حيث توجد قبور عدد من أئمة الشيعة مثل على بن أبى طالب، وابنه الحسين، وموسى الكاظم (رضي الله عنهم)ـ مما زاد من خشية العثمانيين منهم، لأن استيلاءهم على العراق يهدد الدولة العثمانية السنية من الشرق ومن الجنوب.

إزاء ذلك نظر العثمانيون إلى الصفويين نظرة عدائية، وبادل الصفويون العثمانيين نفس النظرة، فعدوهم خطرا جسيما يهدد الشيعة ودولتهم الفتية. من ثم أصبح اشتعال نيران الحرب بين المعسكر الشيعي بقيادة الصفويين والمعسكر السني بقيادة العثمانيين أمرا لا مفر منه.

بدأت الحروب بين الشيعة والسنة في عام 920هـ (1514م) حين اشتبك الطرفان في معركة عنيفة بالقرب من «جالداران» في ديار بكر، ومكان المعركة يدل على أن كلا من الطرفين قد تحرك من بلاده لغزو بلاد الطرف الآخر، ولهذا تقابلا في منطقة وسط بين إيران وتركيا، مما يؤكد عزم كل منهما على قتال الآخر.

انتهت معركة «جالداران» بانتصار السلطان سليم الأول على الشاه إسماعيل الأول، انتصارا ساحقا أدى إلى تمزيق جيشه، وتفريق جنده ،وهربه إلى تبريز عاصمة ملكه، فغنم سليم الأول مغانم كثيرة، وواصل الزحف حتى دخل تبريز عاصمة الصفويين بينما هرب إسماعيل الأول إلى وسط إيران.

كان من المتوقع أن تؤدى هزيمة الصفويين النكراء في موقعة «جالداران» إلى سقوط دولتهم وزوال الصبغة الشيعية من إيران وعودتها إلى العالم السني، ولكن هذا الأمل لم يتحقق للعثمانيين لأنهم دخلوا عاصمة الصفويين في فصل الخريف، وهو فصل انتشار مرض الملاريا في منطقة أذربيجان، وهو من الأمراض الخطيرة فى تلك البلاد، وقد أصيب عدد كبير من جنود العثمانيين بهذا المرض، ثم حل فصل الشتاء القارس على سليم الأول وجنوده، فآثروا الانسحاب من الأراضى الإيرانية، فنجت الدولة الصفوية من السقوط، وبقيت الصبغة الشيعية غالبة على الإيرانيين، وظلت العداوة قائمة بين المعسكرين السني والشيعي.

استمرت نيران الحرب مستعرة طوال سنوات حكم الصفويين، الذي انتهى في عام 1148هـ ـ 1735م. ولم يكن ذلك أسوأ ما في الأمر. لأن الذي لا يقل سوءا أن الشاه عباس الصفوى «1038هـ ـ 1629م» لجأ إلى الاستعانة بالأجانب والتحالف معهم ضد العثمانيين. فاستعان باثنين من الخبراء الانجليز في تدريب الجيش الإيراني وتسليحه بإنشاء مصنع لإنتاج المدافع.

 وتوثقت علاقاته بالانجليز فمنحهم بعض الامتيازات التجارية في منطقة الخليج، مقابل التحالف العسكري معه ومساندته في مواجهة العثمانيين. وكانت تلك بداية انفتاح إيران على الغرب وتمدد نفوذه في سياستها الداخلية، وهو الخط الذي ظهر أثره بعد وفاة عباس الصفوى وظهور طبقة من الملوك الضعفاء والعاجزين، الأمر الذي أغرى روسيا القيصرية بالزحف على الأراضي الإيرانية، واحتلال السواحل الغربية والجنوبية لبحر قزوين. وقد استمرت التقلبات السياسية حتى برز أحد أبناء طائفة "الافشار" الشيعية في الساحة «نادر قلى» ونجح في أن يمسك بزمام الأمور ويوحد البلاد.

 الأمر الذي أهله لأن يصبح قائدا للجيش الصفوى ثم وصيا على العرش. فعزل آخر ملوك الصفويين «عباس الثالث» الذي كان طفلا وأعلن نفسه ملكا على إيران واتخذ لقب الشاه، كما أعلن سقوط الدولة الصفوية وقيام دولة شيعية جديدة حلت محلها.

كان نادر شاه أقل تعصبا من أسلافه الصفويين، فسعى إلى توحيد الصف الإسلامي والتخفيف من هذه الخلافات المذهبية، فقتله المتعصبون، الأمر الذي فتح الأبواب لعودة التعصب والفوضى في أنحاء إيران. إلى أن تمكن القاجاريون من بسط نفوذهم والاستيلاء على مدينة طهران في بدايات القرن الثامن عشر الميلادي.

وظلت الأسرة تحكم إيران حتى الربع الأول من القرن العشرين. وخلال هذه المدة لم تتخل إيران عن عدائها للدولة العثمانية التي دب فيها الضعف، ولكن المتغيرات فى الساحة الدولية كانت قد حولت إيران إلى ساحة لصراعات وأطماع الدول الكبرى آنذاك «انجلترا وفرنسا وروسيا». الأمر الذي صرفها عن الاشتباك مع الدولة العثمانية خصوصا أنها لم تعد تشكل خطرا يتهددها.

اضطراب الأوضاع في أرجاء إيران وتوالى حكم الملوك الضعفاء والمتخاذلين من "القاجاريين"، فجر الغضب في أوساط الإيرانيين بما في ذلك رجال الجيش أنفسهم، فثارت ثورتهم في عام 1921 بقيادة أحد الضباط، (رضا خان)، الذي صار قائدا للجيش ووزيرا للحربية، ثم عين بعد عامين رئيسا للوزراء، فأطاح بأحمد شاه آخر ملوك الدولة القاجارية ونفاه إلى خارج البلاد، ثم اعتلى عرش إيران في عام 1925، وسمى نفسه رضا شاه بهلوى، وأعلن قيام دولة جديدة هي الدولة البهلوية، التي بها طويت صفحة الملكية في إيران، التي انتقلت إلى الجمهورية الإسلامية في عام 1979م.

(5)
من التحدي المذهبي إلى التحدي القومي والسياسي
: خفت حدة الصراع المذهبي بعد الدولة الصفوية، وبرز اتجاه التصالح مع أهل السنة بصورة نسبية في المرحلة القاجارية خصوصا في عهد نادر شاه، الذي كان أكثر تأثرا بالتطلعات الامبراطورية، حيث قام بمحاولة جادة لبناء أسطول إيراني في الخليج، وبسط سيطرته على البحرين في عام 1738م، واتجه بعد ذلك بخمس سنوات إلى فتح العراق حتى تمكن من الاستيلاء على الموصل والبصرة.

 وفى المرحلة ذاتها، القاجاريةـ طالبت إيران بملكية جزر الخليج في عام 1845، ودخلت في مناوشات مع حكام المنطقة إلى أن استولت في عام 1887 على ميناء «لنجه» على الساحل الشرقي للخليج. وهى المنطقة التي كان يحكمها شيوخ القواسم. وكانت تلك مقدمة لاستيلاء إيران على جزر أبو موسى، وطنب الكبرى، والصغرى، خلال عام 1903 و1904.

الدولة البهلوية ذهبت إلى أبعد في التحلل من مركزية المذهب والتأثر بالتطلعات القومية، ولا تفوتنا هنا ملاحظة أن النفوذ الغربي كان حاضرا بقوة في إيران إبان تلك المرحلة، كما أن رياح العلمانية كانت قد هبت على تركيا وأدت إلى إلغاء الخلافة الإسلامية في عام 1925 «في وقت متزامن مع تولي رضا شاه عرش إيران»، ناهيك عن أن التحدي السني الذي كانت تمثله الدولة العثمانية لم يعد قائما. وهو ما يدعونا إلى القول بأن تشيع إيران ظل ثابتا كما هو وأن نفوذ المراجع لم يتأثر وإنما زاد، لكن المذهب لم يكن عنصرا فاعلا في القرار السياسي.

 وكان زواج شاه إيران من شقيقة الملك فاروق في مصر «عام 1938» من تجليات هذه الحالة. كما أن تلك الأجواء هي التي أسهمت في ظهور فكرة التقريب بين المذاهب في مصر والتوافق الذي حدث آنذاك بين علماء السنة والشيعة، وانحياز الأزهر الشريف إلى فكرة تدريس الفقه الجعفري في مناهج الفقه المقارن، وصدور فتوى الشيخ محمد شلتوت التي نصت على أن المذهب الجعفري مما يجوز التعبد به شرعا.

ولأن الجسور كانت ممتدة بين القاهرة وطهران في ذلك الوقت، فإن ذلك سمح بزيارة قام بها الدكتور محمد مصدق رئيس الوزراء الإيراني لمصر، كما قام بزيارة مماثلة السيد نواب صفوى، رجل الدين المتمرد الذي كان زعيما لحركة فدائيان إسلام آنذاك، حيث احتفلت به القوى السياسية ورتبت له زيارة إلى جامعة القاهرة.

هذا التوافق النسبي لم يمنع التراشق الفكري بين العلماء والباحثين على الجانبين السني والشيعي، الذي تمثل في كتابات رشيد رضا وأحمد أمين وعبد الله القاسمي ومحب الدين الخطيب من جانب أهل السنة، وردود عبد الحسين أميني ومحمد حسين كاشف الغطاء وأبى الحسن الحنيزي وشرف الدين العاملي الموسوي من جانب الشيعةـ مع ذلك فإن أمثال هذه الاشتباكات لم يكن لها تأثيرها على العلاقات الدبلوماسية والسياسية بين العرب وإيران في مجموعهم.

بعد ثورة يوليو المصرية عام 1952 دخلت العلاقات العربية الإيرانية في طور جديد، ذلك أن المد القومي الذي قادته مصر الناصرية، وما استصحبه من انحياز لحركات التحرر ورفض لسياسة الهيمنة الأمريكية والدعوة إلى عدم الانحياز والعداء لإسرائيل، ذلك كله بدا متصادما مع السياسة الإيرانية التي كانت محتضنة للقاعدة العسكرية الأمريكية، الأمر الذي أدى إلى تصادم مباشر بين القاهرة وطهران، تخللته اتهامات إيرانية لمصر بالتآمر على نظامها ودعم المعارضين، في الوقت الذي انخرطت طهران فيما سمى آنذاك بحلف بغداد الذي كان موجها ضد مصر وخطها الوحدوي والقومي.

قطعت العلاقات بين مصر وإيران في سنة 1960، ثم أعيدت بعد عشر سنوات، لكنها انتعشت بشكل ملحوظ في المرحلة الساداتية التي وثق خلالها علاقاته مع الولايات المتحدة، وبالتالي فإن مساحة الاتفاق مع السياسة الإيرانية غدت أوسع بكثير من مساحة الاختلاف. حتى ذكرت إحدى الدراسات أنه في الفترة ما بين عامي 1971 و1978 تبادل المسئولون في البلدين 90 زيارة رسمية (41 منها إيرانية و49 مصرية، بمعدل 12.8 زيارة كل عام أي مالا يقل عن زيارة كل شهر).

 وفى الفترة ذاتها زار السادات إيران خمس مرات، وزار الشاه مصر ثلاث مرات، وفى المرة الرابعة جاء إليها لاجئا ومنفيا.
في كل تلك الحالات كانت السياسة هي العامل الحاسم في العلاقات المصرية الإيرانية. ولم يكن للدين أو التاريخ تأثير يذكر في مسارها.

(6)
ما بعد الثورة الإسلامية: أحدثت الثورة الإسلامية التي وقعت في عام 1979 انقلابا في السياسة الإيرانية الرسمية من ثلاث زوايا. من ناحية لأنها أعادت الدين والمذهب إلى الواجهة مرة أخرى. من ناحية ثانية، لأنها جاءت ممدودة اليد لأهل السنة وليست في عداء لهم كما كان الحال في المرحلة الصفوية.

من ناحية ثالثة، لأنها جاءت رافضة للهيمنة الأمريكية ومتحدية لها ومعادية لإسرائيل. لكن شاءت المقادير أن تظهر الثورة في الأفق في الوقت الذي هيمنت فيه الإرادة الأمريكية على العالم العربي في حين دخلت بعض دوله المهمة فيما سمى بمحور الاعتدال الموالى للأمريكيين والإسرائيليين، الأمر الذي جدد الاشتباك بين إيران وبين تلك الدول العربية المهمة. واستدعى أسلحة الخصام العرقي والمذهبي، كما استدعى مختلف مصادر التقاطع والنزاع،  فأثيرت المخاوف من التهديد الإيراني للخليج، وتم تصعيد النزاع حول مصير الجزر الثلاث. وجرى التلويح بما سمى الهلال الشيعي لاستثارة أهل السنة، وعبئت الأجواء ضد إيران على نحو سمح بالترويج للادعاء بأن العدو الحقيقي للأمة هو إيران وليس إسرائيل.

 وهى المقولة التي دفعتها واحتفت بها إسرائيل، التي أزعجها التحدي الإيراني كثيرا، وتضاعف إزعاجها حين ذاع أمر المشروع النووي الإيراني، حتى أصبح وقف ذلك المشروع وتدميره هدفا استراتيجيا رئيسيا لإسرائيل.

(7)
ما العمل الآن، وكيف يمكن أن نتعامل مع إيران باعتبارها تحديا وليس تهديدا، وهل يمكن التوصل إلى موقف عربي من إيران يحقق المصالح العليا للأمة ويخدم العيش المشترك؟ هذه من قبيل الأسئلة الصعبة. لسبب جوهري هو أن الموقف العربي الرسمي على جملته ـ بصرف النظر عن الاستثناء ـ فيه من التعبير عن مصالح القوى الأجنبية بأكثر مما فيه من رعاية للمصالح العليا للأمة.

 وحين تغيب الإرادة المستقلة ولا تكون مصالح الأمة العليا هي المنارة التي يمكن الاهتداء والاسترشاد بها، فإن الطرف العربي لا يكون مؤهلا لتحديد ما إذا كانت إيران تحديا وليست تهديدا. باعتبار أن ذلك موقف ترسمه الأطراف الأجنبية المهيمنة وليس الطرف العربي.

لقد سبق أن أشرت إلى أهمية استقلال الإرادة السياسية، والدور الذي تمثله قضية الوحدة في تبديد المخاوف وكبح جماح تطلعات الطامعين. وأضيف أن إجراءات بناء الثقة على الجانبين تحتاج إلى تفاهم وتوافق، كما أن فكرة التكامل يمكن أن تكون صيغة وسطا بين التحدي والتهديد.

 لكن كل هذه الأفكار تظل بلا قيمة إذا كان قرار العرب بيد غيرهم، وإذا كان كل أصحاب المصالح يرتعون في مختلف الساحات العربية، ولا ترتفع الأصوات إلا لإقصاء الإيرانيين وحدهم، ليس دفاعا عن الاستقلال، ولكن لكي تخلو الساحات للاعبين الغربيين لكي ينفردوا بتلك الساحات ويوظفونها لخدمة مخططاتهم ومصالحهم.