العنوان هنا
دراسات 19 أبريل ، 2023

حِبالٌ لا تحلّ ولا تربط: سياسة العلاقات التجارية السعودية - الإيرانية

مجد أبو عامر

باحث ومقرر وحدة الدراسات الاستراتيجية في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وسكرتير تحرير دورية "عمران للعلوم الاجتماعية". حاصل على الماجستير في العلوم السياسية والعلاقات الدولية من معهد الدوحة للدراسات العليا، والبكالوريوس في القانون من جامعة فلسطين. تركّز اهتماماته البحثيّة على قضايا الانتقال الديمقراطي، والحركات الاجتماعية، والدولة العربية، والدراسات الفلسطينية.

مقدمة

تخيّل أن هناك رَجلُين، يملكُ كلٌ منهما حانوتًا في السوق ذاتها. يعتمدُ كلاهما على السلعة نفسها – إلى جانبِ متفرقاتٍ أخرى مختلفة – لتشغيل حانوته وإعالة عائلته الممتدة. تاريخيًا، مالت الكفّة لصالح الأول، الذي نجحَ في جذبِ مستثمرين أغراب، وبنى علاقة وثيقة مع كِبار الزبائن الذين يرتادون السوق، من دون أن يشكّل مصدر تهديدٍ على أي مستوى لنظرائه في الأسواق الأخرى. وبينما تتكدّس براميل تلك السلعة لدى الأول ويعرضها بسعرٍ بخس لضمان تدفّق البيع، يواجه الثاني صعوباتٍ متعلقة بضعف القدرة الإنتاجية وإحجام كبار المشترين عن الشراء منه (بتأجيج وتعويض من الأول). لذا، يُفضّل البيع بسعر مرتفع، وفي وقتٍ سريع لضمان البقاء. بطبيعة الحال، يحكم السوق منطق التنافس، إلا أنه أخذ مناحي أخرى غير اقتصادية؛ فخارج السوق يعتلي كلاهما منبرين يبيعان من خلالهما البضاعة الرمزية ذاتها، لكن بنغمتين متعارضتين، متنافسين بذلك على الزعامة. وبسبب تنامي المخاوف، أخذ كل منهما ينفق على الأسلحة خوفًا من الآخر بدلًا من أن تَهنَأ عائلتاهما بالأرباح؛ مما أتاح لزعماء السوق الأوسع استغلال هذا التوتّر والتكسّب منه. ماذا لو وجد التاجران خطةً مناسبة لبيع البراميل وخطًا للتبادل التجاري في المتفرقات الأخرى، هل يُمكن لذلك أن يُخفف حدّة التنافس السوقي - الزعامي بينهما ويزيد أرباح كليهما واستقلاليته؟ وماذا لو كان اسم الأول المملكة العربية السعودية والثاني الجمهورية الإسلامية الإيرانية، هل تعطب القصّة؟

السياسة أم الاقتصاد؛ أين الصورة ومن المرآة؟ ما الذي يحكمُ العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الدول؟ هل تتحدّد من خلال العلاقات السياسية أم أنها مَن تؤثّر فيها من خلال مصالح الدول بوصفها أحد وجوه التوتّر في العلاقات مثلما نشهدُ منذ عقدين ما بات يُعرف بالحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين؟. تُخبرنا الحكمة التقليدية أنه بوجود حجم أكبر للتجارة الدولية ودرجة أعلى من الاعتماد الاقتصادي الدولي المتبادل، تميل الدول إلى أن تكون أكثر تقيّدًا في خوض النزاعات الدولية. على سبيل المثال، اعتقد الرئيس الأميركي بيل كلينتون (1993-2001) أن زيادة التجارة يمكن أن تحسّن العلاقات الصينية - الأميركية، والعلاقات الصينية مع المجتمع الدولي عمومًا. وفي حين تنفي بعض الحالات التلازم بين العلاقات السياسية والاقتصادية على المستوى الدولي، بما في ذلك حالة الإمارات العربية المتحدة وإيران، يؤكد تيار من الدراسات على العلاقة الطردية بين العلاقات السياسية وحجم التجارة الدولية، فرغم أن البنية الاقتصادية تؤثر في البنية السياسية، فإن العلاقات السياسية والمصالح الأمنية تُعدُّ محددات حاسمة للعلاقات الاقتصادية الدولية، بينما تؤثّر الحروب سلبيًا في التجارة الدولية.

بتحفيزٍ من هذه الافتراضات والتساؤلات، تهدفُ هذه الورقة إلى بحثٍ إمبريقي للعلاقات الاقتصادية السعودية - الإيرانية يُعالج ما إذا كانت العلاقات السياسية تؤثر في التبادل التجاري بينهما. فعلى مدار العقود الأربعة الأخيرة، اتخمت بطون الكتب والدراسات ببحث العلاقات السعودية - الإيرانية، سواء على مستوى أسباب التنافس الإقليمي وتطوراته أولًا، والتي اختلف الباحثون في مقاربتها، إذ هناك من يرى أن انعدام الأمن الداخلي في كلا البلدين ساهمَ في التنافس الأيديولوجي والسياسي بينهما، وآخرون ركّزوا على مدخل الصراع السني - الشيعي، أو الاقتصاد السياسي، في حين اهتمَ آخرون بدور العوامل الخارجية في الصراع بدلًا من التحليل الطائفي للصراع، وعدّه بعضهم حربًا باردة من أجل النفوذ في العالم الإسلامي. وأخيرًا، حاول آخرون تقديم اقتراحات عملية لنزع فتيل الصراع من خلال عدسة حل النزاع Conflict Resolution. وثانيًا، على مستوى الأوجه المختلفة للصراع بين البلدين، ومنها الصراع الإقليمي الذي تمثّل بصورة أساسية في سورية والبحرين واليمن وأفريقيا حتى، والحرب السيبرانية، والتنافس السعودي - الإيراني على سوق النفط، وصولًا إلى دراسة فريضة الحج بوصفها مرآةً للصراع/ الحوار.

هذا في ميزان العلاقات الدولية، لكن ماذا عن العلاقات الاقتصادية بين السعودية وإيران؟ من خلال مراجعة الأدبيات السابقة، يتّضح وجود ثغرة في دراسة العلاقات التجارية بين البلدين، وبين بلدان مجلس التعاون لدول الخليج العربية وإيران عمومًا، رغم الفرص التي قد يتيحها بحث هذا الجانب في فهم العلاقات الخليجية - الإيرانية، ورغم ما تثيره الأرقام؛ إذ وصل حجم التبادل التجاري الخليجي - الإيراني إلى 19163.5 مليون دولار عام 2017 بحسب تقديرات دول الخليج العربية، و10684.2 مليون دولار أميركي بحسب التقديرات الإيرانية. بناء عليه، علامَ يرتكز التبادل التجاري بين السعودية وإيران؟ وكم يبلغ حجمه؟ وفي أي مجالات ينحصر؟ وهل يُمكن اعتبار العلاقات الاقتصادية السعودية - الإيرانية انعكاسًا للصراع بين البلدين؟ وعلى الضفّة الأخرى، هل يساهم تعزيز العلاقات الاقتصادية في نزع فتيل التوتّر بينهما؟

تحاول الورقة الإجابة عن هذه الأسئلة من خلال تحليل سياسي - تاريخي للتبادل التجاري بين المملكة العربية السعودية وإيران، وتفسير صعود حجم التبادل أو انخفاضه بين البلدين في الفترة 2000-2020 (التي تتوفّر البيانات حولها)، وفحص مدى تأثير الاضطرابات السياسية في العلاقات التجارية بين البلدين، وبحث إن كان ثمّة دور للأبعاد الاقتصادية في تصعيد النزاع أو تهدئته. ونظرًا إلى اختلاف حجم التبادل التجاري بين الإحصاءات الرسمية لدول مجلس التعاون وإيران، تعتمدُ الورقة على أرقام دول مجلس التعاون، بما فيها السعودية، كما رصدتها اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا "الإسكوا" التابعة للأمم المتحدة، لتعدد مصادر الدول الست بدلًا من اعتماد إحصاءات دولة واحدة، مع المقارنة بالإحصاءات التي توفرها إيران كما رصدها صندوق النقد الدولي.

تقعُ الورقة في ثلاثة أقسام. يُقدمُ القسم الأول لمحةً عن العلاقات الاقتصادية الخليجية - الإيرانية، مع التركيز على أبرز المؤشرات التجارية. أما القسم الثاني، فيتطرق إلى التبادل التجاري السعودي - الإيراني منذ عام 2000، وذلك بوضع قطار التجارة على سكّة السياسة، في محاولةٍ لفحص العلاقة بين المتغيرين. وأخيرًا، يقفُ القسم الثالث عند مستقبل العلاقات الاقتصادية السعودية - الإيرانية.