العنوان هنا
دراسات 24 فبراير ، 2011

النفوذ الإيراني في العراق..الأبعاد والتحديات والتداعيات على الجوار العربي

الكلمات المفتاحية

عبدالوهاب القصّاب

عمل الدكتور عبد الوهاب القصاب باحثًا مشاركًا في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. ويمتلك خبرة كبيرة في الشؤون العسكرية والتّسلح؛ إذ وصل إلى رتبة لواء بحري ركن في القوّات المسلّحة العراقيّة، وعمل مستشارًا للشؤون البحرية لرئيس الأركان العامة العراقي، والمستشار الأقدم للبحوث والتّطوير لرئيس الأركان العامة للقوّات المسلّحة العراقيّة، وعمل أيضًا معاونًا لقائد القوّة البحرية لشؤون الإمداد. وفي المجال الأكاديمي، عمل باحثًا في مركز دراسات الوطن العربيّ في الجامعة المستنصرية، وباحثًا في مركز الدراسات الدوليّة في جامعة بغداد. وقد كان عضوًا في اللجنة الاستشاريّة لقسم الدراسات السياسيّة في بيت الحكمة في بغداد من عام 1997 إلى عام 2003، وفي قسم الدراسات المستقبليّة بين عامي 2002 و2003. أسّس القصاب مركز الزّمان للدراسات الإستراتيجية في بغداد عام 2003، ودرَّس علم الإستراتيجية لطلبة الدراسات العليا في جامعة النّهرين في بغداد من عام 1997 إلى عام 2005. وبين عامي 2006 و2010، عمل الدكتور عبد الوهاب مستشارًا للمركز العراقيّ للدّراسات الإستراتيجية في عمّان، ومركز الدراسات الإستراتيجية التّابع للقوّات المسلّحة القطريّة.

عند الحديث عن العلاقات بين العراق وإيران يضطر الباحث للخوض في تضاعيف التاريخ، ذلك أن هذه العلاقات موغلة في القدم، وموثقة بشكل دقيق منذ أن أتحف العراقيون القدماء البشرية بالكتابة. العلاقة بين السهل والجبل، بين بيئة الأنهار المعطاءة والهضبة القاحلة، كانت موجودة على الدوام، كائنا من كان يسكن هنا في العراق ما بين النهرين ومن كان يسكن هناك في أرض الجبال. 

المقدمة والخلفية التاريخية:

إن الغوص كثيرا في تضاعيف التاريخ في العلاقة بين العراق وإيران قد تغرقنا في طياتها، لذلك من المهم تحديد فترة محددة للحديث عنها والتي أضحت فيها هذه العلاقات تأخذ سمة التوتر الدائم تقريباً، للتعارض البين في مصالح القابض على السلطة في البلدين، ولحتمية تجاوز أحدهما على مصالح الآخر إذا ما رغب (أو تمكن) بفرض مصالحه كاملة. ويتبلور تناقض المصالح بشكل جلي في الفترة التي بدأت بسيطرة إسماعيل الصفوي على السلطة في إيران، ثم نجاحه في احتلال بغداد ودخولها فاتحاً عام 1509 (25 جمادى الآخرة 914 هجرية). ومنذئذ ابتدأ الصراع ولم ينته حتى الآن.لقد ظل السعي لتحقيق نفوذ في العراق، هدفاً إيرانيا دائماً رغم اندحار إيران الصفوية، إذ لم يبق الإيرانيون في العراق هذه المرة الأولى سوى أقل من 26 عاما (1509-1534)، حيث نجح العثمانيون على يد السلطان ياوز سليم في دحر جيوش الشاه إسماعيل الصفوي في معركة دعيت (جالد إيران 1514م). ويقول المؤرخون أن ياوز سليم كان بإمكانه بعد جالديران اجتياح إيران وتحطيم الدولة الصفوية إلى الأبد، ذلك أنها كانت لازالت في بدايات مشروعها الخاص بتشييع إيران، ولم يكن المشروع قد اكتمل بعد، إلا أنه اضطر إلى قطع حملته وعاد إلى اسطنبول لأسباب مجهولة، وإن قيل أن تمرداً للانكشارية -الذين هم عماد جيشه-، قد أجبره على العودة. وهنا لابد من الإشارة إلى أن العقيدة البكتاشية، التي كان يقلدها الانكشاريون تحمل في طياتها بذور التشيع[1].

لم تبق بغداد في يد الصفويون طويلاً، إذ بادر السلطان سليمان القانوني بعد أن خلف أباه على عرش السلطنة عام 1520 (بعد أن أنجز لخلفه فتح بلاد الشام ومصر وأخذ الخلافة من الخليفة العباسي الاسمي محمد المتوكل على الله تنازلاً). بعد أن اتضح للسلطان سليمان القانوني أن مراسلات جرت بين الشاه طهماسب وملك هنغاريا للحركة ضد العدو المشترك (الدولة العثمانية)، بادر بالتوجه بجيوشه صوب الشرق عام 1934 حيث دخل تبريز ومنها توجه إلى بغداد التي انسحبت منها الحامية الإيرانية، ودخلها السلطان سليمان دون قتال يوم 31 كانون الثاني ديسمبر 1934. وبعد أن أقر الحكم فيها وزار النجف وكربلاء ووزع العطايا، عاد أدراجه إلى عاصمة ملكه.

 "
الخلاف العراقي الإيراني ليس خلافاً حدوديا، فلو كان حدودياً فإن اتفاقية 1975 تكفلت بحله، لأنها أعطت إيران ما لا تمتلك ولا تستحق، متمثلا في نصف شط العرب، إلا أن الخلاف ذو بعد تاريخي، ديني، طائفي في آن واحد
"

عاد الصفويون واحتلوا بغداد في عهد الشاه عباس الكبير عام 1623 وحررها من نفوذهم السلطان مراد الرابع عام (1638م). وبعد ذلك لم تستكن السلطة الصفوية وجميع الحكومات التي أعقبتها، بل ظلت تلح في الضغط على العراق خلال مراحل زمنية محددة، يمكن إجمالها بما قامت به الأرومة الصفوية وأرومة الزنديين، التي توجهت نحو البصرة واحتلتها. وقد دخل نادر شاه إلى العراق مرتين، مرة بهدف احتلاله (1734 م) وقد صمدت أمامه بغداد والموصل ودحرت جيوشه الجرارة وهي نفس الجيوش التي سبق لها وأطاحت بإمبراطورية الهند المغولية الإسلامية، ثم دخل العراق مرة ثانية بهدف توسط باشاوية بغداد وعلماء السنة، وعلى رأسهم الشيخ عبدالله السويدي، لحسم الخلاف بين المكونين الرئيسين في جيشه الأفغاني السني والفارسي الشيعي، وعقد لذلك مؤتمر النجف الذي نتج عنه ما سمي بالمذهب الخامس (الجعفري)[2].

 وبعد فترة من الاضطرابات التي اجتاحت إيران -إثر اغتيال نادر شاه-، والتي ترسخ فيها التشيع الإمامي الاثنى عشري على يد فقهاء استوردهم شاهات الصفويين من جبل عامل بعد تردد النجف في مدهم بما يريدون، ارتقت الأسرة القجارية دست الحكم في إيران بعد أن تم القضاء على الأسرة الصفوية [3]. وكانت الأسرة القجارية كثيرا ما تسمي أحد أبناء الشاه وأقواهم  (الشاهزادة) حاكما على كرمنشاه المتاخمة للعراق، ربما لإبعاده عن عاصمة الملك التي قد يهدد فيها أباه، وحيث يمارس هنالك نفوذاً قد يدفعه إلى الغزو بين الحين والآخر، ويهدد حكومة بغداد، التي كانت حاضرة الخطة العراقية كما كانت تدعى لدى الباب العالي. وكثيراً ما كانت كرمنشاه تحرض أبناء الأسرة البابانية الكردية، التي كانت السليمانية مقراً لهم من غير الراضين عن حكم أحدهم، تحرضهم على الثورة عليه وتدخل فارس لصالح المنشقين، كما أدامت شكلاً من أشكال النفوذ في شهرزور واردلان كذلك[4].

وعندما أجبرت السلطة القاجارية على توقيع معاهدتي ارضروم الأولى والثانية (1822 و1847م على التوالي)، اختتمت المعاهدة الثانية الصراع الساخن بين العراق وإيران وتحول إلى جدل سياسي دبلوماسي/اقتصادي، وسعي نحو النفوذ كما بينا آنفا.

لقد رسمت معاهدة ارضروم الثانية خط الحدود بين العراق وإيران بالاتجاه العام الجاري حالياً، وإن خضع هذا الخط للتجاوزات بين الفينة والأخرى من قبل الإيرانيين على الأغلب، ولم يدخل العثمانيون إيران (أو مناطق النفوذ الإيرانية) إلا مرتين الأولى عندما سيطرت قوات والي بغداد على مدينة المحمرة (1839م)، والمرة الثانية إبان الحرب العالمية الأولى عندما دخل (الأمير الآي) علي إحسان باشا إيران لدحر الروس، الذين قدموا لرفع الضغط عن البريطانيين المحاصرين في الكوت قبل استسلامهم عام 1916. وبودنا الإشارة إلى أن أهالي همدان قد استقبلوا العثمانيين استقبالاً حافلاً[5].

وجاء بعد ذلك اندحار الدولة العثمانية وإجبارها على قبول الهدنة (1918) والتخلي عن الأقاليم غير التركية، وإكمال البريطانيين السيطرة على العراق احتلالاً (فقد كان البريطانيون جنوب الموصل بـ50 كم تقريباً عند إعلان الهدنة 1918) فتقدموا إليها واحتلوها وأحكموا سيطرتهم على حدود العراق الحالية.

وبدت النوايا الإيرانية الحديثة وأطماعها واضحة للعيان بعد تأسيس الدولة العراقية الحديثة على إثر ثورة العشرين، التي أجبرت البريطانيين إلى منح العراق استقلاله تحت الانتداب، وتسمية المغفور له الملك فيصل الأول (رحمه الله) ملكاً على العراق في 23 آب/أغسطس عام 1921. فلم تعترف إيران بهذه الدولة الحديثة إلا بعد سبعة سنوات، وسلكت الكثير من طرق الابتزاز في محاولة تأسيس موطن قدم لها فيها، تحت ذريعة حماية حقوق الجالية الإيرانية في العراق باستثنائها من التقاضي أمام المحاكم العراقية وإخضاعها لنظام الامتيازات الذي كان سائداً في الدولة العثمانية قبل الحرب.

إثر اعتراف إيران بالعراق واعتراف بريطانيا (والعالم) بالعراق دولة مستقلة في 3 تشرين الأول/ أكتوبر عام 1932، ودخوله عصبة الأمم تبعا لذلك، انطلق مسعى من الدولة العراقية -بقيادة بانيها المغفور له الملك فيصل الأول- لترميم العلاقات مع إيران، التي تحسست السلطة الحاكمة في العراق عمق أطماعها وتدخلها في الشأن العراقي، فعقدت معها ميثاق سعد آباد الذي ضم العراق وإيران وأفغانستان.

بادرت إيران في عهد رضا بهلوي إلى إثارة قضية شط العرب مع العراق، وتم التوصل إلى اتفاقية 1937، التي وسعت سيطرة إيران على خط التالوك ليشمل عدة أميال مقابل مرسى عبادان، فضلاً عن المنطقة المتاخمة لمرسى المحمرة، والمعترف بها وفق معاهدة 1913 بين الدولة العثمانية وإيران. ثم تفاقمت الأوضاع مرة أخرى، حتى تنازل العراق بموجب معاهدة 1975 عن نصف المجرى المائي لشط العرب، ووافق على اعتبار خط الثالوك كخط للحدود اعتباراً من شمال المحمرة وحتى الخليج، وهو أمر دل على قصر نظر سياسي، فضلا عن ضربه صفحاً بالحقائق المائية التي ستفاقم الوضع فيما بعد، إثرَ اقتطاع التيار المائي لشط العرب الأراضي العراقية وإضافتها إلى إيران. وتفاقمت الأوضاع مجددا بعد استلام رجال الدين للسلطة في إيران في شباط 1979، فرفعوا من وتيرة التحريض على العراق ومحاولة توظيف العامل الشيعي ضد مصلحة الوطن، إلا أن الغالبية الساحقة من الشيعة العراقيين العرب اصطفوا إلى جانب وطنهم وقاتلوا إيران في حقبة الخميني إبان الحرب العراقية - الإيرانية (1980 - 1988). وقد تم التوصل لوقف لإطلاق النار في 8/8/1988 بعد أن أجبرت سلطة الخميني بما أسماه هو نفسه "تجرع السم"، وقبول القرار 598 لسنة 1987 الصادر عن مجلس الأمن، علماً بأن إيران كانت قد نجحت في احتلال شبه جزيرة الفاو عام 1986، وجاورت الكويت عند ذلك، وبذلت عبر سلسلة عمليات كربلاء (1 - 5) جهوداً مضنية للسيطرة على البصرة بهدف الوصول إلى كربلاء[6]

آثار التهديدات الإيرانية على العراق والجوار الإقليمي العربي 

 "
بدت النوايا الإيرانية الحديثة وأطماعها واضحة للعيان بعد تأسيس الدولة العراقية الحديثة في 23 آب/أغسطس عام 1921. فلم تعترف إيران بهذه الدولة الحديثة إلا بعد سبعة سنوات، وسلكت الكثير من طرق الابتزاز في محاولة تأسيس موطن قدم لها فيها، تحت ذريعة حماية حقوق الجالية الإيرانية في العراق.
"

يتبين لنا مما ورد آنفاً أن الخلاف العراقي الإيراني ليس خلافاً حدوديا، فلو كان حدودياً فإن اتفاقية 1975 تكفلت بحله، لأنها أعطت إيران ما لا تمتلك ولا تستحق، متمثلا في نصف شط العرب، إلا أن الخلاف ذو بعد تاريخي، ديني، طائفي في آن واحد، سببه كما نرى هو أن المرجعية الشيعية العليا الموجودة في النجف، وهي الوحيدة التي تمكنت تاريخياً من تهديد الدولة الإيرانية، هددتها في انتفاضة التنباك (1891 م) وانتفاضة المشروطيه (1906 م) وتأميم النفط الإيراني مع مصدق (1953)، وعبر الانتفاضة الإيرانية التي أفضت إلى الثورة الإيرانية لوجود الخميني في العراق (1964 - 1978). وكانت هذه الثورة قد اندلعت عام (1978 - 1979). ولذلك سعت إيران على الدوام للتوغل في العراق لبسط سيطرتها على هذه المرجعية.

كما أن العراق يمثل الجسر الذي تمر عبره إيران إلى أقطار الخليج العربي، التي تعتقد أن بإمكانها ابتزازها، وقادرة على إسقاط الأنظمة في الدول التي توجد فيها جاليات شيعية ذات ثقل واضحٍ ملموسٍ، كالكويت (يمثل الشيعة أكثر من 15 % من السكان) والسعودية (أغلب المنطقة الشرقية) والبحرين (نصف السكان أو أكثر).

كما أن الدول العربية الأخرى في المنطقة ليست ببعيدة عن أطماع إيران، فالذي يرغب في دليل على ذلك، فلينظر إلى مستوى العمل الإيراني المنظم في لبنان وسوريا (تفعيل الحوزة العلمية الزينبية). ونحن نعتقد أن مثاوى الصحابة وآل البيت الأطهار أينما كانت تشكل بؤرةً تسعى إيران إلى مد نفوذها فيها (والتشرنق فيها إن اقتضى الأمر) مما يستدعي الاهتمام والانتباه والحذر. وبهذا فقد خرج التشيع بوجهه الصفوي من كونه مدرسة فقهية تجادل الآخر بالتي هي أحسن، ليتحول إلى هوية قومية لإيران، وظّفتها الجماعة الدينية المسيطرة على الحكم حالياً لصالحها. لقد صرح محمود أحمدي نجاد مؤخرا بأن هنالك تأويلات كثيرة للإسلام "إلا أن التأويل الإيراني هو أساس ممارستنا"، واستمر قائلاً أن خبرة التاريخ تثبت أن التأويل الإيراني للحقيقة هو الأقرب للحقيقة [7]

سمات العمل الدبلوماسي / الاستخباراتي الإيراني (قراءة تحليلية)

1.  إن علينا أن نفهم أولا واحدة من أبرز سمات الاعتقاد الشيعي، المطبقة في المدرسة السياسية الإيرانية وحركتها الدبلوماسية، وهي "التقية"[8]، التي تكاد أن تعتبر ركناً إيمانيا. وخلاصة التقية هي أن تظهر ما لا تبطن، ولا بأس حتى باتخاذ أشد المواقف عدوانية من أجل المصلحة الشيعية، في سبيل أن تعبر خانقاً معينا في مسيرتها. ومن يريد برهانا على ذلك فليرى كيف تتصرف إيران مع العالم في ملفاتها الشائكة المختلفة، ومنها الملف النووي، وليرى كيف تعاملت مع نظام حكم الرئيس صدام حسين بعد عام 1991، وكيف شرعت له الأبواب فخُدع بحيث سلّمها "بؤبؤ عين قوة العراق": 220 طائرة حربية بين مقاتلة وإسناد. ومع ذلك لا تزال التصريحات والتطمينات تطلق هنا وهناك، فمنها ما ينكر وجود نفوذ إيراني في العراق. والنفوذ لا يخفى على الإنسان الساذج فكيف بمن له بصر حاد وبصيرة.

 "
تمثل الجاليات الإيرانية المنتشرة في الخليج بيئة صالحة للتجنيد، كما تمثل الجالية الشيعية المسيسة -في أي مكان من الوطن العربي- نفس الوعاء الذي تنسكب آثاره على الإقليم العربي المتاخم الذي لا جاليات شيعية فيه. وحين لا تتوفر هذه الجاليات، يتولى المال بناء طبقات مستفيدة (منح، تجارة. . . . الخ) تدين بالولاء لإيران.
"

وفي هذا المجال علينا استذكار كيف تتناغم تصريحات أدوات إيران في العراق مع التصريحات الرسمية الإيرانية. ولنضرب لذلك مثلاً في تناديهم للرد المتسلسل على تصريحات أي من المسؤولين العرب حول التدخل الإيراني في الشأن العراقي، أو الحملة المتناغمة على الجوار العربي للعراق بهدف الحط من شأن هذا الجوار وتحميله وزر الكثير مما يجري في العراق اليوم.

2.  تركن إيران إلى إستراتيجية القضم والتراكم في عملها الاستخباراتي، فهي تكتفي في المراحل الأولى بأدنى النجاحات، أو اللانجاح على الإطلاق، وتعتبر مجرد الإيحاء بوجودها مكسبا في هذه الحالة، ثم تعمد إلى تراكم النتائج التي تعظمها بالمزايا المادية والمعنوية. نحن نعلم أن أسعار النفط قد جعلت لدى إيران فائضاً في العملة الصعبة، فماذا يعني صرف بضعة مليارات على استثمار إستراتيجي عملاق كما هو الحال في العراق، الذي أتيحت لها الفرصة بالدخول إليه مباشرة والاستحواذ عليه، بعد أكثر من 400 عام من إجبارها على الخروج منه، خصوصاً وأن لها أدواتها ووسائلها التي تشغلها عبر منظوماتها الاستخبارية  بكل من جيش القدس والحرس الثوري (الباسدران) وجهاز المخابرات (إطلاعات)، وهي تتولى فيما بينها قيادة وتوجيه العناصر السياسية التي تتبنى في العراق الإسلام بمدركاته الشيعية الناشئة في إيران[9].

3.  لقد شهد التاريخ فعاليات إيرانية تخريبية واضحة المعالم، عانت منها المملكة العربية السعودية في عقدي التسعينات والثمانينات من القرن المنصرم، ولا نعتقد أن إتاحة المجال لها للعمل في العراق بجدية سيكون إجراءً حكيمً لأن طريق مواصلاتها من العراق مفتوح مع كل من سوريا والمملكة الأردنية الهاشمية والسعودية والكويت. ولا ريب أن الكويت نفسها قد عانت كثيراً من هجمات إيرانية صاروخية مباشرة على البر الكويتي وعلى ناقلات النفط الكويتية إبان الحرب العراقية الإيرانية، بل إن أمير الكويت نفسه (1986) قد تعرض لعدوان إيراني.

 لقد أسست الأقلية الشيعية  لنفسها في الكويت موقعا ممتازا، كما أن بعض ذوي الأصول الإيرانية منها (وهم الأغلبية) وصلوا إلى البرلمان، وإطلالة واحدة على أسماء عائلاتهم ستميط اللثام عن هذه الحقيقة. والأمر في البحرين لا يختلف عن ذلك.

4.   تميل إيران -وعن حكمة- إلى تثبيت أعدائها الأقوياء، والتفرغ لأعدائها الضعفاء بهدف إكراههم على التسليم لها، والاستفادة من الكسب الاستراتيجي المترتب على ذلك لتعظيم قدراتها حيال الأعداء الأقوى.

5.  تمثل الجاليات الإيرانية المنتشرة في الخليج بيئة صالحة للتجنيد، كما تمثل الجالية الشيعية المسيسة -في أي مكان من الوطن العربي- نفس الوعاء الذي تنسكب آثاره على الإقليم العربي المتاخم الذي لا جاليات شيعية فيه. وحين لا تتوفر هذه الجاليات، يتولى المال بناء طبقات مستفيدة (منح، تجارة. . . . الخ) تدين بالولاء لإيران.

الخلاصة

  • هدفت هذه الورقة إلى إلقاء الضوء على النوايا والجهود الإيرانية في العراق وجواره العربي، بالسعي إلى الاستحواذ على جنوب العراق وإضافة خزينه النفطي إلى الخزين الإيراني الآيل للنضوب، ثم ممارسة ابتزاز واستحواذ مباشر على نفط الإقليم الخليجي العربي والدول المالكة له، وهي تتصرف هنا بحكم ضعف المقابل البين. وإيران -تاريخيا- كيان فضفاض يحتاج للقوة والتوسع لضبط إيقاعاته، ويستدعي التعامل معه اقتناعها بأن المقابل يتوفر على قوة موازية، عند ذلك سننتقل بعلاقاتنا بإيران من التهديد إلى الردع والتعايش.
      
  • إن المشروع الإيراني تحت حكم رجال الدين، قد زاوج بين العقيدة الدينية بتأويلها الإيراني والمشروع القومي الإيراني، ففي الوقت الذي يتحقق به المشروع القومي الإيراني بالهيمنة، نرى أن المشروع العقدي لا يكتفي بالهيمنة بل يهدف إلى تغيير الهوية والاستحواذ، وهو أمر ينبغي الحذر من.
     
  • إن استهداف إيران من قبل الغرب، هو استهداف مرحلي مصلحي، ينبغي على العرب الحذر من الوقوع في شراكه، فلا مصلحة للعرب في معاداة إيران. كما أنه لا مصلحة للعرب باستهداف إيران لصالح آخرين، بينهم أعداء العرب التاريخيين وهما الصهيونية والإمبريالية، لذلك من الضروري التحلي بنقاء البصيرة عند التعامل الحازم مع النوايا الإيرانية، بما يمنع من اصطفاف العرب مع أعدائهم لخلق عدو جديد.
     
  • كل المطلوب للتعامل مع التهديد والنفوذ الإيراني، هو اتباع سياسة الحزم المبني على الردع في سعي لإقناع إيران بأن من مصلحتها ومصلحة العراق في بناء علاقة حسن جوار وظيفية، تعتمد على الكثير من الوشائج بين البلدين الجارين، بدلاً من اللجوء إلى سياسة القضم والتراكم، في سعي أثبت التاريخ عدم جدواه وعدم إمكان صموده، فالعراق الضعيف اليوم، سيكون قوياً غدا، فلم التعويل على ما لا يمكن في حين أن الممكن أكثر جدوىً. 

---------------------------- 

  • [1] محمد فريد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، ، القاهرة ص74-75، ، في علي الوردي:لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، ، طبعة الوراق، ، لندن 2007 ص59
  • [2] للتعمق بدراسة الفتوح الصفوية وردود الفعل العثمانية يمكن الرجوع إلى: الوردي، ، المصدر السابق، محمد فريد: المصدر السابق:عباس العزاوي: تاريخ العراق بين احتلالين بغداد 1949 ج4، ولدراسة التشيع الصفوي وأثره في العراق انظر: محمد جواد مغنية: دول الشيعة في التاريخ النجف 1954جعفر محبوبة: ماضي النجف وحاضره النجف1958محسن الأمين: أعيان الشيعة طبعتي بيروت 1958 ودمشق 1936، ، وكامل مصطفى الشيبي: الفكر الشيعي والنزعات الصوفية حتى مطلع القرن الثاني عشر بغداد 1966، ، والشيبي: التقية، ، مجلة الإيمان العددين 5 و6 السنة الثانية 1956 وكتاب لمحات الوردي وكتابه الآخر:  طبيعة المجتمع العراقي. . والشيخ عبدالله نعمة في كتابه فلسفة الشيعة طبعة بيروت وهي وغيرها كانت مصادرنا في كتابة هذه الورقة.
  • [3] للاطلاع على الخلاف بين كبير مجتهدي حوزة النجف الشيعية إبراهيم القطيفي وشيخ الإسلام الصفوي الشيخ علي الكركي انظر الوردي مصدر سبق ذكره ص74 نقلا عن محسن الأمين العاملي في أعيان الشيعة.
  • [4] كانت أردلان ( منطقة كيلان غرب وسربيل زهاب ومداخل مضيق بايطاق تدخل ضمن نفوذ العثمانيين قبل انتقالها للفرس بمعاهدة ارضروم الثانية 1847
  • [5] للاطلاع على حركات الجيش الروسي في العراق إبان الحرب العالمية الأولى وقتال العثمانيين له انظر:  شكري محمود نديم:  حركات الجيش الروسي في العراق 1914-1917 بغداد 1966
  • [6] القصاب، عبدالوهاب:  احتلال ما بعد الاستقلال، ، التداعيات الإستراتيجية للحرب الأمريكية على العراق، ، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2007 الفصل الثالث ص 77-104
  • [7] انظر: Khalaji,Mahdi: A Marriage of Convenience, Majalla.com 17 November 2010
  • [8] أنظر:  الشيبي، مصطفى كامل: التقية:مقال نشر بجزأين في مجلة الإيمان عام 1956 في علي الوردي:اللمحات، ، مصدر سبق ذكره
  • [9] اشارت تقارير موثوقة من مصادر وزارتي الداخلية والدفاع العراقيتين أن عدد المليشيات المثبتة لديهم يبلغ 220 ميليشيا وعند استعراضنا لها ولوجهاتها سيتضح لنا ارتباطاتها بفيلق القدس الذي يتولى العميد قاسم سليماني ملف العراق فيه.