صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب الديني والسياسي في فكر مارسيل غوشيه: نحو تأصيل فلسفي لمسالك الاستقلالية، وهو يتألف من مقدمة وعشرة فصول موزّعة على أربعة أقسام وخاتمة. ويبحث الكتاب في فكر الفيلسوف والمفكر الفرنسي المعاصر غوشيه عمومًا، ومسألة العلاقة بين "الديني" و"السياسي" خصوصًا، ولا سيما انقسام المجتمع الغربي حيال مسألة علاقة الدين بالتنوير والديمقراطية، ونظرة العالم "غير الغربي" إلى هذين المنتَجَين الغربيَّين، وكذلك مسألة "الاستقلالية" التي وصل إليها الغرب بعد ثورات متزامنة ومتعاقبة، طارحًا في المجتمع العلمي مصطلحًا جديدًا في علوم الفلسفة والاجتماع والإنسان والسياسة هو "الأنثروبوسوسيولوجيا". ويقع الكتاب في 384 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.
لقد ألقت إشكالية العلاقة بين "الدينيّ" و"السياسيّ" في فكر غوشيه بظلالها على عالمنا لأسباب، وكان أهمَّها ما آلت إليه الحداثة في الغرب والصدمةُ التي أحدثتها في الأقطار غير الغربية. وبناءً على ذلك، بات فهم الحداثة سبيلًا لازمة لفهم المجتمعات المعاصرة واستشراف مستقبلها، وها هو غوشيه يقترح علينا أدوات لذلك في إطار مصطلح علمي ابتدعه وسمّاه "الأنثروبوسوسيولوجيا المتعالية" Anthroposociologie transcendantale. ويحاول الكتاب أن يتقصّى فحواه وأصالته، ويسعى للإجابة عن الإشكالية السالفة الذكر؛ فقد بيَّن ظروف نشأته في خضمّ النقاش الثقافي المحتدم في فرنسا خلال ستينيات القرن العشرين وسبعينيّاته بشأن البنيويّة والماركسيّة والتأويلات الجديدة للتاريخ الكونيّ، وحلّل الإشكالية في أربعة مسالك. فالمسلك الأول هو الأنثروبوسوسيولوجيا المتعالية وسؤال الدين، والثاني هو جدلية الدين والدولة، والثالث هو تداخل الدينيّ والسياسيّ في صوغ العالم الحديث، والرابع هو الأنثروبوسوسيولوجيا المتعالية واستمرارية الدينيّ؛ ما ذلّل صعوبات فهمِ ظواهر النظام الشمولي وأزمة الديمقراطية مع الدولة الدينيّة وزوايا النظر إلى العلاقة بين الدينيّ والسياسيّ.
يفترض مؤلف الكتاب الباحث عبد الرحيم البصري، أن أنثروبوسوسيولوجيا غوشيه المتعالية تُعين في فهم الذاتَين الفردية والجمعية، وفي إعادة رسم ملامح "السياسيّ" ومفعولاته في التاريخ عبر علاقته بـ "الدينيّ" على نحو يسمح بتعقّل الشرط البشريّ في بُعده الرمزيّ، ويستنُّ له قواعد عيشٍ مشترك في إطار القطائع البشرية الكبرى مع نشوء "الدولة"، وظهور "التوحيدية" والانشقاق الكنسيّ الغربيّ والديمقراطية الحديثة ... إلخ، ويبسطُ فكر غوشيه الجديد الهادف إلى إبانة مقام "الدينيّ" و"السياسيّ" في الاجتماع الإنسانيّ المنتظم حول نماذج معرفيّة تختزل تاريخًا بأكمله هي: الارتهان، والاستقلاليّة، والخروج النهائيّ من الدين، والانقسام الأصليّ، والكينونة-جمعًا؛ فهذه هي مقومات النظام الديمقراطيّ الذي يضمن الاختبار الإيمانيّ في الوجدان الذاتيّ، و"الانقسام الرمزيّ" الحرّ الموجود لدى غوشيه في قلب الأنثروبوسوسيولوجيا المتعالية، أي إنّ المجتمع البشري يتقدم في صيغة صور “Des formes” يصطنعها الوعي، وهي ثلاث. فالصورة الأولى هي الارتهان التي تفيد أن أصل السلطة السياسية خارجٌ لامرئيّ؛ زمان تحكيه الأسطورة ولن يعود، يظهر من خلال مساواة بدائية وغيابٍ للدولة، انطلاقًا من الدين الأول الباني كينونةَ مجتمعٍ تكون فيه السلطة للجميع، وهي صورة استمرت فاعلةً بعد تأسيس الدولة في سنة 3000 ق. م، تتمثل في اعتبار الدول الأولى في التاريخ "مؤسساتٍ دينيةً" يتزعّمها من يدّعون أنّهم آلهة. أما الثانية، فهي "الاستقلالية"، وهي نتاج الحداثة الغربية التي كانت - وفق غوشيه - حصيلةَ ثورات متزامنة ومتعاقبة؛ من ثورة الإصلاح الدينيّ، إلى الثورة الصناعية، وصولًا إلى الثورات السياسية التي لم تُضْحِ ذاتَ مشروعية كاملة تُستمدُّ من أسفل بتمثيل من الشعب وليس من أعلى تمثله السماء، إلا بعد الثورة الفرنسيّة. أما الوجه الآخر للحداثة لديه، هو يتمثّل في الديمقراطية، المرتبطة بموجات للحداثة: "السياسيّ"، و"الحق"، و"التاريخ"، غير أن تتويج الاستقلالية النهائية كان مع "الخروج النهائي من الدين" من خلال الفصل التامّ بين "الخصوصيّ" و"العموميّ"، والاعتراف بهويات دينيّة متباينة في الفضاء العام، لتدخل المجتمعات عصر الاستقلالية من بابه الواسع مع استحكام أيديولوجيا حقوق الإنسان في إثر كبتها في عصر الكليانية في ثلاثينيات القرن العشرين. وأما الصورة الثالثة، فهي "التداخل بين الارتهان والاستقلالية" المغطّي جزءًا كبيرًا من التاريخ البشريّ، بخلفية ما سمّاه غوشيه "نظام الواحد"، و"الواحد الجمعيّ"، و"صورة الواحد"؛ وهي تعبيرات تُعَدّ الوحدة جوهرَها، أي التداخل الذي ساهم في تسريع وتيرة "الخروج من الدين" وتحرير "الكينونة جمعًا" من "نظام الواحد"، وإنهاء توليفة (السياسيّ والحقّ والتاريخ) الديمقراطية.
يستنتج الباحث البصري من إلحاق غوشيه "الدينيّ" بالمجتمع الديمقراطيّ المعاصر أنّ المؤمنين في الغرب، في نظر هذا الفيلسوف الفرنسي، لم يعودوا يؤمنون بـ "الديني" أو يسألون أنفسهم عن جدوى الديمقراطية، بل "اعتنقوا" الحداثة أساسًا لكينونتهم، بخلاف المؤمنين غير الغربيين، الذين لا تزال علاقة ملتبسة تربطهم بالحداثة وترى فيها عدوانًا فُرض عليهم من الخارج، ويخلص إلى تبيان رأي غوشيه المتمثّل في أن الديمقراطية، على الرغم من عيوبها، لا تزال أفضلَ نظام سياسيّ ابتكرته البشرية.
تواجه "إنتلجنسيا" العالم الغربي اليوم "الشأن الدينيّ" بارتياب شديد، وخصوصًا بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 وبروز ما سُمّي "ظاهرة الإرهاب"، كما أنه يعيش حيرة تجاه عودة أنماط تفكير تاريخية دينيّة إسلامية؛ مثل "الجهاد"، و"الاستشهاد"، و"الدفاع عن الملة"، و"إقامة الشرع"، وغيرها، في حين يعاني "غير الغربيّين" صدمة الاحتلال والسيطرة العسكرية والتفوق التكنولوجيّ الغربي، وخصوصًا صدمة الهيمنة الثقافيّة على هذه المجتمعات التي عدُّوها بالمنطق نفسه "إرهابًا" مقابلًا أنتج "الأصولية" التي جعلت "الإنتلجنسيا" الغربيّة (بقسمَيها المشكّك في إمكانية التعايش مع الأديان، والعلماني على الطريقة الفرنسية المتميّز بالتفكير المتمهّل، والاستنجاد بتاريخ الفكر لفهم الحاضر، واستبدال نوع من التلاقي مع الدين بالصراع معه) تُعيد التساؤل عن أسس الديمقراطيّة الليبرالية، وخصوصًا مع بروز ظواهر، حتى في مجتمعات الغرب، تطالب بالعودة إلى نمط تنظيم "الدين" شؤون البشر. وبين هذا الفريق وذاك تمركز فريق ثالث اكتفى بالتعبير عن مخاوفه من تداعي "انبعاث الدينيّ" أو "عودة المكبوت" من دون الغوص في بحث هذه المسألة الشائكة.
يكمن تَميّز كتاب غوشيه الفلسفيّ هذا، وفكره عمومًا، في عدم نظره إلى العلاقة بين "الديني" و"السياسي" من منظورها الغربي الراهن فحسب، بل إنه رسم مسارها وتحولاتها التاريخية السحيقة حتى الوقت الراهن، ورصد انعطافات البشرية الكبرى، كما أنه لم يعتمد المجتمعَ الغربيّ وحده معيارًا. وإن كان يجعله نموذجًا أحيانًا كثيرة، فقد شمل منظورُه الفلسفيّ تاريخ النوع البشريّ، مختارًا "البنيوية" منهاجًا؛ ليس في صورتها الفرنسية، بل في صورتها النقدية الجديدة في إطار الأنثروبوسوسيولوجيا المتعالية؛ ما جعله متشعبًا جدًّا، ومقدَّمًا للاهوتيون و"علماء الاجتماع" والمؤرخين وعلماء النفس والأنثروبولوجيين، وغيرهم.
وينقسم الكتاب إلى أربعة أبواب وعشرة فصول. فالفصل الأوّل خُصص لبحث مسألة الدين في سياق التنوير والنظريات الاجتماعية انطلاقًا من أولويات "السياسي"، وخصوصًا مع "وضعانية" إميل دوركهايم و"بنيوية" كلود ليفي شتراوس، والأنثروبوسوسيولوجيا المتعالية بطبيعة الحال.
أما الفصل الثاني، فبحث تأثير نموذج إثنولوجيا كلاستر في رؤية غوشيه عن التعالق بين "الدينيّ" و"السياسيّ" في المجتمعات البدائية، والتعديل الذي أدخله غوشيه على هذا النموذج.
وفي الفصل الثالث، جرى الاهتمام بوصف غوشيه "مَديونيّة المعنى" ووظيفتها البنيويّة في المجتمع البدائي، وهي متمثّلة في جعله يتعقل ذاته في الوجود، بعد أن كان يحسب نفسه مدينًا بكل شيء إلى "الآخر الرمزيّ".
ويبيّن الفصل الرابع أنّ مجيء الدولة لم يكن اعتباطيًّا، بل إنه حدث بعد شروط متعالية على مستوى الفكر، وأنّ الدولة حررت المجتمع البشري من الارتهان ودفعته إلى تحصيل "الاستقلالية"، وأن فترة ظهور الديانة التوحيدية (المحور) ساهمت في رسم وجهة التاريخ البشريّ.
وتناول الفصل الخامس، على نحو مفصّل، الكلام عن "فترة المحور" التي مُهِّد لها في الفصل السابق.
وأما الفصل السادس، فقد اهتمّ ببحث مسألة الأصول الدينيّة للحداثة، وتفحُّص ما يُعدّ في تحليلات غوشيه دَينًا تدين به الحداثة للدين، وللمسيحية منه بوجه خاص.
ويُعنى الفصل السابع بكشف تصوّر غوشيه لمسألة الديمقراطية، وشروطها الوجودية، والإشكالات النظرية والعملية التي ترتبت عليها، ونتائجها في التجربة الجمعية التي شهدها الغربيون منذ عصر الحداثة.
وقد نظر الفصل الثامن في مغامرة "الكليانية" التي خاضتها المجتمعات الغربية في القرن العشرين، والتي تداخل فيها "الدينيّ" و"السياسيّ" من جديد بعد انفصالهما بعد مجيء الديمقراطية؛ فـ "الكليانية" تُعبّر عن التماسّ بين الاستقلالية التي تَعتبر الديمقراطية تَجسّدًا لها من جهة، والارتهان الذي عبّر عنه الدين الأول، في نظام سياسي حديث أعاد اصطناع "نظام الواحد" الدينيّ من جهة أخرى.
ويبحث الفصل التاسع ما حَسِبه غوشيه استمرارية لـ "الدينيّ" ما بعد "الخروج من الدين"، ويسلط الضوء على أوجه هذه الاستمرارية والأنحاء التي تنبسط فيها.
وأما الفصل العاشر، وهو الفصل الأخير، فيبحث حدود الأنثروبوسوسيولوجيا المتعالية في المقاربة النقدية بوصفها جوابًا عن الإشكالية الرئيسة فيها؛ إذ يحاول الكشف عن أوجه محدودية هذا الجواب، من خلال استدعاء بعض قرّاء كتاب مارسيل غوشيه من العالَمَين القاريّ والأنكلو-أميركيّ.