العنوان هنا
مقالات 02 يناير ، 2024

توظيف اللغة في حرب المصطلحات الإسرائيلية على الفلسطينيين

سحر الهنيدي

مؤرخة كويتية فلسطينية، أحدث كتبها: التاريخ الخفي لوعد بلفور The Hidden History of the Balfour Declaration.

إيزابيلا حماد

كاتبة بريطانية فلسطينية، مؤلفة روايتَي: الباريسي The Parisian؛ ادخل أيها الشبح Enter Ghost

The Uses and Abuses of Language in Israel’s War on Palestinians*

Isabella Hammad & Sahar Huneidi

ترجمة: إبراهيم فرغلي


تعمدت إسرائيل وحلفاؤها صياغة لغة لا تبرر أفعالهم فحسب، بل أيضًا لإقناع العامة من دافعي الضرائب في الداخل والخارج بحسن مبرراتهم الأخلاقية.






دأبت المشروعات الاستعمارية كافة على تحريف اللغة. فقد سارت العبارات الملطّفة المقصودة جنبًا إلى جنب مع الرغبة في السيطرة على السكان الأصليين، والاستيلاء على الأراضي والموارد، بداية من التوسع الأميركي في "براري الغرب" وصولًا إلى الاستعمار الأوروبي للأفارقة "الهمج".

استخدم الاستعمار الحديث والقوى الإمبريالية تلك اللغة لا لتبرير مشاريعهم فحسب، بل أيضًا لإقناع دافعي الضرائب أيضًا بحسن مبرراتهم الأخلاقية. وسمّى والتر ليبمان Walter Lippman ومن بعده نوعم تشومسكي Noam Chomsky ذلك "تصنيع القبول"، بينما أطلقت إدارة الدعاية الأميركية عليها وصفًا أكثر تهذيبًا وهو "هندسة القبول".

 لم يخجل الصهاينة من تسمية مشروعهم الاستعمارَ حتى ستينيات القرن العشرين، وذلك مع ظهور الموجة الأولى من حركات الاستقلال الناجحة المناهضة للاستعمار. وقد تأسس هذا المشروع لإنشاء وطن لليهود في فلسطين، وتضمنت مؤسساته منذ عام 1897 فصاعدًا "جمعية الاستعمار اليهودي"، و"جمعية استعمار أرض إسرائيل"، و"جمعية الاستعمار اليهودي في فلسطين"، و"الصندوق الاستعماري اليهودي".

واليوم، يتذرع الصهاينة، الذين يقاومون وصف إسرائيل بأنها مستعمرة استيطانية، بما يصفونه بـالمسألة المعقدة. ولكن قبل تأسيس الدولة الإسرائيلية في عام 1948 - والتي طردت 750 ألف فلسطيني من منازلهم - كانت كلمتا "الاستعمار" و"الاستعماري"، المصطلحان المتعارف عليهما، قد استخدمتهما الدول الأوروبية، مثل بريطانيا وفرنسا وبلجيكا وإسبانيا وإيطاليا، لوصف استيطانها وسيطرتها على أراضي الغير، وهما الكلمتان نفسهما اللتان استخدمهما الصهاينة لوصف استيطانهم.

وعلى النقيض من أشكال الاستعمار الأخرى التي اعتمدت على استغلال العمالة، سعى الاستعمار الاستيطاني لحيازة الأرض من دون سكانها الأصليين؛ وعلى حد تعبير المؤرخ الأسترالي باتريك وولف Patrick Wolf، فإن الاستعمار الاستيطاني "يدمر ليحل مكان" الأصل. أما الحجة المضادة لمفهوم الاستعمار فتروج فكرة "السكان الأصليين" – أي إن اليهود عاشوا دائمًا في فلسطين – ولكن ثمة فرق واضح بين الاستيلاء والهيمنة والملكية التاريخية.

وخلافًا للمجتمعات الاستعمارية الاستيطانية الأخرى – مثل الجزائر الفرنسية أو كينيا البريطانية وأستراليا - ينظر المدافعون عن المشروع الاستيطاني اليهودي إلى أنه فريد من نوعه، لعدم وجود دولة أمّ مرجعية، أو ما يعرف بـ Metropole أي الولاية الأم في مستعمرة ما.

وهذا أمر قابل للنقاش؛ ذلك أن الدعم الأولي للطموح الصهيوني إلى إقامة دولة في فلسطين جاء من الإمبراطورية البريطانية، التي تعهدت بدعم الاستيطان الصهيوني في عام 1917، وتخلت عن انتداب فلسطين لصالح "وطن يهودي"، في أيار/ مايو 1948.

فمنذ ذلك الوقت، ووفقًا لبيانات الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، بلغت المساعدات الأميركية لإسرائيل – أغلبيتها الساحقة عسكرية - أكثر من 260 مليار دولار (بعد تعديلها وفق نسب التضخم)، ومن دون احتساب مبلغ 14.3 مليار دولار، قيمة المساعدات العسكرية التي وعد بها الرئيس جو بايدن في تشرين الثاني/ نوفمبر؛ إضافة إلى أن الولايات المتحدة الأميركية تدعم نظام الرعاية الصحية المجاني في إسرائيل أيضًا.

وعلى صعيد آخر، ليست الولايات المتحدة الدولة الوحيدة التي تؤدي فيها المطالبة بوقف إطلاق النار في غزة، منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023، إلى الإقالة من الوظيفة، كما حدث لديفيد فيلاسكو David Velasco، الذي فقد وظيفته رئيسَ تحرير لمجلة Artforum، أو إلى الاتهام بمعاداة السامية أو التحريض على الإرهاب، أو أن يكون إرهابيًا أو متعاطفًا مع الإرهابيين. فهتاف "أوقفوا الإبادة الجماعية" أصبح اليوم هتافًا غير قانوني في برلين. وحينما نادى بول بريستو Paul Bristow، وهو مساعد وزاري بريطاني، بوقف إطلاق النار، فُصل من عمله. وحينما طالب الأمين العام لهيئة الأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، بالأمر نفسه، اتهمه سفير إسرائيل في هذه الهيئة، جلعاد إردان Gilad Erdan، بأنه يقوم بـ "تبرير الإرهاب وعمليات القتل"، وأعلن أنه لن يجري إصدار تأشيرات دخول إسرائيلية لمسؤولي الأمم المتحدة.

إن الكلمة العربية "انتفاضة" - التي استخدمت أول مرة بين الفلسطينيين لوصف ثورتهم السلمية إلى حد بعيد في عام 1987 - تُترجم الآن على نحوٍ مخادع بأنها "إبادة جماعية لليهود". وبعد فشلها في إدانة استخدام الكلمة خلال جلسة استماع في الكونغرس، اضطرت ليز ماجيل Liz Magill، رئيسة جامعة بنسلفانيا، إلى الاستقالة. كما تواجه رئيسة جامعة هارفارد، كلودين غاي Claudine Gay، ضغوطًا للتنحي أيضًا. بينما في هذه الأثناء، ووفقًا للعديد من خبراء المحرقة والإبادة الجماعية، فالإبادة الجماعية هي بالفعل قيد التنفيذ في غزة، وبصفة يومية.

إن الربط الحالي بين كلمتَي "وقف إطلاق النار" Ceasefire و"الإرهاب" Terrorism يشكل جانبًا من الاعتداء على اللغة الذي تمتد آثاره إلى الأطراف كافة، ويذهب بالحرب التي تُشن ضد الفلسطينيين إلى ما هو أبعد من فلسطين التاريخية.

لقد كانت فلسطين، في الخيال الصهيوني المبكر، أرضًا جرداء تنتظر "الرواد" اليهود "لتجفيف المستنقعات" و"جعل الصحراء تزدهر". وصوّر الصهاينةُ الفلسطينيين على أنهم "بدائيون" و"مخادعون" و"كسالى"؛ على غرار نظرة المستعمرين الأوروبيين إلى السكان الأصليين في أماكن أخرى. ثمّ إن الصور المتضمنة بالكتاب المقدس، عن "استرداد" أو "استعادة الأرض"، استنادًا إلى ادعاءات قديمة، تعكس كذلك خطاب حركة المستوطنين الأميركيين، المدفوعة "بالقَدَر المتجلي" (Manifest Destiny)، ومشاعر الاستحقاق للمنح الربانية. أما وعد بلفور فقد أشار إلى الفلسطينيين – وهم الأغلبية الساحقة في فلسطين – باعتبارهم "مجتمعات غير يهودية". وكانت هذه إحدى أولى الطلقات في حرب الخطاب ضد الفلسطينيين، بتعريفهم، ليس من خلال وضعهم بصفتهم جماعة مستقلة تعيش على أرضها، بل من خلال توصيفهم جماعة غير-يهودية.

وفي وقت لاحق، أنتجت الصهيونية مجموعة من المصطلحات الأيديولوجية والقانونية التي تستحضر المطالبات القديمة بالأرض – ومنها على سبيل المثال: "تجمع المنفيين" The Ingathering of The Exiles، و"قانون العودة" The Law of Return؛ المصطلح الأكثر قانونية. ويوصف الاحتلال وطرد ثلاثة أرباع السكان الفلسطينيين في البلاد في الفترة 1948-1949 - المعروف باسم النكبة - بأنه "تحرير" فلسطين من سكانها.

وأصبحت الأراضي المحتلة "مناطق متنازع عليها"؛ واللاجئون "مشكلة ديموغرافية"، بل حتى "تهديدًا ديموغرافيًا" في القاموس الصهيوني. وإذا حاولوا العودة إلى المناطق التي احتلتها إسرائيل (بعد النكبة)، فهم يعتبرون "متسللين". ومن بين أولئك الذين بقوا في فلسطين المحتلة، أصبح العديد منهم :"غائبين حاضرين"، ممنوعين من العودة إلى منازلهم، في واحدة من أغرب الاجتهادات اللغوية لدى القانونيين الإسرائيليين.

وخلال الفترة من عام 1897 حتى الأربعينيات من القرن العشرين، دأب القادة الصهاينة في تصريحاتهم العامة على نفي أن يكون هدفهم إقامة دولة، وشددوا بدلًا من ذلك على فكرة "الوطن" أو الملاذ. وفي المؤتمر الصهيوني الأول، الذي عقد في بازل بسويسرا عام 1897، قام ماكس نوردو Max Nordau، الرجل الثاني في قيادة الحركة الصهيوينة بعد تيودور هرتزل، بالاختيار الحصيف للمصطلح الألماني Heimstätte، الذي ترجم إلى "الوطن القومي" في وعد بلفور. قال نوردو بعد سنوات عن هذا التعبير "الذي حظي بالكثير من التعليقات": "لقد كان ملتبسًا، لكننا جميعًا فهمنا ما يعنيه. بالنسبة إلينا كان يعني، آنذاك، ’دولة اليهود‘ وهي تعني المعنى نفسه الآن". ومع انحسار النفوذ العالمي لبريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية، ومع فظائع المحرقة التي أدت إلى زيادة سريعة في الهجرة اليهودية من أوروبا إلى فلسطين، تحول مركز ثقل الصهيونية إلى الولايات المتحدة، حيث أُعلن عن طموح إقامة الدولة صراحة لأول مرة في عام 1942 في مؤتمر بيلتمور، في نيويورك.

في كانون الأول/ ديسمبر 1944، وجه نائب الرئيس الأميركي، المتردد هاري ترومان Harry Truman، سؤالًا إلى حاييم وايزمان Chaim Weizmann، رئيس المنظمة الصهيونية والرئيس الأول لإسرائيل لاحقًا، عما إذا كانت الدولة ستكون كيانًا دينيًا: فأجاب وايزمان بالنفي. وأوضح ترومان أنه بينما يؤيد استخدام فلسطين ملجأً لليهود، فإنه يخشى أن تؤدي التطلعات الصهيونية إلى إقامة دولة عنصرية أو ثيوقراطية، وأكد اعتراضه على قيام أي دولة على أسس عنصرية أو دينية، "سواء كانت يهودية أو كاثوليكية".

وعارضت كذلك اللجنة اليهودية الأميركية The American Jewish Committee الأمر نفسه علنًا، وأكدت في مذكرة وجهتها إلى الرئيس فرانكلين روزفلت في عام 1944 أنه "ليس من الحكمة التحريض على إقامة دولة يهودية في فلسطين"، وهي وجهة النظر التي اتفق عليها الرئيس.

وعلى الرغم من مخاوف ترومان، فإن واشنطن سرعان ما ستحوّل وجود إسرائيل إلى مصلحتها الاقتصادية والإقليمية، حتى لو كان الطريق إلى علاقة (الراعي والمستفيد) صعبًا في البداية. وفي عام 1956 أثناء العدوان الثلاثي، بعد عدوان إسرائيل على مصر واجتياح قطاع غزة، حجّمت الولايات المتحدة إسرائيل بحزمٍ، من خلال التهديد "بوقف كل المساعدات الحكومية والخاصة، وفرض عقوبات عليها من الأمم المتحدة، ووصولًا إلى طرد إسرائيل من المنظمة الدولية".

وقد أشار ممثل إسرائيل المفوّه والخبيث آنذاك، أبا إيبان Abba Eban، في سيرته الذاتية إلى ما أسماه: البحث عن "صيغة" من شأنها أن "تمكننا من إرضاء الولايات المتحدة، مع ترك الباب مفتوحًا أمامنا لاستئناف نضالنا سعيًا لتحقيق أهدافنا العسكرية".

أما تحول الخطاب الصهيوني إلى مسألة "حق إسرائيل في الوجود"، فلم يجرِ التطرق إليه إلا في وقت لاحق، وذلك عقب حرب حزيران/ يونيو 1967. وعند تولي مناحيم بيغن رئاسة الوزراء في عام 1977، قال للكنيست: "أود التأكيد بأن حكومة إسرائيل لا تحتاج إلى أن تطلب من أي دولة، سواء كانت قريبة أو بعيدة، قوية أو صغيرة، الاعتراف بحقنا في الوجود".

 وقد وصف أبا إيبان نفسه صيغة "الحق في الوجود" بأنها "مهينة". ومع ذلك، ولسخرية التاريخ، فسرعان ما اكتسبت هذه العبارة موثوقية سياسية، وأصبح الاعتراف بـ "حق" الدولة الإسرائيلية في الوجود عائقًا لا بد من تجاوزه للدخول في خطاب دبلوماسي أو سياسي مع إسرائيل، حتى أن ولاية ساكسونيا آنهالت Sachsen-Anhalt في ألمانيا اشترطت أن يكون هذا الحق شرطًا رئيسًا للحصول على الجنسية الألمانية، ومؤخرًا ناقش البرلمان الألماني "البوندستاغ" تعميم هذا التشريع على بقية الولايات الألمانية.

تاريخيًا كان ذلك بمنزلة تحول استراتيجي. وانتشرت هذه الخطوة الخطابية بصفة متزايدة في سبعينيات القرن العشرين، وكان هدفها غير المعلن هو جذب الانتباه الدولي بعيدًا عن ملايين الفلسطينيين الخاضعين للاحتلال العسكري في الضفة الغربية والقدس الشرقية وغزة، إضافة إلى السوريين في مرتفعات الجولان المحتلة. وصاحب ذلك التحول أيضًا تركيز على المحرقة: فوفقًا لما لاحظته جاكلين روز Jacqueline Rose في كتابها قضيةصهيون The Question of Zion، أنه نادرًا ما جرى استدعاء المحرقة في خطاب الدولة الإسرائيلية قبل عام 1967. والسؤال الذي يفرض نفسه كما أشارت روزهو: لماذا؟

ثم جاء التسلسل التالي في حرب المصطلحات الإسرائيلية، ممثلًا في تأطير المقاومة الفلسطينية للاحتلال العسكري على إنها "إرهاب". ولطالما صورت إسرائيل أشكال المقاومة الفلسطينية كافة بأنها أنشطة إرهابية. وينطبق هذا المصطلح على المواجهات غير المتكافئة بين المدنيين الفلسطينيين والجيش الإسرائيلي، وحتى أشكال المقاومة السلمية، بما في ذلك الدعوات إلى المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل. وقد اكتسبت كلمة "إرهاب" زخمًا بعد اتفاقيات أوسلو في عام 1993 التي أُسميت تضليلًا "عملية السلام"؛ إذ جرى من خلالها توسيع نطاق المستوطنات الإسرائيلية في المناطق المحتلة إلى الأراضي المخصصة لإنشاء دولة فلسطينية، ما أدى إلى استمرار أعمال المقاومة.

يؤكد الملحق (البروتوكول) الأول لاتفاقية جنيف، والمتعلق بوضع المدنيين في النزاعات المسلحة وكذلك النضال "ضد التسلط الاستعماري والاحتلال الأجنبي وضد الأنظمة العنصرية، وذلك عبر حق الشعوب في تقرير المصير"، أن الشعوب المحتلة لها الحق في مقاومة الاحتلال وحمل السلاح في مواجهة مفتوحة مع "الطرف الخصم". ولكن بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، اعتبرت إسرائيل قمعها للفلسطينيين إسهامًا في الحرب على الإرهاب. وفي أثناء غزو العراق، أصبحت كلمتا "الحرية" و"الإرهاب" مصطلحين متناقضين لإدارة العلاقات العامة الأميركية. وبعد مرور عشرين عامًا، تقوم إسرائيل، بوقاحة منقطعة النظير، بتشبيه المقاومة الفلسطينية المسلحة بتنظيم داعش أو القاعدة.

وتبدو بعض العبارات الملطفة الاستراتيجية الإسرائيلية أنها أقل ضررًا. فالجدار الخرساني الذي يطوق الضفة الغربية، ويقطع القرى أحيانًا في بعض النقاط التي يصل ارتفاعها إلى ثمانية أو تسعة أمتار، يوصف في الغالب بأنه "سياج أمني". (في اللغة العربية، يشار إليه باسم جدار الفصل العنصري). في عام 2002، قبل أن يجري استبدال احتلال غزة بالحصار، أصدرت إدارة هيئة البث الإسرائيلية تعليمات لموظفيها باستبدال مصطلح "مستوطنون" بمصطلح "سكان" في إشارة إلى مستوطنة نتساريم، على بعد بضعة أميال جنوب شرق مدينة غزة.

وفي العام نفسه، أصدر قسم التعليم في الوكالة اليهودية لإسرائيل دليل "حسباره"، وهو "دليل استخدام" للطلاب للدفاع عن إسرائيل في الجامعات الأميركية. والترجمة التقريبية لكلمة حسباره Hasbara من العبرية قد تكون "تفسير/ شرح"، لكن المصطلح أصبح يمثل العلاقات العامة العالمية لإسرائيل.

ويرشد هذا الدليل تلاميذه الصهاينة إلى فنون "تسجيل النقاط ضد الخصم"، والقدرة على إخفاء تسجيل النقاط من خلال إعطاء انطباع زائف بالانخراط في نقاش حقيقي. على سبيل المثال، من الأسهل كثيرًا إشغال الناشطين الفلسطينيين في الجامعات بالدفاع عن ياسر عرفات ضد اتهامات الفساد، مقارنة بمحاولة الإسرائيليين إقناع أقرانهم من الطلبة بأن أرييل شارون لم يقتل أحدًا في صبرا وشاتيلا[1].

ويمكن العثور على استخدامات بلاغية مماثلة على وسائل التواصل الاجتماعي؛ إذ تعد ركيزة أساسية للدبلوماسيين الإسرائيليين الذين يظهرون على شبكات التلفزيون حول العالم. وفي حين أن منظمات حقوق الإنسان الإسرائيلية والفلسطينية والدولية صنفت إسرائيل نظام فصل عنصريًا، فإن وسائل الإعلام الإسرائيلية تصف المصطلح بأنه "مثير للجدل" أو "متنازع عليه". وسرعان ما أصبجت مثل هذه الصفات المتداولة في الصحافة الدولية بوصفها دليلًا على الحياد. بل في بعض الأحيان يوصف مصطلح "الفصل العنصري" بأنه معاد للسامية.

وفي الحقيقة، على الرغم من الأصوات اليهودية العالية التي تقاوم الخلط بين اليهودية والصهيونية، فإن الاتهام بمعاداة السامية أصبح السلاح المعجمي المفضل الموجه ضد الفلسطينيين وأولئك الذين يدعمون الحقوق الفلسطينية، بما في ذلك الحق حتى في الحياة، كما نشهده في حرب غزة في الوقت الراهن.

 وقد اقترح الحاخام، برانت روزينBrant Rosen ، في مقال نشرته صحيفة هآرتس عام 2016، أن "معاداة الصهيونية" ليست "شكلًا من أشكال التمييز، ولا تعد معاداة للسامية"، وأن "طمس تمييز الاختلاف بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية يشوش التعريف"، إلى درجة يغدو معها مصطلح السامية بلا معنى.

وفي الوقت نفسه، لا يحتج أحد عندما يصف القادة الإسرائيليون الفلسطينيين بكلمات نابية. ففي عام 1969، قالت رئيسة الوزراء جولدا مائير: "لا يوجد شيء اسمه فلسطينيون". بينما قال رئيس الوزراء مناحيم بيغن في عام 1982 إن الفلسطينيين "وحوش تمشي على قدمين". وبعد مرور عام، قال رئيس الأركان رافائيل إيتان عن الفلسطينيين: "جرى تخديرهم كصراصير في زجاجة"؛ أما في عام 2001، فقد وصف الرئيس الإسرائيلي موشيه كاتساف الفلسطينيين بأنهم "أشخاص لا ينتمون إلى قارتنا، أو إلى عالمنا، ولكنهم في الواقع ينتمون إلى مجرة مختلفة". وبالنسبة إلى شارون ، فإن "السلام" لن يتحقق لإسرائيل إلا من خلال السيطرة على "أعداء الإنسانية"، كما أوضح في عام 2004.

والحقيقة إن استمرار مثل هذه اللغة التي تجرد الفلسطيني من إنسانيته يأتي بين أبرز أسباب ظهور مقاطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي، انتشرت على نطاق واسع مؤخرًا، لإسرائيليين يعيدون تمثيل المذبحة وأعمال التعذيب التي تعرض لها المدنيون الفلسطينيون، في شكل احتفالي كرنفالي. كما أن هذا السلوك المضطرب عبر عنه مقطع فيديو آخر، انتشر أيضًا على نطاق واسع، لمعتقلين فلسطينيين معصوبي الأعين ومقيدي الأيدي بينما يجري إجبارهم على الاستماع إلى أغنية الأطفال الإسرائيلية المتكررة "ميني مامتيرا" Meni Mamtera لساعات: حيث قام جنود وسياسيون ومدنيون، مع أطفال في بعض الأحيان، بتصوير أنفسهم وهم يقلدون المعتقلين في الفيديو أثناء تشغيل الأغنية.

وفي الواقع، فإن الإسرائيليين يعيشون داخل المجتمع الإسرائيلي فيما أسماه المؤرخ لورانس ديفيدسون Lawrence Davidson "بيئة معلوماتية مغلقة"، وقد أدت الحرب الحالية إلى مضاعفة إغلاق هذه البيئة؛ إذ فعّل البرلمان الإسرائيلي في 8 تشرين الثاني/ نوفمبر، قانون مكافحة الإرهاب مع تعديل يجرم "استهلاك المطبوعات الإرهابية". وجرى أيضًا حظر جميع أشكال إعادة استخدام أو نشر المنشورات التي يجري بثها من غزة على وسائل التواصل الاجتماعي، مع فرض عقوبة تصل إلى السجن لمدة عام على المستخدمين الذين يتفاعلون مع الإعجابات أو يزورون المنصة في المقام الأول. وقد كان أغلب المتهمين الذين أدينوا مواطنين فلسطينيين في إسرائيل، لكن اعتُقل إسرائيليون أيضًا ممن أعربوا عن تعاطفهم مع الفلسطينيين. وقتلت إسرائيل أكثر من 90 صحافيًا في غزة منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.

وأوضح بيني غانتس، عضو كابينت الحرب الحالي، أن الصحافيين الذين كانوا شهودًا على مذبحة حركة المقاومة الإسلامية "حماس" في إسرائيل في 7 تشرين الأول/ أكتوبر "واختاروا الوقوف متفرجين بينما يجري ذبح الأطفال، لا يختلفون عن الإرهابيين ويجب معاملتهم على هذا النحو". وتصف لجنة حماية الصحافيين، ومقرها نيويورك، هذا الاعتداء بأنه أخطر اعتداء على الصحافيين منذ بدأت في عام 1992 في توثيق الخسائر المهنية في صفوف الصحافيين المحترفين.

إن الشكل المنمق والمحنك للدعاية الصهيونية المبكرة، التي شكلتها مصطلحات ماكس نوردو "المراوغة" بشكل بالغ الدقة، والتي جرت صياغتها لتلائم القرن التاسع عشر، لم يعد موجودًا. كما أنه لا يوجد من يخلف أو يمتلك مستوى فصاحة أبا إيبان الشهيرة نفسها، الذي ظهر على الساحة الدولية في الخمسينيات والستينيات باعتباره "صوت إسرائيل" البليغ.

في 30 تشرين الأول/ أكتوبر، اتهم إردان، سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة، مجلس الأمن بـ "التزام الصمت" وتعهد بوضع نجمة النازية الصفراء وسامًا على صدره حتى يقوم أعضاء المجلس بإدانة تنظيم حماس. وسرعان ما وبخه داني ديان Dani Dayan، رئيس "ياد فاشيم" (Yad Vashem)، وهو النصب التذكاري الإسرائيلي الرسمي لضحايا المحرقة، قائلًا: "هذا العمل عار على ضحايا المحرقة وكذلك على دولة إسرائيل". واقترح ديان على إردان ارتداء العلم الإسرائيلي بدلًا من وضع النجمة الصفراء وسامًا على صدره.

بات من الصعب استمرار الاعتماد على الدعاية الصهيونية وتعبيراتها الاستراتيجية في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، والتي أدّت بالتأكيد دورًا في انهيار سردية رسالة إسرائيل إلى بقية العالم، ومن ثمّ انحسار التأييد الدولي.

فعلى سبيل المثال، وعلى الرغم من تأكيد إسرائيل المتكرر أنها لا تستهدف المدنيين في غزة، وأن الآلاف من الأطفال الذين قتلوا بنيران إسرائيلية هم "دروع بشرية" يستخدمها مقاتلو حماس، كان من الصعب على العالم تجاهل صور الخدج أو المبتسرين الرضع وهم يخرجون من الحضانات في مستشفى الشفاء بسبب انقطاع التيار الكهربائي. وردت وسائل الإعلام الحكومية الإسرائيلية بإصدار صور لأفراد الجيش الإسرائيلي وهم يقومون بتوفير الحضانات في بادرة "إنسانية". لكن الحقيقة أن مشفى الشفاء كانت لديه حضانات، لكنه افتقر إلى الكهرباء اللازمة لتشغيلها بسبب قيام إسرائيل بقطع إمدادات الطاقة إلى غزة.

ونشرت إسرائيل في تشرين الثاني/ نوفمبر، صورًا لأفراد من الجيش الإسرائيلي وهم يدخلون المستشفى بحثًا عن خلية تابعة لحماس. والحقيقة أنه يُظهر الجنود وهم يحملون صناديق قد كتبت على أحد جوانبها عبارة "مستلزمات طبية" باللغة الإنكليزية، على نحوٍ يذكرنا بمسرحية هواة هزلية.

وقبل يومين من هذه الواقعة، نشرت إسرائيل مقطعًا مصورًا يظهر فيه دانييل هاجاري، المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، من داخل مستشفى الرنتيسي، وهو يشير إلى تقويم يتضمن مواعيد العمل الأسبوعية معلق على الجدار، وادعى أن أيام الأسبوع المكتوبة (باللغة العربية) هي أسماء الإرهابيين الذين يقومون بمهمات محددة. مشيرًا بالقول: "هذه القائمة تقول في طور العمليات"، وادعى أيضًا في الفيديو أن "هذه قائمة بالحراسة، حيث يكتب كل إرهابي اسمه وفقًا لتوقيت المهمة الخاص به". كما أشار هاجاري إلى مرحاض في الطابق السفلي، ومجموعة من الحفاضات بوصفها دليلًا على النشاط الإرهابي. وفي مقطع فيديو آخر، تظهر امرأة تدّعي أنها ممرضة في مستشفى الشفاء، وتتهم حماس بحظر الخدمات الطبية و"الاستيلاء على المستشفى بأكمله"؛ وقد ظهر هذا المقطع على قنوات التواصل الاجتماعي في إسرائيل، حيث اكتسبت ملايين المشاهدات قبل أن تختفي من صفحة Twitter الإسرائيلية في اللغة العربية. وكان من اللافت أن المرأة لا تتحدث بلهجة عربية. ووفقًا للصحافي الأميركي، روبرت ماكي Robert Mackey، فقد أخبره ثلاثة أعضاء من الأطباء بلا حدود في مشفى الشفاء أنهم لم يسبق لهم رؤية هذه المرأة من قبل.

وفي الضفة الغربية، في تشرين الثاني/ نوفمبر، اختطف الجيش الإسرائيلي الناشطة الفلسطينية، عهد التميمي، البالغة من العمر 22 عامًا، على خلفية منشور بُثّ على تطبيق إنستغرام مدون عليه باللغة العبرية والعربية الفصحى جملة مصطنعة تقول: "رسالتنا إلى قطعان المستوطنين. نحن في انتظاركم في جميع مدن الضفة الغربية. سوف نذبحكم وسوف تقولون إن ما فعله هتلر كان نزهة. سنشرب دماءكم وسوف نأكل جماجمكم". وقالت ناريمان، والدة عهد: "هناك العشرات من الحسابات باسمها على وسائل التواصل الاجتماعي، التي أنشأها أشخاص لا نعرفهم". والحساب الذي نُسب إليه نَشْرُ هذا البيان لا يمكن الوصول إليه الآن.

اعتاد الجيش الإسرائيلي على تقديم أوهى الادعاءات على الرغم من الأدلة القوية المضادة لها. فقد أنكر مسؤوليته عن قتل الإعلامية بقناة الجزيرة، شيرين أبو عاقلة، في جنين في عام 2022. ثم اعتذر في نهاية المطاف عن عملية القتل، لكن لم يتعرض أي عنصر من الجيش الإسرائيلي للمحاكمة جراء ذلك على الإطلاق. ومع ذلك لا تزال حتى أكثر الاستراتيجيات الخطابية الدعائية الإسرائيلية ركاكة تحقق أهدافها. أما بالنسبة إلى الفلسطينيين، فهم يقينًا لا ينخدعون بمثل هذه الخطابات الدعائية في أي وقت من الأوقات، ومنذ بداية الحركة الصهيونية في عام 1896.

في مقالة بعنوان "الجدار الحديدي" كتبها في عام 1923 المنظر والزعيم الصهيوني، فلاديمير جابوتينسكي، رئيس المنظمة الإرهابية إيرغون Irgun، وهي منظمة شبه عسكرية صهيونية جرى ضمها إلى الجيش الإسرائيلي في عام 1948 – كتب فيها عن الفلسطينيين قائلًا: "في وسعنا أن نخبرهم بما نشاء عن براءة أهدافنا، ونلطِّف الكلمات وندس العسل فيها لكي نجعلها مستساغة، لكن الفلسطينيين يعرفون حقيقة ما نريد، ونحن نعرف رفضهم الراسخ لما نريد".

كان الفلسطينيون يعلمون أن الصهاينة يرغبون في كامل فلسطين، من دون سكانها، ويفهمون أن الصهاينة يؤمنون بأنه "لا مجال لكلا الشعبين معًا في هذا البلد"، كما كتب يوسف ويتز Yosef Weitz، رئيس قسم الاستعمار في الوكالة اليهودية في مذكراته في عام 1948. وقد أضاف: "لا توجد طريقة أخرى غير نقل العرب من هنا إلى البلدان المجاورة، لننقلهم جميعًا: لا ينبغي ترك قرية واحدة، ولا عشيرة واحدة باقية هنا".


ّ* نشر المقال بهذا العنوان بالإنكليزية في:

Isabella Hammad & Sahar Huneidi, “The Uses and Abuses of Language in Israel’s War on Palestinians,ˮ The Nation (23/12/2023).

[1] مخيمان للّاجئين الفلسطينيين يقعان على أطراف بيروت، حيث أشرف شارون على مذبحة ارتكبتها الكتائب اللبنانية في عام 1982.