العنوان هنا
تقدير موقف 23 أبريل ، 2014

انتخابات العراق 2014: تكريس النخب السياسية للتقسيم الطائفي

الكلمات المفتاحية

وحدة الدراسات السياسية

هي الوحدة المكلفة في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بدراسة القضايا الراهنة في المنطقة العربية وتحليلها. تقوم الوحدة بإصدار منشورات تلتزم معايير علميةً رصينةً ضمن ثلاث سلسلات هي؛ تقدير موقف، وتحليل سياسات، وتقييم حالة. تهدف الوحدة إلى إنجاز تحليلات تلبي حاجة القراء من أكاديميين، وصنّاع قرار، ومن الجمهور العامّ في البلاد العربية وغيرها. يساهم في رفد الإنتاج العلمي لهذه الوحدة باحثون متخصصون من داخل المركز العربي وخارجه، وفقًا للقضية المطروحة للنقاش..

أعلنت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات في العراق أسماء الائتلافات والكيانات التي ستخوض الانتخابات النيابية المزمع إجراؤها في 30 نيسان/ أبريل 2014، وعددها 107 ائتلاف وكيان، وأعلنت قوائم المرشّحات والمرشّحين للانتخابات في كلّ ائتلاف وكيان، لتنطلق بذلك الحملة الانتخابية في أجواء محمومة من التنافس والانقسام.

وواضح، من قراءة هذه الائتلافات وتركيبتها، أن ثمَّة اختلافًا جوهريًّا في طريقة بنائها، على الأقل إذا أردنا قياسها بالائتلافات التي خاضت الانتخابات النيابية عام 2010. فهذه الائتلافات والتيارات أصبحت أكثر انقسامًا وأكثر طائفية ممّا كانت عليه في الدورة الانتخابية السَّابقة. بل إنّ التنافس قد انتقل إلى داخل كلّ طائفة على تمثيلها، وهذا تكريس أعمق للطائفية السياسية.


الصراع على تمثيل الهوية

إذا كان النظام السياسي العراقي الذي صاغه الاحتلال الأميركي ما بعد 2003 يقوم على تمثيل الهويات الإثنية في البلاد، في ما يُعرَف بـ "الديمقراطية التوافقية"، ومن ثمة تجري عملية بناء التنظيمات السياسية الانتخابية على أساس هذه الهويات التي فرضت على المواطنين إطارًا لتعريف أنفسهم سياسيًّا، فإننا للمرة الأولى - إذا تجاوزنا انتخابات مجالس المحافظات الأخيرة التي جرت في آذار/ مارس 2013 - نكون أمام حالة يجري فيها التنافس على تمثيل كلّ هوية إثنية، أو مكوّن، عدّة ائتلافات، ولا نكون إزاء ائتلاف واحد، أو كتلة كبرى، مثلما كانت عليه الحال في سائر الانتخابات السَّابقة بدءًا بانتخابات 2005.

ولعل انتخابات 2010 هي التي أدَّت إلى هذا الانقسام في تمثيل الهوية، وإلى الصراع على تمثيلها. فالتنظيمات السياسية الشيعية لم تخضْ الانتخابات بائتلاف واحد، كما هو الشأن بالنسبة إلى الانتخابات التي سبقتها، بل بائتلافين كبيرين؛ هما ائتلاف دولة القانون والائتلاف الوطني العراقي، والأمر نفسه قد حصل بالنسبة إلى التنظيمات السياسية الكردية التي دخلت الانتخابات بائتلافين؛ هما التحالف الكردستاني وكوران (التغيير). في حين خاض السنّة الانتخابات بائتلاف واحد كبير، هو ائتلاف العراقية.

والواقع أنّ هذا التوحد السنِّي هو نفسه الذي أدَّى إلى إنهاء ظاهرة الانقسام لدى بقيَّة المكونات؛ إذ اتحد، بسبب الخوف منه، الائتلافان الشيعيان الرئيسان بعد الانتخابات، في ما عُرف بكتلة "التحالف الوطني"، وهي الكتلة التي أُوكل إليها ترشيح رئيس مجلس الوزراء.

ولذلك نستطيع أن نقول إنّ انتخابات 2010 شهدت تعدّدًا في تمثيل كلّ هوية، على غرار ما يحدث في انتخابات 2014، لكن بصورة أقلّ. وللمقارنة، تشهد هذه الانتخابات خمسة ائتلافات شيعية رئيسة؛ هي دولة القانون، والمواطن، والأحرار، والفضيلة والنُّخب المستقلة، وتحالف الإصلاح الوطني، وتشهد ثلاثة ائتلافات سنِّية رئيسة؛ هي متحدون للإصلاح، والعربية، وكرامة، وتشهد أربعة ائتلافات كردية؛ هي الائتلاف الكردي الموحد، وكوران، والاتحاد الإسلامي الكردستاني، والتحالف الوطني الكردستاني.

وإذا كان من المألوف في البلدان التي تقوم أنظمتها السياسية على تمثيل عدَّة هويات أن تنشَأ كتل موحّدة للتعبير عن كلّ هوية مع إنشاء النظام، ثمّ يحدث صراع على تمثيل الهوية بعد ذلك، فإنّ الانقسام المتزايد في العراق يلوح مرتبطًا بالصراع على بناء نظام مركزي، لا يبدو أنّ بلدًا ريعيًّا مثل العراق يستطيع الخلاص منه بسهولة. فمدار الانقسام الشيعي السياسي على الصيغة المركزية الشديدة التي بناها رئيس الوزراء نوري المالكي، خلال سنوات حكمه الثماني، وإمكانية بناء مركزية أكثر مرونةً تعكس شراكةً فعليةً لسائر مكونات البلاد الكبرى. أمّا الانقسام السنِّي فمداره على شكْل العلاقة بمركزية نامية تديرها الشيعية السياسية.


حكاية سانت لاغي

يرتبط تنامي هذا الانقسام باعتماد قانون الانتخابات لنظام "سانت لاغي المعدل"، وهو صيغة رياضية في توزيع المقاعد على القوائم المتنافسة، تبناها قانون انتخابات مجلس النواب العراقي الذي صدر في تشرين الثاني/ نوفمبر 2013، وستجري على أساسه انتخابات 30 نيسان/ أبريل 2014[1].

ومعروف أنّ سانت لاغي يسمح بوجود الكيانات والائتلافات الصغيرة، ويعطيها مساحةً معقولةً في ميدان التنافس الانتخابي؛ ولذلك عمدت الائتلافات الكبيرة في المشهد الانتخابي العراقي إلى بناء ما يمكن تسميته "كياناتٍ ظلّيةً" صغيرةً تابعة لها، لتعود وتندمج فيها بعد حصولها على عدد من المقاعد. وهذا الأمر حصل في انتخابات مجالس المحافظات عام 2013؛ إذ صعدت نسبة مهمّة من الكيانات الصغيرة إلى جانب الكيانات والائتلافات الكبيرة.

 وعلى الرغم من أنّ حظوظ هذه الكيانات الصغيرة في ممارسة دور سياسي فاعل ضعيفة، في عملية سياسية كالعملية السياسية في العراق التي تسيطر عليها الأحزاب والتنظيمات السياسية الكبرى؛ ما سيضطرها إلى الاندماج في هذه الأحزاب والتنظيمات، على نحو ما أثبتته تجربة البرلمان ومجالس المحافظات في العراق منذ عام 2005، فإنّ الكتل النيابية الكبيرة قد عملت على التقليل من فرص الكيانات الصغيرة إلى الحد الأدنى في الانتخابات النيابية المقبلة؛ وذلك بإدخال تعديلات على نظام سانت لاغي لتحقيق هذا الغرض.

وعلى الرغم من أنّ نظام سانت لاغي المعدّل يُعطي الكيانات الصغيرة فرصةً لا تتجاوز 3 في المئة من النسبة العامَّة لمقاعد مجلس النواب، بحسب ما أثبتته بعض الدراسات، فإنّ هاجس خسارة هذه المقاعد ظلّ قائمًا؛ لذلك لجأت جلّ الائتلافات الكبيرة إلى بناء كيانات ظلية، لكي تفيد من فرصة حصولها على المقاعد المحدودة التي يمكن أن تجنيَها الكيانات الصغيرة.


الحدّ الأقصى من الطائفية الانتخابية

إنّ السمة الأخرى التي تتَّسم بها الائتلافات الانتخابية عام 2014 متمثّلة بأنها أصبحت أكثر طائفيةً، وإذا كانت انتخابات 2010 أنتجت ائتلاف العراقية الذي ضمّ نسبةً لا بأس بها من العرب الشيعة، على الرغم من أنه ائتلافٌ سنِّي (من أصل 91 نائبًا فازوا في انتخابات 2010 عن ائتلاف العراقية، كان ثمَّة 18 نائبًا من العرب الشيعة)، وأنه قد رأَسه زعيم عراقي شيعي علماني هو إياد علاوي، فإنّ انتخابات 2014 لم تشهد أيّ مسعًى في هذا الاتجاه.

ولكن ثمَّة ثلاثة ائتلافات ربما تشذّ عن هذا؛ وهي ائتلاف الوطنية الذي يتزعمه علاوي، والتحالف المدني الديمقراطي؛ وهو تحالف علماني يضم خليطًا من القوى والشخصيات اليسارية، والقومية، واللبرالية، وائتلاف العراق الذي يموّله رجل الأعمال فاضل الدبّاس. غير أنّ هذه الائتلافات ليست رئيسةً في الخريطة الانتخابية، ولا يُتوقَّع أن تفوز سوى بعدد محدود من المقاعد، هذا على الرغم من أنّ كثيرًا من المتابعين يتعاملون مع ائتلاف العراق بوصفه ائتلافًا عربيًّا سنيًّا؛ لذا يُتوقَّع أن يكون حضوره الأساسي في المحافظات السنِّية، لأنّ مكوناته وشخصياته الأساسية عربية سنِّية، على الرغم من أنه أعدّ قوائم انتخابيةً في المحافظات العربية الشيعية كلّها. ولكن ثمَّة أيضًا نسبة مهمَّة من الشخصيات العربية الشيعية في قياداته، فضلًا عن أنّ مموِّله من أصول شيعية.

مقارنةً بانتخابات 2010، على الرغم من أنّ الائتلافين الشيعيين الرئيسين آنذاك لم يضمَّا قوًى سنِّيةً حقيقيةً، فقد شهدت مرحلة بناء الائتلافات ما قبل تلك الانتخابات مفاوضاتٍ جادةً بين أطراف شيعية وسنِّية رئيسة لبناء ائتلاف جامع. وقد خاض ائتلاف دولة القانون الذي كان أقوى ائتلاف سياسي؛ بسبب الفوز الذي حقَّقه في انتخابات مجالس المحافظات عام 2009، مفاوضاتٍ مهمّةً في هذا المجال، إلا أنه انتهى لبناء ائتلاف طائفي؛ لأنّ الخطاب الطائفي كان الأكثر قدرةً على تعبئة الجمهور.

وبالفعل، تُعَدُّ سهولة التعبئة الطائفية ونجاعتها أحد العوامل الأساسية التي عاقت بناء ائتلاف عابر للطوائف. وإلى جانب هذا، ترتبط الطائفية الأكثر حدَّةً في انتخابات 2014 بالصراع السياسي والمجتمعي الذي ينتعش في المراحل الانتقالية التي تشهد إعادة تشكيل النظام السياسي المتعدِّد الهويات والمنقسم إثنيًّا وطائفيًّا.

وقد منع هذا الانقسام أيَّ حوار حقيقي بين الكتل الرئيسة. وفي الحقيقة، أخذ هذا الانقسام يتصاعد منذ أزمة تشكيل الحكومة التي عقبت انتخابات 2010، وأظهرت نزعةً استئثاريةً بالسلطة تستند إلى إطار طائفي، وتتحرك فيه، ولا تعبأ بالانتخابات ونتائجها، بوصفها أداةً سلميةً لتداول السلطة، بل تسخّر مؤسسات الدولة ذات الاستقلالية (القضاء، والهيئات المستقلة، والمؤسسة الأمنية، وغيرها) في مشروعها الاستئثاري. كما أنها قضت على أيّ أملٍ بأن يخطو ائتلاف دولة القانون نحو بناء ائتلاف وطني، بل إنها قضت على الصيغة الخجول لائتلاف العراقية الذي أخذ ينتهي إلى كتلة سنِّية أكثر فأكثر؛ بخروج الأغلبيّة العظمى من أعضائه الشيعة، ليشكِّل ما بات يُعرَف بـ "شيعة العراقية" كتلًا منفصلةً، مثل "العراقية الحرَّة"، و"البيضاء"، وغير ذلك.

وهكذا فإنّ الأمر يُفضي إلى إعادة رسم خريطة القوى السياسية، على أساس إعادة اصطفافها في خنادق طائفية أكثر صفاءً، وأكثر حدّةً، وتكون أزمة تشكيل الحكومة عام 2010 قد قضت على الأجواء الإيجابية التي أنتجتها هزيمة تنظيم القاعدة، والميليشيات الشيعية، عامي 2008 و2009، وتكون، كذلك، قد عزَّزت الشكوك لدى العراقيين والمجتمع الدولي على حدّ سواء، في إمكانية تطوُّر العملية السياسية في العراق إلى صيغة ذات شراكة أكبر في مؤسسة الحكم، وتقدمها، وإن ببطء، نحو الحد الأدنى من مبادئ الديمقراطية، وسيادة القانون، واحترام حقوق الإنسان، والمشاركة الشعبية.

كانت أزمة تشكيل الحكومة هي واسطة العقد التي عقبتها سلسلة من أزمات سياسية حادّة، طبعت ولاية المالكي الثانية لرئاسة الوزراء؛ مثل مذكرة القبض على نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي والحكم عليه بالإعدام أواخر عام 2011، وحركة الاحتجاج في المحافظات السنِّية، إثر اعتقال عناصر من حماية وزير المالية وأحد أبرز السياسيين من العرب السنّة رافع العيساوي، أواخر عام 2012، ثمّ ما يُعرف بـ "أزمة الأنبار" التي بدأت أواخر عام 2013، مع إعلان الحكومة الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" في صحراء الأنبار.


ائتلاف متعدد الهوية

بدت السمتان اللتان طبعتا ائتلافات 2014 (الانقسام الحاد، والطائفية السياسية) واضحتين خلال الحراك السياسي، حتى قبل إعلان المفوضية أسماء الائتلافات المشاركة في الانتخابات. والأسوأ من ذلك أنّ القوى الرئيسة - وللأسباب نفسها التي منعتها من بناء ائتلافات انتخابية عابرة للطائفة - تلكأت في بناء تفاهمات في ما بينها لمرحلة ما بعد الانتخابات، وهو أمر خطِر معرقل للعملية السياسية بمجملها.

من ثمَّة ستجد الائتلافات الرئيسة أنها مقيّدة بالجدول الزمني الذي يحدده الدستور لمرحلة ما بعد الانتخابات، وفي صُلب ذلك تشكيل الكتلة النيابية الأكثر عددًا، وهي التي ستُكلَّف بترشيح رئيس الوزراء، في الوقت الذي لا تملك فيه أيّ اتفاق مبدئي، أو تصور عن ذلك. ومن ثمَّة لا توجد تفاهمات معلنة لمرحلة ما بعد الانتخابات إلَّا التفاهمَ بين ائتلاف المواطن الذي يقوده المجلس الأعلى الإسلامي العراقي، والذي يترأسه عمار الحكيم، وائتلاف الأحرار الذي يقوده التيار الصدري، في حين ينعدم أيّ تفاهم أو حوار جدِّي عابر للطوائف لمرحلة ما بعد الانتخابات.

وإذا كان عدم وضوح عدد الائتلافات التي ستفرزها الانتخابات عاملًا رئيسًا في عدم وجود تفاهمات، فإنّ العملية السياسية في العراق ستبقى محكومةً بالأحزاب والتنظيمات السياسية الرئيسة التي سيطرت على المشهد السياسي منذ عام 2003، ذلك أننا لم نشهد ولادة قوًى جديدة قادرة على أن تطرح بدائل حقيقيةً. ولعل ولادة حزب كوران في كردستان العراق، عام 2008، يؤكِّد أنّ التنظيمات السياسية الجديدة، حتى تلك التي تحمل نزوعًا إلى المعارضة أو فكرةً بشأنها، تولد من رحِم التنظيمات العريقة القائمة. ومن ثمَّة سيبقى المشهد السياسي محكومًا بالقوى نفسها، مع اختلاف محتمل في نِسب تمثيلها، صعودًا أو هبوطًا.

الغموض الأساسي، في هذا السياق، متمثّل بالمشهد السياسي العربي السنِّي الذي يبدو أنه سريع التحول – على خلاف المشهدين الكردي والشيعي - وذلك بسبب حداثة المجال السياسي السنِّي، في حين أنّ المجالين السياسيين الكردي والشيعي؛ بسبب نموّهما في المعارضة السياسية لنظام صدام حسين، طوّرا تقاليد سياسيةً واضحةً تجعلنا أقدر على فهم خريطة الكتل التصويتية لهما، ومناطق نفوذ كلّ تنظيم سياسي متعلّق بهما، في حين لا يتسنى ذلك في المجال السياسي العربي السنِّي.

إنّ تحالفات ما بعد الانتخابات سيحددها الموقف من المركزية. وستدور هذه التحالفات على فكرتين سياسيتين أساسيتين؛ هما دولة مركزية شديدة يقودها العرب الشيعة، مع شراكة كردية تحاول أن تطلق الفاعلية السياسية لكلّ منهما في شكل محدود من اللامركزية، ومركزية مرنة تحاول أن توازن بين مركز أكثر مرونةً في إشراك جميع المكونات، ولا سيما من خلال قيود أو مؤسسات سياسية تمنع أيّ صيغة احتكارية للسلطة، على غرار ما شابَ تجربة المالكي في الحكم، مع لامركزية أكثر سَعةً. وهذا يتطلب تغيير المالكي بمرشّح آخر، شرطَ أن تقبل به إيران أيضًا.

هذان الخطان من التحالفات يمثّل الأول فيهما ائتلاف دولة القانون، ويمثّل الآخر الجبهة الشيعية المعارضة للمالكي؛ أي ائتلافي المواطن والأحرار. وفي كلّ الأحوال، فإنّ نواة تحالفات ما بعد الانتخابات ستحددها الدائرة السياسية الشيعية ممثلةً بهذين التيارين الكبيرين المتعارضين.


خاتمة

تبنَّى العراق ما بعد 2003 أنموذج الديمقراطية التوافقية، وهو النظام الذي يقول عنه منظرو النظم السياسية إنه الأكثر صلاحيةً للمجتمعات المنقسمة أو المتعدّدة الهويات التي لم تنجح عملية صَهْرها في أمَّة واحدة. ولكن لم يتحدَّث أحد من هؤلاء عن توافقية طائفية. فهذه حالة يبدو أنها خاصة بالمشرق العربي، كما أنها لم تتحوَّل إلى ديمقراطية في أيّ دولة عربية.

ويفترض منظرو هذا النموذج أنّ الرُّكن الأول في الديمقراطية التوافقية هو ما يُسمى "الائتلاف الواسع"؛ أي الائتلاف الذي يضم قوًى معبِّرةً عن سائر الهويات الكبرى المكونة للبلاد. وفي التجارب اللاغربية الناجحة للديمقراطية التوافقية (ماليزيا على سبيل المثال)، كان هذا الائتلاف هو حجر الزاوية في بناء النظام السياسي، وهو ما لم يحصل في العراق منذ 2003. بل إنّ ما حصل كان على العكس من ذلك؛ ذلك أنّ احتلالًا أجنبيًّا فرض توافقيةً سياسيةً طائفيةً على شعب - غير منقسم إلى طائفية سياسية – فتحولت تلك التوافقية إلى أدوات للإقصاء والاحتراب الأهلي.

إنّ انتخابات 2014 لم تشهد أيّ مسعًى لتجاوز هذا الواقع وبناء ائتلاف عابر للطائفية، من خلال حوار حقيقي وجادّ بين الكيانات والائتلافات التي ظلت منشغلةً بانقساماتها، إلى حدّ أنها لم تناقش حتى بناء رؤية مشتركة لمرحلة ما بعد الانتخابات، لنجد أنفسنا تلقاءَ واقع تغيب فيه أيّ تفاهمات أساسية بين شركاء السياسة والوطن، في الوقت الذي يعلو فيه صوت العنف وخيار البندقية.

 


[1] يعني هذا النظام، بحسب "المادة 14/ أولًا" من القانون أنّ "تقسّم الأصواتُ الصحيحة للقوائم المتنافسة على الأعداد التسلسلية (1.6، 3، 5، 7، 9.. إلخ) وبعدد المقاعد المخصّصة للدائرة الواحدة"، في حين أُجريت انتخابات مجالس المحافظات عام 2013 على نظام سانت لاغي الذي تبدأ القسمة فيه من 1، وليس من 1.6، كما هو الشأن في "سانت لاغي المعدّل". وفي الحقيقة، تبدأ القسمة في "سانت لاغي المعدّل" المعروف في الأدبيات الانتخابية العالمية، من 1.4، وليس من 1.6. وهذا الرقم هو اجتهاد عراقي. والأكثر من ذلك، أنّ مناقشات الكتل النيابية ما قبل إقرار قانون الانتخابات الأخير كانت تسعى بالوصول بـ "سانت لاغي المعدّل" لـ 1.9؛ الأمر الذي أعطى انطباعًا مفاده أنّ هذه الكتل تُفصِّل النظام الانتخابي على مصالحها الحزبية.