صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، من (سلسلة ذاكرة فلسطين)، كتاب مصطفى العبّاسي طبريا العربية تحت الحكم البريطاني 1918-1948: دراسة اجتماعية وسياسية. يتألف الكتاب من 520 صفحة، ويشتمل على قائمة ببليوغرافية وفهرس عام.
يتناول الكتاب تاريخ مدينة طبريا على امتداد نحو مئتي عام، وذلك من بداية نهضتها الحديثة منذ أوائل القرن الثامن عشر وحتى أحداث نكبة عام 1948. ويستعرض أنماط الحكم والإدارة في طبريا، والتحولات التي مرّت بها المدينة ما بين الفترتين العثمانية والبريطانية. ثم يتناول، على نحو معمّق ومفصّل، أحوال السكان العرب؛ طبقاتهم، وعلاقاتهم البينية، ودور النُخب والأعيان في قيادة المدينة وإدارة القضاء، وإلى أيّ مدى نجحت هذه القيادات في مواجهة التحديات التي فرضها الانتداب البريطاني والحركة الصهيونية. ويتطرق كذلك إلى مصادر الاقتصاد وفروعه، ومدى استفادة المدينة من النشاط الاقتصادي خلال فترة الانتداب، ويرصد مسار العلاقات العربية - اليهودية وطبيعتها، وفشلها في حماية السكان العرب الذين طُردوا من مدينتهم في 18 نيسان/ أبريل 1948، لتكون طبريا أول مدينة مختلطة يُطرد منها سكانها العرب. ويتناول أيضًا قصة هدم مدينة طبريا القديمة، بما في ذلك أسوارها ومعظم معالمها التاريخية.
لقد عانت الحياة الثقافية الإهمال، ومن الصعب الإشارة إلى نشاط ثقافي ملحوظ في طبريا طوال فترة الانتداب تقريبًا. فمقارنةً بالحياة والنشاط الثقافي في المدن الساحلية والكبرى الأخرى، مثل حيفا ويافا والقدس، كان النشاط الثقافي والرياضي في طبريا ضعيفًا جدًا. فعلى سبيل المثال، لم تكن هناك مكتبة عامة في طبريا العربية، وكان هناك عدد قليل من المكتبات الخاصة التابعة للعائلات الغنية والكبيرة، مثل مكتبة عائلة الطبري التي احتوت في الغالب على كتب دينية ودراسات شرعية إسلامية. وبناء عليه، يمكننا القول إن النشاطات التي يمكن أن نسميها ثقافية، أو ذات طابع تعليمي، وتلك التي يمكن أن تشكّل مصدرًا لكسب المعرفة، كانت محدودة جدًا. صحيح أن الصحف العربية اليومية وغيرها وصلت إلى المدينة، وأهمها صحيفة "الكرمل" الحيفاوية وصحيفتا "فلسطين" و"الدفاع" اليافاويتان، لكن عدد النُسخ المبيعة كان محدودًا.
كان في طبريا دكان عربي واحد يملكه أحمد منصور، لبيع الكتب والصحف والمجلات والأدوات المكتبية. وكان منصور يستورد كتبًا عربية أو مترجمة من الأدب العالمي من مصر. ويشير الباحث عامي أيالون إلى أنه في عام 1945 أُسِسَت "جمعية المكتبات العربية في فلسطين" وانضم إليها 51 من أصحاب المكتبات والشركات ذات الصلة، واحد منهم من طبريا وأربعة من عكا وثلاثة من الناصرة واثنان من صفد، وهذا يدل على أن مستوى استهلاك الثقافة والكتب في طبريا كان منخفضًا حتى مقارنةً بالمدن الأخرى في الجليل، وهذا مرتبط أيضًا بانخفاض عدد السكّان العرب مقارنة بمدن الجليل الأخرى.
كان في المدينة عدد من الجمعيات الثقافية التي نشرت العلم والمعرفة، نذكر منها على سبيل المثال "النادي الثقافي العربي" الذي أُسس في شباط/ فبراير 1937، وكان شعاره تشجيع الأنشطة الثقافية والتعليمية والرياضية. ويشير تأسيس الجمعية في خضمّ الثورة الفلسطينية إلى محاولة مؤسسيها الحفاظ على النشاط الثقافي العربي في طبريا حتى في أوقات التوتر، علمًا أن مستوى العنف في المدينة كان أقل بكثير مقارنةً بالأماكن الأخرى.
مع قرب نهاية حكم الانتداب، بدأت تظهر بعض التغييرات على المشهد الثقافي. في عام 1945 دعا صدقي الطبري إلى إنشاء سينما عربية في المدينة، وهي خطوة غير تقليدية في المجتمع العربي المتديّن والمحافظ. وبعد نحو عامين، في عام 1947، سعى المحاميان أنطون وحنا عطا الله، إلى الحصول على إذنٍ من البلدية لإنشاء سينما في المدينة، وقدّموا مخططًا لذلك وبدؤوا خطوات عملية لفتح الصالة، لكنّ أحداث تلك الأعوام عطّلت الخطة نهائيًا. وفي حزيران/ يونيو 1947، أُسس "نادي النهضة" بمبادرة من إسماعيل قره شولي، وهو ناشط اجتماعي معروف في طبريا أيام الانتداب، وهدف النادي إلى تنمية الرياضة والحياة الثقافية وتحسينها لدى السكّان العرب في طبريا.
إذًا، كانت التطورات والتغييرات في مجال التعليم والحياة الثقافية في طبريا، تتقدم بوتيرة بطيئة؛ فالنظام التعليمي العربي في طبريا لم يكن متطورًا كما هو الحال في الناصرة أو صفد المتجاورتين، حيث أُسست فيهما المدارس الثانوية منذ نهاية القرن التاسع عشر. وواضح أن سلطات الانتداب أهملت تطوير التعليم، بحجّة قلة الميزانيات، رغم أنها صادرت حمّامات طبريا الحارة التي كانت تدرّ عليها آلاف الجنيهات سنويًا. ولم يُظهر السكّان العرب أنفسهم الإصرار والنضال من أجل تطوير التعليم في مدينتهم، فيصعب تصديق أنه لم يكن في طبريا العربية، التي يبلغ عدد سكّانها 5000 نسمة، مدرسة ثانوية أيام الانتداب، وأنه فقط في آخر عام، أي عام 1947، تقرر تأسيسها.
في عام 1938، توجهت نقابة التجار العامة ليهود المدينة، إلى الوكالة اليهودية طالبةً تدخّلها ودعمها لاقتصاد طبريا. كانت تلك أيام الثورة الفلسطينية التي ضربت اقتصاد المدينة وأثّرت فيه على نحو سلبي جدًا. وقد انتقد تجّار طبريا اليهود الموقف اللامبالي للمؤسسات القومية اليهودية تجاه المدينة، حيث جاء في رسالتهم: "للأسف الشديد لم يحظَ الجليل بشكل عام وطبريا بشكل خاص بالاهتمام الكافي من مؤسساتنا العليا، ودومًا بقينا وحيدين في معركة البقاء الاقتصادية [...] حتى في أيام الازدهار الاقتصادي والتطورات الإيجابية التي مرّت على البلاد، لم نستفد من الرأسماليين ومن استثمار المهاجرين الطلائعيين، لا من الدعم المادي ولا من الدعم المعنوي. لقد خضنا طوال هذه السنوات وحيدين، فردًا فردًا، حربًا صعبة من أجل البقاء بما في ذلك تجار طبريا".
تنوعت المصادر الاقتصادية لعرب طبريا، وشملت التجارة والحِرَف والصيد والسياحة والبناء والوظائف والخدمات والزراعة. ومع أن طبريًا كانت من المدن المختلطة، فإنه لم يكن فيها ازدواجية اقتصادية أو اقتصادان منفصلان تمامًا، فقد كان السكّان العرب منخرطين في الغالب في الفروع نفسها التي عمل فيها جيرانهم اليهود، وكانت العلاقات الاقتصادية بينهم جيدة، وفي بعض الأحيان وثيقة أيضًا. واستمرت هذه الحال حتى بداية التوتر وإعلان الإضراب، ومن ثمّ الثورة الفلسطينية بين عامي 1936 و1939، مما أثّر سلبيًا في هذه الروابط بين الجانبين. ويُظهر الاستنتاج العام لدراسة الجانب الاقتصادي أن القطاع الأكبر كان يُديره السكّان اليهود؛ فقد شكّلوا غالبية سكانية، فضلًا عن النشاط الاقتصادي المنظّم والدعم الذي قدّمته المؤسسات الصهيونية التي لم يكن لها دائمًا ما يوازيها في الجانب العربي. وبناء عليه، يأتي تصنيف العرب في هذا المجال بعد اليهود في معظم الصناعات، ما عدا الزراعة وصيد الأسماك. ونتيجةً لذلك، كانت نسبة رجال الأعمال العرب الأثرياء والتجار أقل بكثير من نسبة العرب من إجمالي السكّان.
مرّت طبريا وسكّانها العرب بثلاث مراحل رئيسة في ما يتعلق بالنشاط السياسي الوطني. فخلال العقد الأول من الانتداب، نشأ التواصل الأوّلي مع الحركة الوطنية الفلسطينية ومؤسساتها المختلفة، لكنّ قادة المدينة تمكّنوا من المناورة بين مطالب الحركة في الانخراط على نحو واسع في نشاطها الواقع على الأرض، واستطاعوا الحفاظ على حياة هادئة في المدينة المُختلطة التي سكن فيها العرب واليهود جنبًا إلى جنب. ومما ساعدهم في ذلك الشخصية القوية والشعبية الكبيرة والكاريزماتية التي تمتّع بها الزعيمان المخضرمان الشيخ عبد السلام الطبري والشيخ سعيد الطبري.
أما في العقد الثاني، فبدأت الأمور تتغير، ووجد عرب طبريا أنفسهم، مثلهم مثل جيرانهم اليهود، سواء رغبوا في ذلك أم لا، مرتبطين على نحو متزايد بحركاتهم الوطنية، ومشاركين في الصراع الذي بلغ ذروته خلال الثورة الفلسطينية 1936-1939. ووفق تقارير مخابرات الهاغاناه، التي لا تخلو أحيانًا من المبالغة وعدم الدقّة، شارك العشرات من أبناء المدينة العرب في منظمات مختلفة بعضها عسكرية، وانخرطوا، بدرجة أو بأخرى، في الصراع بين الجانبين.
في العقد الثالث، وعلى الرغم من إنشاء العديد من الجمعيات والهيئات السياسية، وتعزيز دور الأحزاب العربية في المدينة، بدا الجمهور العربي مُتعبًا وفاقدًا قدرته على التجاوب مع التطورات المتسارعة في فلسطين. وخلال ذلك العقد، برز صدقي الطبري زعيمًا أوحد تقريبًا لعرب طبريا، ووثّق علاقاته مع المعسكر الحسيني بزعامة الحاج أمين ومع الهيئات المختلفة التابعة لهذا الائتلاف. في المقابل، حافظ صدقي على علاقة حسن الجوار مع اليهود، وحاول إعادة العلاقات مع البريطانيين وتحسينها، لكن لم تكن علاقاته بالقادة اليهود في المدينة دافئة، مثل علاقات والده وجدّه، لأن يهود المدينة بدوا أقل اهتمامًا بها من ذي قبل. وكانوا يعلمون تمامًا أن قوتهم آخذة في الازدياد، وأن العرب كانوا في حالة متزايدة من عدم اليقين والتوجّس. هذه الحالة العربية التي شابها الخوف والقلق من المستقبل، نمت مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وتفاقمت مع قرار بريطانيا المنهكة من جرّاء الحرب، مغادرة الكثير من مستعمراتها في أرجاء الإمبراطورية، بما في ذلك فلسطين.
يبدو أن هذه الحالة التي ميّزت طبريا وسادت فيها لم تكن مختلفة عما هو عليه الوضع في معظم المدن، وحتى القرى في فلسطين. فهناك أيضًا، كان الجمهور العربي منقسمًا إلى فصيلين أو معسكرين. أما الأول، فالنشاشيبيون وأنصار حزب الدفاع، الذين وُصفوا بالمعتدلين، لكونهم قبلوا التسوية والحوار مع البريطانيين والصهاينة، اعتقادًا منهم أنه لا سبيل آخر للحل، وأن حالة الضعف الفلسطيني لم تترك لهم من الخيارات إلا التسليم بالواقع وقبول الحلول المعروضة. وأما الفصيل الآخر، فكان المعسكر الحسيني وأنصاره من ناشطي الحزب العربي الفلسطيني وأعضائه وبعض الأحزاب الأخرى الذين رفضوا أيّ تسوية مع البريطانيين والصهاينة، وخاصة تلك التي تدعو إلى تقسيم فلسطين.