Author Search
أستاذ الفلسفة بمعهد الدوحة للدراسات العليا،
رجا بهلول
طرح المحاضر تعريفات متعددة لمفهوم عبور التخصصات
جانب من السيمنار
أثارت مقاربة رجا بهلول نقاشا ثريا بخصوص عبور التخصصات

استضاف برنامج السيمنار الأسبوعي الذي يعقده المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يوم الأربعاء 14 آذار/ مارس 2018، الدكتور رجا بهلول، أستاذ الفلسفة بمعهد الدوحة للدراسات العليا، الذي قدم محاضرةً بعنوان: حول مفهوم عبور التخصصات interdisciplinarity.   

 استعرض المحاضر في البداية دخول المفهوم إلى الأكاديميا العربية، ووصفه بأنه لا يزال غير مألوف نسبيًا، على خلاف الحال في الأدبيات الغربية، حيث يعود تاريخ المفهوم إلى عشرينيات القرن الماضي على الأقل. وأشار إلى أن مفهوم عبور التخصصات بات يحمل معانٍ كثيرةً، تتراوح ما بين تشجيع الاتصال بين الباحثين في حقول مختلفة، وصولًا إلى مقترحات بعيدة الأثر تتضمن دعوات لهدم البنية التخصصية برمتها. وقام بالتمييز بين عدة مستويات يجري الحديث فيها عن عبور التخصصات. وقال إن بعض المفاهيم المقترنة بهذا المصطلح تتسم بالوجاهية، وليس هناك مفرٌ من القبول بها، في حين أن البعض الآخر يتسم بدرجة من الراديكالية التي تجعل منه أمرًا مستحيلًا (بقدر ما هو قابل للفهم بهذا المعنى).

وقدم المحاضر الشروحات التالية لمفهوم عبور التخصصات بالمعنى أو المعاني التي يمكن القبول بها من دون تردد. ويعني عبور التخصصات اقتباس أو استخدام مفاهيم أو نظريات أو معطيات أو مناهج من علم معين في علم آخر كما هي الحال في علم الفيزياء الذي يستخدم الرياضيات أو علم الاجتماع الذي يستخدم علوم الإحصاء أو علم النفس الذي يفيد من معطيات العلوم البيولوجية ونتائجها. وذهب إلى أن ذلك كان دأب التخصصات على الدوام قبل أن يبدأ أحدٌ بالحديث عن عبور التخصصات. كما يعني العبور اشتراك عدة تخصصات في دراسة مسألة أو قضية معقدة ذات جوانب متعددة. وضرب مثلًا على ذلك باشتراك بعض العلوم الطبيعية (الفيزياء، الكيمياء) والعلوم الاجتماعية والاقتصاد والعلوم السياسية وحتى علم الأخلاق في البحث في ظواهر مثل التغير المناخي أو التصحر، أو تخصصات أخرى يمكن أن تستخدم في دراسة مشكلة معقدة ومتعددة الجوانب مثل مشكلة الفقر. لا تفقد أية مساهمات تخصصية هنا هويتها الخاصة بها، ولكنها تتشارك في رسم صورة للموضوع من جوانبه المختلفة على أمل أن يساعدنا ذلك في إيجاد حلول أو رسم سياسات قائمة على وعي بالجوانب المختلفة وتأثيراتها في بعضها. ينطبق هذا النوع من التعاون بين التخصصات أيضًا على الأبحاث التي تجري في دراسات المناطق. أما على صعيد المناهج الدراسية، فيعني عبور التخصصات منهاجًا دراسيًا يجمع مساهمات من تخصصات مختلفة تجتمع لتحقيق أهداف محددة في نطاق تربوي (نظام متطلبات الكلية أو الجامعة أو التعليم العام في الجامعة لأغراض تربوية سابقة على التخصص)، أو نطاق عملي تطبيقي كما هو الحال في كلية الطب أو الصحة العامة أو كليات التربية، حيث لا مفر للمنهاج الدراسي من استخدام مفاهيم ومعطيات ونظريات وتطبيقات من تخصصات مختلفة.

أما عبور التخصصات بالمعنى الراديكالي، فهو ذلك المعنى الذي يقتضي حصول اندماج أو تأليف أو تكامل من نوع شامل أو عميق بين المناهج والمعطيات والنظريات في التخصصات المختلفة، بحيث يغدو من المستحيل إلحاق الحصيلة المعرفية بأي تخصصٍ ذي هوية محددة. يشبّه أحد الكُتاب ما يحدث هنا بعصير الفواكه المعروف باسم "الفخفخينا"، الذي تتمازج فيه عصائر من أنواع مختلفة، والذي يتسم بلون ومذاق لا يمكن أن يعزى إلى أي نوع محدد من الفواكه التي أسهمت في إنتاجه.

 زعم المحاضر أن القول بعبور التخصصات بمعنى تجاوزها وفقدانها للاستقلالية والهوية من خلال حصيلة علمية لا تنتسب إلى حقل تخصصي محدد، هو أمر لا يستقيم. ذلك أن الحقول البحثية العابرة للتخصصات (دراسات التغير المناخي، دراسات الخليج، دراسات المرأة، الدراسات الاستشراقية) ليست حقولًا ذات وجود طبيعي مثل حقل الأجسام المادية (الفيزياء) أو حقل الظواهر الحية (البيولوجيا) أو الظواهر النفسية والاجتماعية (علم النفس والاجتماع)، بل هي من صنع الإنسان والدولة والمجتمع والمؤسسات والممولين والباحثين استنادًا إلى مصالح واهتمامات إنسانية (قد تكون مشروعة تمامًا، مثل السيطرة على تغير المناخ، أو تمكين المرأة) أو قد تكون غير مشروعة (الهيمنة والتوسع الاستعماري).

وشكك المحاضر في إمكانية أن تكون "تربة" المجالات العابرة للتخصص قادرة على تغذية علومٍ بالمعنى المعتاد للكلمة (كما يعرف ذلك من خلال القدرة على إنتاج نظريات تتسم بالكونية أو العمومية التي طالما تميز العلم بها). وفي الختام، خلص إلى أنه ليس من المنطق في شيء أن نترك بنيان العلوم التخصصية من ورائنا للذهاب إلى نمط من الدراسات التي لا يمكن أن تكون علومًا بالمعنى الجاد للكلمة، ولا نجد لها أفضل من هذه التسمية المتكررة "دراسات هذا" أو "دراسات ذاك". كل ما يمكننا قوله إنه من المفيد، بل من الضروري، أن تتعاون التخصصات في بحث القضايا المعقدة متعددة الجوانب، وأن يكون المختصون مستعدين للمناقشة والتعلم من بعضهم. وفي هذا المسعى لا يوجد حاجة إلى مرشد أعلى نسميه الباحث عابر التخصصات the interdisciplinarian  لكي يؤلف أو يركب ويدمج الرؤى والاسبتصارات. فالمختص، على الأقل في أفضل أحواله، ليس Idiot Savant. لذا يمكننا الاكتفاء بالدراسات متعددة التخصصات multidisciplinarity. أما القول بعبور التخصصات interdisciplinarity، وبالمعنى الذي يعطي انطباعًا باختراقات وتكاملات من نوع عميق أو شامل فهو مضلل. والقول بتجاوز التخصصات أو فقدانها للاستقلالية هو أكثر من مضلل؛ ليس فقط لأنه ليس هناك من يقوم بدور التخصصات، بل لأنه يستحيل أن يقوم بدورها شيء آخر. وأعقب المحاضرة نقاشٌ ثري من الحضور.