أستاذة الدراسات الإسلامية والدراسات الدينية المقارنة بالجامعة التونسية
استضاف سيمنار المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالدوحة، يوم الأربعاء 13 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، الدكتورة زهية جويرو، الباحثة في المركز العربي، التي قدمت محاضرة بعنوان "نقد العقل وحدوده في مشروعي أركون والجابري"، تناولت فيها مشروعي محمد أركون ومحمد عابد الجابري في نقد العقل العربي والإسلامي.
استهلت الباحثة محاضرتها ببيان دوافع مشروعي نقد العقل عند كل من الجابري وأركون، مشيرةً إلى أنهما أرادا استئناف مسار نقد العقل الذي قطعه الفكر الغربي بدءًا من رينيه ديكارت وصولًا إلى إيمانويل كانط، من أجل تحقيق التنوير والتحديث في الفكر العربي والإسلامي. وأوضحت أنهما حرصَا على اجتناب التعريفات الماهوية للعقل؛ فنَسبَه الجابري إلى العربية بوصفها لغة، ونَسبَه أركون إلى الإسلام بوصفه دينًا شكّل ذلك العقل.
وانتقلت الباحثة إلى استعراض أهم النتائج التي توصّل إليها كل من الجابري وأركون في نقدهما للعقل العربي والإسلامي، موضحةً حدود تلك النتائج. فناقشت الإطار المرجعي للعقل العربي عند الجابري، ودور علوم البيان في تشكيل العقلانية البيانية، وتساءلت عن كون النظام المعرفي العرفاني نتاجَ "عقل مستقيل"، وعن حدود المعقول واللامعقول في مكونات العقل العربي وبنيته، واقتصار نتائج الجابري على العقل الكتابي دون الشفهي. وعند أركون، أبرزت الباحثة خصائص العقل الإسلامي كما أوضحه، مثل كونه عقلًا دينيًا ومتعددًا تاريخيًا ومدهشًا، وانغلاقه ضمن حدود الوحي، وميّزت بين "عقل إسلامي" و"عقل الإسلام".
وفي تناولها للعقل الناقد عند كل من الجابري وأركون، سلّطت الباحثة الضوء على المرجعيات المنهجية التي استندا إليها، فأشارت إلى الطرح الأيديولوجي والنقد الإبستيمولوجي عند الجابري، وإلى جمعه بين مدارس ومناهج متعددة من دون إعلان صريح عنها. وبالنسبة إلى أركون، تناولت منهجية الإسلاميات التطبيقية التي اعتبرها تسمية أخرى للمقاربة الأنثروبولوجية، وحرصه على التمييز بين العقل الكتابي والشفهي، واعتماده منهجية أفقية-عمودية للانتقال من تاريخ الأفكار إلى تاريخ أنظمة الفكر، والتعدد المنهجي في عمله النقدي.
وختمت الباحثة محاضرتها بتأكيد أهمية مشروعي نقد العقل عند كلّ من الجابري وأركون في تقديم إسهام غير مسبوق يبشّر بتحرير العقل العربي والإسلامي، وحرص كليهما على إثبات أصالة العقل الناقد لديهما وجِدّته، عَبْر الجمع بين منهجيات ومقاربات جديدة والعمل على تبيئتها حتى تكون ملائمة لموضوع النقد.
وقد عقّبت الدكتورة نايلة أبي نادر، أستاذة الفلسفة العربية والإسلامية في الجامعة اللبنانية، على المحاضرة، مُثمِّنة جهد الباحثة في تحليل مشروعَي نقد العقل عند أركون والجابري ومقارنتها بينهما. وأضافت أبي نادر أن الباحثة ركزت كثيرًا على إسهامات الجابري مقارنةً بإسهامات أركون، مشيرةً إلى أهمية ما قدّمه الأخير في مجال نقد العقل الإسلامي. وتساءلت عن سبب اقتصار الباحثة على كتابين لكل من الجابري وأركون، في حين أن المشروع النقدي للجابري تضمّن أعمالًا أخرى مهمة مثل نقده للعقل السياسي العربي. وأبدت أبي نادر أيضًا تحفّظها عن تقسيم الجابري للمشرق والمغرب، وأشارت إلى أنه لا يمكن حصر محمد أبي نصر الفارابي في المعرفة العرفانية، وأنّ أبا علي الحسين بن سينا اشتغل بالفلسفة الإشراقية إلى جانب المنطق، وأنه "من الظلم" اختزال العقلانية في أبي الوليد محمد بن رشد والبنية المعرفية المغربية. وبالنسبة إلى أركون، أكدت أبي نادر أهمية تسليطه الضوء بقوة على الفكر الأسطوري وقضايا نقد العقل الديني؛ إذ ميّز بين معنيَين للدين والعقل الديني واللاهوت السياسي، وانتقل إلى الحديث عن تعدّد الإسلام بين الظاهرة القرآنية والظاهرة الإسلامية.
واختلفت أبي نادر مع جويرو في تشابه تعامل أركون والجابري مع المصادر والمنهج، مشيرةً إلى أن التراث جمعهما من حيث الموضوع، وأنّ المنهج فرّقهما، وأنّ الجابري تحاشى التطرق إلى مواضيع العقيدة، في حين أنّ أركون تناولها على نحو صريح. ورأت أن جوهر مشروع أركون يمكن اختزاله في مفهوم التاريخية؛ ذلك أنه سعى لإثبات تاريخية العقل وربط الوعي بالتاريخ، وهو ما يتطلب الاشتغال به بعمق، وعدم التعامل معه دفعة واحدة. وختمت أبي نادر تعقيبها بتأكيد أهمية إدخال الجابري وأركون مفهومَ النقد إلى المجال الفكري العربي، ومحاولة أركون نَقْل المعارف الحداثية من السياق الغربي للاستفادة منها في السياق العربي الإسلامي.
وقد شهد السيمنار نقاشًا ثريًّا، طرح فيه المشاركون من باحثي المركز العربي وأساتذة معهد الدوحة للدراسات العليا وطلابه العديد من الموضوعات المتعلقة بنقد العقل العربي والإسلامي، وإشكالية المعقول واللامعقول في الفكر العربي الإسلامي، إضافةً إلى طَرْح أسئلة كثيرة مرتبطة بإمكانات تجاوز الإطار النظري إلى مجالات تطبيقية عملية لنتائج هذه المشاريع النقدية في الواقع الفكري العربي المعاصر.