استضاف سيمنار المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالدوحة، يوم الأربعاء 30 نيسان/ أبريل 2025، الدكتور رائد السمهوري، الباحث في المركز العربي، الذي قدَّم محاضرته بعنوان: "من ’الأحكام السلطانية‘ إلى ’السياسة الشرعية‘: السياسة والفقه، تساوٍ أم تداخل؟ دراسة في فكر الماوردي، والجويني، وابن تيمية"، وشارك فيه بالتعقيب الأستاذ الدكتور أحمد الريسوني، أستاذ كلية الشريعة في جامعة قطر.
استهل الباحث السيمنار بتأكيد أهمية تحديد المفاهيم الثلاثة الرئيسة التي يدور حولها البحث: الفقه، الشريعة، والسياسة. وأوضح أن الخلط بين هذه المفاهيم أو عدم ضبطها يؤدي إلى أخطاء معرفية ومنهجية، سواء على مستوى الفهم الذاتي أو التأثير في الآخرين. وبيّن أن الفقه، في تعريفه السائد، هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية، مستبعدًا بذلك الأحكام الاعتقادية والضرورية التي لا تحتاج إلى اجتهاد. أما الشريعة، فقد أشار إلى أن معناها الأصلي في القرآن هو الإسلام نفسه، لكنها مع تطور الدرس الفقهي صارت تُطلق على علم الفقه، بينما السياسة عند الفقهاء تدور حول تدبير شؤون الرعية بما يحقق المصلحة، سواءٌ أكانت على مقتضى الشريعة أو لا تخالفها، مميّزًا بين هذين المستويين.
توقف الباحث عند تطور مفهوم السياسة في الفكر الإسلامي، مشيرًا إلى أن مصطلح السياسة لم ينشأ من اجتهاد الفقهاء، بل جاء من واقع السلطة وكتّاب البلاط، ثم تسلل إلى المدونات الفقهية في القرن الخامس الهجري. واستعرض نصوصًا تاريخية وأدبية تبرز كيف ارتبطت السياسة السلطانية بالعقوبات الخارجة عن حدود الشرع، وكيف تعامل الفقهاء مع هذه الظواهر، إما بالاستيعاب أو بالنقد.
وفي هذا السياق، عرض الباحث نماذج من التمييز بين السياسة والفقه في أعمال ثلاثة من كبار الفقهاء: الماوردي، والجويني، وابن تيمية. فأوضح أن الماوردي، في كتابه "الأحكام السلطانية"، كان أول من ميّز بوضوح بين وظيفة السياسي ووظيفة الفقيه، فخصّ الأمراء بجملة من الصلاحيات والاجتهادات، وخصّ القضاة بغيرها، مستندًا إلى واقع ديوان المظالم وتعدد جهات التقاضي. أما الجويني، فقد انتقد هذا الفصل، واعتبر أن السياسة يجب أن تكون تابعة للشريعة، وأن الرأي السياسي لا يجوز أن يخرج عن مقتضى الشرع. في حين جاء ابن تيمية ليعيد النقاش إلى جذوره، فانتقد قصور القضاة في الاجتهاد، ورفض الفصل بين الشرع والسياسة، داعيًا إلى سياسة شرعية منبثقة من الشريعة نفسها، لا من تقديرات السلاطين وحدهم.
وأجاب الباحث عن سؤاله المركزي: العلاقة بين السياسة والفقه علاقة تساوٍ أم تداخل؟ بأن العلاقة بين المفهومَين ليست علاقة تساوٍ مطلق ولا تباين تام، بل هي علاقة عموم وخصوص وجهي (أو تداخل جزئي)؛ فهناك أحكام تجمع بين الفقه والسياسة والشريعة في آن، كما في قرار إغناء الفقراء مثلًا، وهناك مجالات يختص بها كل طرف. وأكد أن السياسة السلطانية المصلحية، كما تطورت تاريخيًّا، صارت في كثير من الأحيان أحكامًا مستقلة عن الاجتهاد الفقهي المحض، وأن ترك تقدير المصالح للسلاطين وحدهم أدى إلى تضخم دور السلطة على حساب الفقهاء.
واستعرض الباحث أمثلة تاريخية على تداخل السياسة والفقه، من تمييز الماوردي بين التأديب الشرعي والتأديب السلطاني، إلى نقد الجويني للعقوبات الخارجة عن الشريعة، وصولًا إلى ابن تيمية الذي حاول إعادة الاعتبار للسياسة الشرعية. وتوقف عند مثال قانون قتل الإخوة في الدولة العثمانية، الذي أجازه باسم المصلحة بعض الفقهاء، مع تحفظ آخرين، ليؤكد أن الفقهاء لم يكونوا دائمًا في موقع الاستقلال عن السلطة، بل أحيانًا تحولوا إلى أداة لإضفاء الشرعية على قرارات سياسية جائرة.
أثنى الدكتور أحمد الريسوني، في تعقيبه، على السيمنار، واعتبر أن موضوعه يتصل بجوهر مشكلات الأمة عبر التاريخ. وناقش مصطلح السياسة عند الفقهاء، مؤكدًا أن السياسة ليست طارئة ولا دخيلة على الفكر الإسلامي، بل هي من صميم الرسالة الدينية، مستشهدًا بحديث النبي: "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء"، وباستعمالات السياسة في القرآن والحديث. وأشار إلى أن الفقهاء الكبار، كالإمام الطبري وأبي بكر القفال، استخدموا مصطلح السياسة بمعناه الإيجابي قبل القرن الخامس الهجري، وأن السياسة الشرعية هي تدبير شؤون الرعية بما يصلحهم في دينهم ودنياهم.
وأضاف الريسوني أن المشكلة لم تكن في وجود السياسة ضمن الدين، بل في استبداد السلاطين الذين فصلوا السياسة عن الشريعة، أو جعلوا الفقهاء أداة لتبرير قراراتهم. ولفت إلى أن الإمام مالك اشترط في من يتولى تقدير المصالح أن يكون مجتهدًا متكيّفًا بأخلاق الشريعة، محذّرًا من أن الجهل بأصول الشريعة يؤدي إلى الانحراف في تقدير المصالح.
وأعقب السيمنار نقاش ثري، شارك فيه نخبة من باحثي المركز العربي وأساتذة معهد الدوحة للدراسات العليا وطلابه، وقد تناول النقاش العلاقة بين السياسة والفقه في التاريخ الإسلامي، وطبيعة العلاقة المركبة بينهما في الفكر الإسلامي، إضافة إلى التاريخ الاصطلاحي للفظ "السياسة".