باحثة في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. دبلوماسية سابقة في منظمة الأمم المتحدة، وشغلت عدة وظائف إعلامية في إدارة الشؤون الإعلامية في الأمم المتحدة
استضاف سيمنار المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالدوحة، يوم الأربعاء 5 شباط/ فبراير 2025، الباحثة في المركز عائشة البصري، التي قدّمت محاضرة بعنوان "محررو فرنسا المسلمون: قراءة ديكولونيالية للتأريخ الفرنسي للحرب العالمية الثانية"، تناولت فيها فصلًا من كتاب جماعي تشارك في تحريره عنوانه الأوّلي: "الحلفاء المنسيون: كشف إسهامات المسلمين في انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية".
انطلقت البصري في عرضها من تفكيك مفهوم "المقاوموية" Résistancialisme في التأريخ الفرنسي للحرب، والذي يشير إلى الأسطورة القائلة بأنّ فرنسا حررت نفسها بنفسها بفضل المقاومة الفرنسية وسياسات الجنرال شارل ديغول. وأشارت إلى ترسّخ هذه الفكرة في الذاكرة الجماعية الفرنسية منذ خطاب ديغول في 25 آب/ أغسطس 1944، الذي أكد فيه أنّ "باريس المحررة تحررت بنفسها، بشعبها".
وأوضحت أنّ تفكيك خطاب المقاوموية ظل محصورًا في ثنائية المقاومة والتعاون مع النازيين، متجاهلًا سعي هذا الخطاب إلى محو صورة الجنود المستعمَرين، خاصة القادمين من شمال أفريقيا، بوصفهم محررين لمستعمريهم. فقد ضمّت الجيوش الفرنسية مئات الآلاف من العسكريين المغاربيين (من الجزائر والمغرب وتونس)، الذين كانوا يُعرفون آنذاك بـ "السكان الأصليين".
وحددت الباحثة أربع آليات رئيسة ساهمت في تهميش دور المقاتلين المغاربيين في التحرير، تمثّلت في: تصويرهم على أنهم "وقود للمدافع"، والتقليل من دورهم القيادي في القتال في المدة 1942-1945، وطمْس مشاركتهم في تحرير الأراضي الفرنسية الأولى، إضافةً إلى سياسات التهميش المتعمدة عبر قنوات الإعلام والعروض العسكرية وسياسات الاندماج.
واستندت في قراءتها إلى تقليد فكري مغاربي قديم في تفكيك الاستعمار في التاريخ، بدأه المؤرخ الجزائري محمد الشريف صالحي والمفكر المغربي عبد الله العروي في الستينيات والسبعينيات، والذي يهدف إلى إعادة فحص السرديات التاريخية التقليدية من منظور الشعوب المستعمَرة التي همّشتها المقاربات الاستعمارية.
وأكّدت البصري أنّ الفشل في الاعتراف بإسهام المسلمين في الحرب العالمية الثانية خلّف فجوات في السجل التاريخي استغلتها الحركات اليمينية المتطرفة في أوروبا والجماعات الصهيونية المؤيدة لإسرائيل. فمنذ السبعينيات، غذّى صعود اليمين المتطرف في أوروبا الخطاب القائل بأن المسلمين غرباء عن الغرب ولم يقدّموا أيّ مساهمة في رفاهه، بينما روّج السياسيون الإسرائيليون فكرة وجود صلة بين الإسلام والنازية، رغم التقليل من دور الملايين الذين حاربوا مع الحلفاء، وتضخيم أدوار قلة ممّن تعاونوا مع النازيين.
بناءً عليه، رأت الباحثة ضرورة تصحيح السردية التاريخية، واستعادة الموقع الحقيقي للمسلمين في التاريخ العالمي، عبر جهود جماعية لإعادة كتابة تاريخ الحرب العالمية الثانية بطريقة تبرز الدور المحوري للجنود المسلمين، وخاصة المغاربيين، في تحرير أوروبا من الاحتلال النازي.
وفي التعقيب على المحاضرة، أشاد الدكتور إدريس مغراوي، الأستاذ المشارك في التاريخ والعلاقات الدولية في جامعة الأخوين، بمحاولة البصري في تفكيك المنظورات الاستعمارية للتاريخ، وتسليط الضوء على الفجوات والتشوهات في السرديات السائدة التي همّشت إسهامات الشعوب المستعمَرة في الحرب العالمية الثانية. وقدّم مغراوي عدة ملاحظات ومقترحات لتعزيز أطروحتها: أولًا، أكّد ضرورة التركيز على خصوصية الحالة المغاربية في تجربة الجنود المستعمَرين، وأهمية توضيح آليات محو ذاكرتهم من السردية الفرنسية على نحوٍ أكثر تفصيلًا. ثانيًا، لفت الانتباه إلى الإشكالية في الاستناد إلى عبد الله العروي مثالًا على التأريخ من خارج النموذج القومي، نظرًا إلى أنّ مقاربة العروي نفسها تندرج ضمن المنظور القومي الذي تسعى البصري لتحدّيه.
وشدد على ضرورة الانتباه إلى عدم تجانس السرديات الفرنسية حول الجنود المستعمَرين، والتمييز بين آليات المحو الكامل لذاكرتهم وآليات الاستيلاء على قصصهم وتوظيفها من منظور استعماري أبوي. وختم بتأكيد أهمية العمل الذي تقوم به البصري في سبيل تفكيك الأساطير الاستعمارية في التأريخ، وتسليط الضوء على الفجوات والتشوهات في السرديات السائدة، داعيًا إلى مزيد من الجهود لاستعادة الأصوات المهمّشة والأدوار المنسيّة للشعوب المستعمَرة في كتابة تاريخها.
وقد شهد السيمنار نقاشًا ثريًّا حول آليات إعادة كتابة التاريخ ومواجهة الخطابات الاستعمارية المهيمنة، والحاجة إلى استعادة الأصوات المهمّشة والأدوار المنسيّة للشعوب المستعمَرة في الأحداث التاريخية، شارك فيه نخبة من الباحثين والأكاديميين في المركز العربي، إضافةً إلى أساتذة معهد الدوحة للدراسات العليا وطلبته.