استضاف سيمنار المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالدوحة، يوم الأربعاء 16 تشرين الأول/ أكتوبر 2024، الدكتور رجا بهلول، أستاذ ورئيس برنامج الفلسفة في معهد الدوحة للدراسات العليا، الذي قدّم محاضرة بعنوان "الثقافة السياسية: سبب أم نتيجة؟". تناولت العلاقة السببية بين الثقافة السياسية والنظام السياسي، واتجاه هذه العلاقة.
استهل الباحث محاضرته بالإشارة إلى أهمية دراسة العلاقة السببية بين الثقافة السياسية والنظام السياسي، مؤكدًا أن هذا البحث ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة لفهم آليات التغيير السياسي وتحديد استراتيجياته. وطرح سؤالًا محوريًا عن الثقافة السياسية إن كانت سببًا في تشكيل النظام السياسي أم نتيجة له.
وأيّد الباحث الموقف الذي يمنح الثقافة السياسية، في التحليل الأخير، دور السبب. مع ذلك، أقرّ بأن هناك صورة أخرى يمكن فيها النظر إلى الثقافة السياسية جزئيًا، باعتبارها نتيجة لنشاطات تُنسب إلى موجودات جماعية، مثل المؤسسات والنظام السياسي والمجتمع. واستعرض آراء عدد من المفكرين والفلاسفة في هذه المسألة، بدءًا من أرسطو وصولًا إلى مفكرين معاصرين.
وقدّم الباحث حجة تتكون من مقدمتين: الأولى أن الثقافة السياسية تحيل في الأساس إلى الأفراد، والثانية أن الحقائق الفردية تحدد جميع الحقائق الاجتماعية. وشرح هاتين المقدمتين بالتفصيل، مستعينًا بأمثلة وتحليلات فلسفية. فيما يتعلق بالمقدمة الأولى، أوضح أن الثقافة السياسية تُفهم من خلال دراسة معتقدات الأفراد ومواقفهم وسلوكياتهم، وليس من خلال استجواب المؤسسات أو الكيانات فوق الفردية.
أما المقدمة الثانية، فقد شرحها من خلال مناقشة ظاهرة التغيير وكيفية حدوثها على مستوى الأفراد والأنظمة السياسية. وأكد أن التغييرات في الأنظمة السياسية لا يمكن أن تحدث من دون تغييرات مسبقة على مستوى الأفراد، في حين أن الأفراد يمكنهم أن يتغيروا من دون أن يؤدي ذلك بالضرورة إلى تغيير في النظام السياسي.
واستنتج من هاتين المقدمتين أن السببية هي فعالية يحملها الأفراد فقط على أكتافهم، وأن العلاقات السببية تسري من الثقافة السياسية إلى النظام السياسي. ومع ذلك، أقر الباحث أن هذا لا ينفي وجود تأثير للنظام السياسي في الثقافة السياسية، لكنه اعتبره تأثيرًا ثانويًا وغير مباشر.
وناقش الباحث إمكانية قيام النظام السياسي بدور في تشكيل الثقافة السياسية من خلال إصدار القوانين وتوجيه النظم التربوية. لكنه أكد أن هذه التأثيرات تمر حتمًا عبر الأفراد، ومن ثمّ تظل الثقافة السياسية في جوهرها نتاجًا للأفراد وليس للنظام السياسي بصفة مباشرة. وتطرق إلى مسألة العلاقة بين الثقافة السياسية والديمقراطية، مشيرًا إلى آراء عدد من الباحثين الذين يرون أن النظام الديمقراطي يتطلب ثقافة سياسية متوافقة معه. وناقش الباحث هذه الآراء في ضوء حجته الرئيسة حول أولوية الثقافة السياسية في العلاقة السببية مع النظام السياسي.
وتناول الباحث أيضًا إشكالية تحديد العلاقة السببية بين الثقافة السياسية والنظام السياسي في سياق الدراسات التجريبية، مشيرًا إلى صعوبة فصل التأثيرات المتبادلة بين المتغيرين. ودعا إلى ضرورة إعادة النظر في تفسير بعض النتائج التجريبية في ضوء الإطار النظري الذي قدمه.
وختم الباحث محاضرته بتأكيد أهمية فهم العلاقة بين الثقافة السياسية والنظام السياسي، لتطوير استراتيجيات فعالة للتغيير السياسي. وأشار إلى أن التركيز على تغيير الثقافة السياسية قد يكون أكثر جدوى في المدى الطويل من محاولات تغيير النظام السياسي مباشرةً.
وعقّب الدكتور أدهم صولي، أستاذ العلوم السياسية ورئيس برنامج الدراسات الأمنية في معهد الدوحة، على المحاضرة بتسليط الضوء على عدة نقاط جوهرية. فأكد ضرورة وضع النقاش في سياقه الاجتماعي والسياسي والتاريخي، متسائلًا عن طبيعة السببية المقصودة في العلاقة بين الثقافة السياسية والنظام السياسي. وشدد على أهمية تفكيك مفهوم الثقافة السياسية، مشيرًا إلى أن الثقافة في حد ذاتها لا تفعل ولا تسبب، بل إن الفاعلين هم الذين يؤثرون ويتأثرون.
وانتقد صولي التركيز على الأفراد دون الجماعات والمؤسسات في تحليل التفاعلات السياسية، داعيًا إلى تبني نهج أكثر شمولية يأخذ في الاعتبار العلاقات المتبادلة بين مختلف العناصر الاجتماعية والسياسية. وختم تعقيبه بطرح أسئلة مهمة عن دور الثقافة في التحول الديمقراطي وتأثير التنوع الثقافي في الأنظمة السياسية.
وقد أثار السيمنار اهتمامًا كبيرًا بين الحضور، نظرًا إلى أهمية الموضوع في فهم ديناميكيات التغيير السياسي في العالم العربي والعالم عمومًا.
أعقب السيمنار نقاشٌ موسّع شارك فيه باحثون وأكاديميون من المركز العربي ومعهد الدوحة. وتناول قضايا متعددة، منها إشكالية تحديد العلاقة السببية بين الثقافة السياسية والنظام السياسي في سياقات تاريخية وثقافية مختلفة. وتطرق النقاش أيضًا إلى أهمية دراسة الحالات التاريخية التي شهدت تغييرات جذرية في النظم السياسية وتأثيرها في الثقافة السياسية للمجتمعات. إضافة إلى ذلك تناول النقاش إمكانيات توظيف هذه الأفكار في فهم وتحليل التحولات السياسية في العالم العربي المعاصر.