عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات يوم السبت 24 شباط/ فبراير 2018 ندوة أكاديمية بعنوان "قرار نقل السفارة الأميركية ووضع القدس القانون والسياسي"، وتأتي هذه الندوة عقب إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب في 6 كانون الأول/ ديسمبر 2017، اعترافه بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال الإسرائيلي ونقل السفارة الأميركية إليها أواخر عام 2019. وتنبع أهمية الندوة من أن القرار جاء في سياق مسعى أميركي - إسرائيلي مكشوف لفرض أمر واقع على الفلسطينيين وإخراج القدس من دائرة التفاوض، مستفيدين من الوضع السياسي العربي المتردي، واستكمالًا لعملية السيطرة على المدينة وفرض السيادة الإسرائيلية عليها.

افتتح الدكتور مروان قبلان، الباحث في المركز العربي ومدير وحدة تحليل السياسات، أعمال الندوة بكلمة تناول فيها السياسات الأميركية نحو القدس، ورأى أنه بعد قطيعة استمرت سبعة عقود أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب يوم 6 كانون الأول/ ديسمبر 2017 اعتراف إدارته بالقدس عاصمةً لإسرائيل، كما وجّه وزارة الخارجية لـ "بدء التحضيرات لنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس". وأوضح قبلان أن الكونغرس الأميركي قد تبنى بأغلبية كبيرة من الحزبين "قانون سفارة القدس" عام 1995، ونص على ضرورة نقل السفارة الأميركية إلى القدس في سقفٍ زمني لا يتجاوز 31 أيار/ مايو 1999. إلا أن هذا القانون تضمن بندًا يسمح للرئيس الأميركي بتوقيع إعفاء مدة ستة أشهر إذا رأى أنه ضروري لـ "حماية المصالح الأمنية القومية الأميركية". ومنذ إدارة الرئيس بيل كلينتون، والإدارات الأميركية المتعاقبة توُقّع الإعفاء تلقائيًا كل ستة أشهر، على الرغم من أنّ المرشحين للرئاسة كانوا يَعِدون بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس.

الوضع القانوني لمدينة القدس

تناولت الجلسة الأولى التي ترأسها عبد العزيز الخليفي، عميد كلية القانون في جامعة قطر، دراسة الأبعاد القانونية للاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة لإسرائيل، وتحليلها. فقد عالج أنيس قاسم مسألة مخالفة قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب نقل السفارة الأميركية إلى القدس لأحكام القانون الدولي وقواعده ومبادئه. وأرجع ذلك إلى مبدأين؛ أولهما يجرّم اكتساب أراضي "الغير" بالقوة، وثانيهما يجرّم شروع أي دولة في تنفيذ قوانين فردية لا تتماشى وأحكام القانون الدولي ومبادئه. وقد قام الباحث قاسم بمناقشة الإشكاليات القانونية التي تواجه قرار ترامب من منظور القانون الدولي، إذ إن الاعتراف بالقدس لا يعرِّف بدقة أيّ "قدس"، ولا سيما أن إسرائيل ضمت إلى القدس الشرقية بعد عام 1967، عشرة أضعاف مساحتها. إضافة إلى خلط السياسي بالأسطورة الدينية؛ حين يعترف الرئيس بـ "الشعب اليهودي"، مخالفًا بذلك موقفًا رسميًا أميركيًا معلَنًا منذ عام 1964.

وعلى مستوى موازٍ، وصفت الباحثة سلمى كرمي أيوب السياسات الإسرائيلية في القدس، التي تقوم على أساس التخطيط والتقسيم المفروضَين من سلطات الاحتلال على المناطق الفلسطينية والفلسطينيين في القدس، ومن بينها هدم المنازل وتوسيع المستوطنات والاعتقالات، بأنها جريمة. حاولت الباحثة أن تبيّن محاولات إسرائيل تغيير الطابع الديموغرافي للقدس. وعلى نطاق أوسع، تناولت المخالفات الإسرائيلية للقانون الجنائي الدولي، وركزت على ضرورة الاستفادة من القانون الدولي في مواجهة جرائم إسرائيل في الأراضي الفلسطينية؛ بوصفها ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية.

أما الباحث والمحامي علاء محاجنة، فقد عالج في مداخلته الأدوات القانونية التي تستغلها إسرائيل للسيطرة على القدس ولتغيير طابعها الديموغرافي والمكاني؛ وذلك من خلال قراءة وتحليل لأهم هذه القوانين، ولا سيما بعد قرار ترامب المتمثّل بالاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل، وهو قرار يُعدّ بمنزلة إقرار للممارسات الإسرائيلية في المدينة منذ عام 1948 وشرعنتها. وأشار محاجنة إلى أن إسرائيل هدفت من القوانين الإسرائيلية إلى تغيير الميزان الديموغرافي من خلال سحب إقامة الفلسطينيين في القدس. وعلى هذا الأساس، تمّ سحب ما يقارب 16 ألف إقامة من المقدسيين منذ عام 1967. وفضلًا عن ذلك، أخرجت إسرائيل بعض التجمعات الفلسطينية خارج جدار الفصل العنصري. كما تطرق محاجنة إلى الخيارات الفلسطينية المتاحة لمواجهة هذه السياسات، وبيّن أنّ مواجهة مشروع تهويد القدس، وإعلان ترامب بوصفه جزءًا منه، أمرٌ يقتضي صياغة مشروع مضاد، وإستراتيجية واضحة ذات أبعادٍ مختلفة على المستويين الرسمي والشعبي، يكون هدفها الأساسي تعزيز صمود أهل القدس في وجه السياسات والممارسات الإسرائيلية.

قراءة التغيرات الديموغرافية والجغرافية لمدينة القدس

ناقشت الجلسة الثانية مسألة الصراع الديموغرافي والجغرافي في مدينة القدس، وقد ترأسها ماجد الأنصاري، أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة قطر. درست الباحثة دانا الكرد أنماط التعبئة الفلسطينية في القدس ودور السلطة الفلسطينية، معتبرةً أن موضوع التعبئة في القدس مَرَّ بثلاث فترات زمنية مختلفة خلال الفترة 1967-2018. وترى الباحثة أن القدس شكلت، قبل توقيع اتفاقية أوسلو، حجر الزاوية في العمل السياسي بين منظمة التحرير في الخارج والفلسطينيين، ولكن بعد الانتفاضة الثانية فقدت القدس أهميتها وأهمية المؤسسات التي تعمل فيها؛ بسبب انتقال المؤسسات المقدسية إلى رام الله، واعتماد المقدسيين على السلطة والمكاسب المهنية على نحو مقابل للصالح العام. وترى الكرد أن ممارسات السلطة أثرت في تبدّل العمل الجمعي في القدس، وتركت آثارًا وخيمة في التماسك الاجتماعي بعد فترة أوسلو؛ ما يعني أن السلطة كان لها أثر سلبي في قدرة المقدسيين على العمل الجماعي. وتخلص إلى أن العامل الأساسي الذي يوضح وجود مظاهرات في القدس أكثر من الضفة الغربية يعود إلى أن السلطة ليس لها تأثير في التماسك الاجتماعي في القدس، بينما يعاني الفلسطينييون معاناة أكبر في الضفة الغربية؛ بالنظر إلى تأثير السلطة في التماسك الاجتماعي.

أما الباحث خليل تفكجي، فقد تطرق في دراسته إلى أثر السياسة الإسرائيلية في القدس؛ من خلال التغييرات الجغرافية المتمثلة بالمشاريع الاستيطانية، ومصادرة الأراضي، وتهويد المدينة وعزلها عن الضفة الغربية؛ عن طريق إقامة جدار الفصل العنصري. وأشار الباحث إلى أن الإستراتيجية الإسرائيلية تجاه التجمعات والقرى الفلسطينية تقوم على إحاطة، أو تقطيع، أو تفتيت، للتجمعات الفلسطينية. وبيّن أن القدس منذ الفترة العثمانية مرت بتحولات جغرافية وديموغرافية أخذت توظيفات اصطلاحية مختلفة؛ مثل القدس الشريف، والقدس الشرقية، والقدس الموحدة. ويرى تفكجي أن القدس منذ احتلالها عام 1967 سعت لخلق واقع تقتلع من خلاله السكان الفلسطينيين وإحلال المستوطنين محلّهم، وتغيير المعالم التاريخية العمرانية والثقافية. وتوصّل الباحث إلى نتيجة مفادها أن سلطات الاحتلال خلقت واقعًا سياسيًا وديموغرافيًا جديدًا في القدس عن طريق مصادرة الأراضي وبناء المستعمرات، وبناء مناطق خضراء، وتنفيذ سياسة هدم البيوت، ورفض منح تراخيص البناء. وقد أدت هذه الانتهاكات في حق الفلسطينيين إلى خلق خلل ديموغرافي يُستخدم وسيلةً للضغط في أيّ مفاوضات ضد الطرف الفلسطيني؛ من أجل إنجاز اتفاقيات تخدم المصالح الإسرائيلية.

ركز الباحث راسم خمايسي في دراسته على مصفوفة الضبط والتغييرات الديموغرافية والحضرية. واستند في دراسته إلى وصفٍ وتحليلٍ نقدي لمصفوفة الضبط الذكية التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي؛ لإحداث التغييرات الديموغرافية والحضرية الفلسطينية في القدس. ويرى الباحث أن إسرائيل تسعى من خلال مصفوفة الضبط لصياغة الخطاب واللغة، وهندسة الوعي والسلوك؛ لخلق حالة ردة الفعل، وليس الفعل. وقد أشار إلى أن سلطات الاحتلال تطبق هذه المصفوفة من أجل خلق واقع "مُؤَسرَل" يصعب تغييره، بحيث تبسط به سيطرتها على المدينة، وحَولها، عن طريق تغيير الواقع الديموغرافي والجغرافي والمؤسساتي. كما وضح الباحث أن خطة القدس لعام 2050 تستهدف تطوير الطرق لاستيعاب أعداد كثيرة من المستوطنين والسياح على حساب المواطن الفلسطيني؛ لهذا تسعى إسرائيل لخلق واقع مغاير يتمّ فيه تغييب وتجاهل لمكان السكان الفلسطينيين الأصليين الذي يمرون بمراحل تمدّن، استنادًا إلى فرض القانون المحلي الإسرائيلي، بدلًا من القانون الدولي المستحق.

جاءت دراسة الباحث فرانشيسكو كيودلي حول أثر السياسات الحضرية التي تطبقها سلطات الاحتلال من أجل إعادة تشكيل القدس. وبحسب الباحث، تتمثل هذه السياسات – أساسًا - بالتوسّع اليهودي في القدس الشرقية الذي تعزّزه إسرائيل؛ من أجل بناء مجموعة من الأحياء السكنية الإسرائيلية، وقد أشار في هذا السياق إلى أن 50 ألفًا من الوحدات السكنية الاستيطانية بُنيت في المنطقة المحتلة من القدس الشرقية، وهذا يعني أن 40 في المئة من السكان اليهود يعيشون في هذه المنطقة. وأشار كذلك إلى أن ثمة سياسة إسرائيلية لاحتواء النمو السكاني العربي، وهي تستهدف الإبقاء على الفلسطينيين في القدس الشرقية تحت الهيمنة الإسرائيلية، وعدم السماح بتوسع الأحياء العربية؛ وفقًا لخطط وسياسات وقوانين حضرية إسرائيلية. ويرى أن نتيجة هاتين العمليتين المتزامنتين، هي نشوء مدينة ثنائية تحت سيطرة سلطات الاحتلال، ولكنها - من الناحية الفعلية - غير قابلة للتجزئة. وبعبارة أخرى، فإن نحو 30 إلى 50 في المئة من المنازل الفلسطينية تصنف على أنها "غير قانونية" وهذا يجعلها في وضع حرج ويعرضها لخطر الإزالة.

الاعتبارات السياسية لقرار نقل السفارة الأميركية

بحثت الجلسة الأخيرة في الاعتبارات السياسية لقرار نقل السفارة الأميركية إلى مدينة القدس، وقد ترأسها الدكتور عبد الفتاح ماضي، الباحث في المركز العربي. درس الباحث كلايد ويلكوكس الاعتبارات الداخلية الأميركية لقرار نقل السفارة، ولا سميا أن الأميركيين لا يهتمون بالسياسة الخارجية، حتى أن كثيرًا منهم لا يعرف موقع روسيا أو إيطاليا على الخريطة.

وبحسب الباحث، تأمل الإدارة الأميركية من هذه الخطوة أن تحرف الأخبار بعيدًا عن مسارات داخلية ذات صلة؛ مثل التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية، وغيرها من الفضائح، ساعيةً لكسب رضا قاعدتها الإنجيلية وبعض الأطراف المانحة الرئيسة، وجعل الرئيس يبدو حاسمًا وجريئًا.

على الصعيد ذاته ناقش أسامة أبو ارشيد دوافع قرار نقل السفارة الأميركية وأبعاده، ورأى أن القرار الأميركي يصبّ في اتجاه ما يسمى صفقة القرن، وأنّ هذا القرار يرتكز على أربعة أبعاد، هي: شخصي سياسي مرتبط بالرئيس دونالد ترامب، وزعمه أن القرار يدعم مصالح الطرفين بعملية السلام، والتزامه بالوعود التي منحها لناخبيه، إضافة إلى الضغوط الداخلية للّوبي الصهيوني. واعتبر أبو ارشيد أن هذا القرار يعدّ ضربة قوية لطموحات الفلسطينيين إزاء مشروعهم السياسي الذي استمر سنوات عديدة، والذي قام على دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية على حدود الرابع من حزيران عام 1967. إن مشروع السلطة الفلسطينية السياسي لم يكن يومًا أرضية حقيقية للمفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وقد كشف الباحث أن الفلسطينيين في الوقت الراهن يعيشون واقعًا فلسطينيًا وعربيًا صعبًا؛ لهذا ينبغي ألا يتوقعوا تغيير حسابات الولايات المتحدة بقرارٍ ذاتي من قبلهم.

أما الباحث إبراهيم فريحات، فقد قدم دراسته حول أثر قرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس في مستقبل الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي. كما تناول في دراسته الآثار الناتجة من قرار الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمةً للكيان الإسرائيلي على أكثر من صعيد. فمن الناحية التفاوضية، يرى أن القرار عقّد مسار العملية التفاوضية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ومن جهة ثانية فإنّ قرار الاعتراف قد أعطى هامشًا تفاوضيًا للفلسطينيين، بعيدًا عن احتكار الراعي الأميركي لعملية الوساطة بين الطرفين. واعتبر فريحات أن ما حدث عبارة عن "كامب ديفيد جديدة"؛ لم يحصل فيها العرب على شيء. أخيرًا، قدّم الباحث ملامح إستراتيجية سياسية في شكل توصيات بشأن ما يمكن الفلسطينيين القيام لبناء "إستراتيجية وطنية"؛ من أجل مجابهة التحديات الجديدة التي فرضها قرار الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمةً للكيان الإسرائيلي. ورأى أن هذه الإستراتيجية لا بد من أن تقوم على الصمود على الأرض، وأنه على المقدسيين، تحديدًا، الصمود في القدس ومجابهة مشاريع الاحتلال وسياساته، والعصيان المدني ووقف التنسيق الأمني، وتحويل السلطة الفلسطينية إلى سلطة مقاومة، ونضال النخب.

اختتمت الجلسة بدراسة قدمها أديب زيادة حول إمكانية قيام الاتحاد الأوروبي برعاية عملية السلام، بدلًا من واشنطن في ضوء بحث السلطة الفلسطينية عن رعاية بديلة لعملية السلام. وبحسب رأيه، فإن التعويل على الاتحاد الأوروبي راعيًا جديدًا لعملية السلام يشوبه الشك، على الرغم من موقفه المنسجم مع قرارات الأمم المتحدة في حق القدس؛ وهو المكتفي بدور الملحق في عملية أوسلو، فضلًا عن أنه لا يمتلك الإرادة بخصوص هذا التغيير. وخلص إلى أنه من غير الوارد أن يقوم الاتحاد الأوروبي بمحاكاة الموقف الأميركي بشأن حق القدس، كما أنه من غير الوارد أن يعمل على التقدم للحلول مكان أميركا في عملية السلام. فالاتحاد الأوروبي يعلم حدوده ومدى قبوله لدى إسرائيل، على أنه من الممكن أن يعمل الاتحاد الأوروبي، بالتعاون مع آخرين على الساحة الدولية، على عدم دفع الأمور في السلطة إلى حافة الهاوية، بل إنه سيعمل على سد الفراغ المتعلق بالمساعدات الذي ستخلّفه واشنطن؛ وهو ما يستدعي اضطلاع السلطة الفلسطينية بمسؤولياتها في إعادة تقييم المرحلة واجتراح خيار بديل.