العنوان هنا
تقدير موقف 15 يناير ، 2014

دستور بالغلبة: نظرة مقارنة بين دستور 2012 ومشروع دستور 2014 في مصر

الكلمات المفتاحية

وحدة الدراسات السياسية

هي الوحدة المكلفة في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بدراسة القضايا الراهنة في المنطقة العربية وتحليلها. تقوم الوحدة بإصدار منشورات تلتزم معايير علميةً رصينةً ضمن ثلاث سلسلات هي؛ تقدير موقف، وتحليل سياسات، وتقييم حالة. تهدف الوحدة إلى إنجاز تحليلات تلبي حاجة القراء من أكاديميين، وصنّاع قرار، ومن الجمهور العامّ في البلاد العربية وغيرها. يساهم في رفد الإنتاج العلمي لهذه الوحدة باحثون متخصصون من داخل المركز العربي وخارجه، وفقًا للقضية المطروحة للنقاش..

فيما يتجه المصريون إلى الاستفتاء على مشروع الدستور الذي صوّتت عليه "لجنة الخمسين" المعُيّنة وأقرّته في مطلع كانون الأول/ ديسمبر الماضي، يشهد الشارع المصريّ استقطابًا غير مسبوقٍ، في ظلّ مقاطعة أبرز القوى السياسيّة التي أطاحها انقلاب 3 تمّوز/ يوليو 2013 وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين وذراعها السياسيّ حزب الحريّة والعدالة.

وكما كان الحال في الصراع السياسيّ والأيديولوجيّ الذي رافق كتابة الدستور المصريّ عام 2012 من قبلِ "الجمعيّة التأسيسيّة" المنتخبّة ونال موافقة أغلبية المقترعين المصريين، فإنَّ أغلب القوى السياسيّة التي تتنافس على المشهد السياسيّ المصريّ لم تهتمّ بالنصوص الدستوريّة ذاتها، بل ركّزت على هويّة مَن يكتب الدستور، في مفارقة جعلت مشروع الدستور المصريّ الجديد لا يختلف كثيرًا - من ناحية المضمون - عن دستور عام 2012 الذي وُصف من قِبل التيّارات التي ساندت الانقلاب العسكريّ بـ "الدستور الإخوانيّ"، باستثناء بعض المواد التي جرى تعديلها وعمّقت نفوذ أجهزةِ الدولة العميقة.

وفي الواقع، لم يكن سلوك مجمل القوى السياسيّة منذ أن بدأ مشوار النظر في الدستور المصري بعد سقوط نظام حسني مبارك قائمًا على مناقشة عقلانيّة للمواد الدستوريّة باعتبارها المرجعيّة التي سوف تنقل النظام السياسي من نظام سلطوي إلى نظام ديمقراطي، بما يعكس روحيّة ثورة 25 يناير وأهدافها الاقتصاديّة والاجتماعيّة والحقوقيّة.

 وتظهر أي مراجعة متأنيّة لمشروع الدستور الجديد، فضلًا عن كيفيّة صوغه ومدى تشابهه واختلافه عن الدستور الذي أُقرّ في عهد الرئيس المنتخب محمد مرسي، أنّ الهجوم الإعلامي والسياسي على دستور عام 2012 الذي جرى تعطيله إثر الانقلاب كان في سياق الهجوم على الرئيس مرسي وتياره السياسي والتحضير للانقضاض عليه، وليس بغرض مناقشة مضمون الدستور ذاته. ويبدو من خلال عمليّة الترويج للدستور الجديد والحثّ على الموافقة عليه أنّ النظام الجديد يبحث عن شرعيّة انتخابيّة تحلّ محلّ الشرعيّة التي أفرزها المسار الديمقراطيّ السابق، بحيث يتخلص من شبهة الانقلاب على المستوى الدولي، وحتى من "شرعية الشارع" و"خارطة الطريق" التي استند إليها وانقلب عليها أيضًا، بحيث تمنحه الشرعية الانتخابيّة الجديدة غطاءً للاستمرار في ممارسة الإقصاء بأشكاله كافة، والذي بدأ في 3 تموز/ يوليو وما زال مستمرًّا.


دستور 2012: إرضاء الدولة والثوّار

تشيع في وسائل الإعلام المصريّة والعربيّة اليوم وجهتا نظرٍ أيديولوجيتان بشأن دستور عام 2012، ومشروع دستور عام 2014. وتقضي الأولى - جماعة الإخوان المسلمين وحلفاؤها المناهضون للانقلاب العسكريّ - بأنّ لجنة الخمسين المُعيّنة، والتي كُلّفت بتعديل الدستور، لم تكن سوى لعبة بيد المؤسسة العسكريّة المصريّة ورئيسها عبد الفتّاح السيسي. بينما تصرّ وجهة النظر الأخرى - المؤيدة للانقلاب العسكريّ - بأنّ مشروع الدستور المصريّ الجديد أنقذ مصر من وثيقة إخوانيّة كانت ستؤدي إلى كارثة في البلاد. إنَّ كلا الطرحين غير صحيحٍ؛ فدستور عام 2012 لم يكن إخوانيًا، وإن كان يحمل بعض الإشارات الدالة على ذلك، كما أنّ مشروع الدستور الجديد لم يكن مجرد إملاءٍ من السلطات العسكريّة على كاتبيه، بل عكَس أيضًا مزاج "النخبة المدنيّة العلمانيّة التقليديّة" ورغباتها، كما تصف نفسها[1].

 في الواقع، لا يمكن فهم النزعة السياسيّة الكامنة في النصوص الدستوريّة في كلا الدستورين إلا بمراجعة النقاشات والحوارات التي شهدتها الجمعيّة التأسيسيّة لكتابة دستور عام 2012، والتي حاولت من خلالها القوى الإسلاميّة وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين إجراء تسويات إرضاءً لجزءٍ كبيرٍ من نخبة مؤسسات الدولة العميقة وكسب تأييدها، بالإضافة إلى تحصينها إلى حدٍ ما من هيمنة مكتب الرئاسة، وهو الأمر الذي استمرّ في مشروع الدستور الجديد ليشمل جميع نخب الدولة العميقة بما فيها الشرطة والقضاء.

وعلى عكس ما روّجت وسائل الإعلام آنذاك، فقد شهدت الجمعيّة التأسيسيّة المنتخبة في النصف الأول من اجتماعاتها حوارات جديّة ودستوريّة بين مختلف القوى السياسيّة والاجتماعيّة، تناولت مختلف القضايا الحسّاسة مثل ميزانيّة المؤسسة العسكريّة، والقضاء العسكريّ، وبُنية النظام الحاكم، والمحكمة الدستوريّة، والنيابة العامّة، بالإضافة إلى الموقف من رموز النظام القديم وغير ذلك، قبل أن تتفاجأ بأزمة الإعلان الدستوريّ في تشرين الثاني/ نوفمبر 2012، والتي سببت شرخًا في المشهد السياسي المصري ما دفع الجمعيّة التأسيسيّة إلى التعجيل بكتابة الدستور، كما عطّلت تلك الأزمة الحوارات الداخليّة بعدما انتقل الاستقطاب السياسيّ إلى داخل الجمعيّة التأسيسيّة.

ومع أنّه من الصعب في هذه الورقة ذكر تفاصيل كيفيّة كتابة المواد الدستوريّة في دستور عام 2012، فإنّه يمكن لنا من خلال محاضر اجتماعات الجمعيّة التأسيسيّة أن نجمل النزعة السياسيّة السائدة في طريقة صوغ تلك المواد. فعلى الرغم من أنَّ أغلب مواد دستور عام 2012 كانت موضوع توافق وطني - كما دلّت محاضر الجمعيّة التأسيسية المنشورة على موقع الدستور المصري - فإنّ النزعة السياسيّة كانت واضحة في بعض المواد التي جرت الإشارة إليها، والتي حاولت إرضاء أغلب مراكز قوى مؤثرة في المشهد السياسي؛ مثل بعض أجهزة الدولة العميقة، والقوى السلفيّة المتحالفة، بالإضافة إلى القوى السياسيّة المحسوبة على الثورة، محاولة تشكيل تحالفٍ بين الدولة العميقة والقوى الإسلاميّة وبعض القوى المدنيّة. وعلى الرغم من إجراء استفتاءٍ شعبيّ على الدستور وصلت نسبة الموافقة عليه إلى أكثر من 60% من المقترعين، فإنّ وهم هذا التحالف المرغوب فيه، والذي لم يتحقق مطلقًا، انهار يوم 3 تموز/ يوليو 2013.


مشروع دستور 2014: الدولة العميقة تكتب دستورها

على عكس تجربة الدستور المعطّل، فقد اتسمت عمليّة صوغ مشروع دستور عام 2014 بانعدام الديمقراطيّة، سواء أكان ذلك بتعيين جميع أعضاء لجنة الخمسين المكلّفة بتعديل الدستور وليس انتخابهم خلافًا للجمعيّة التأسيسية لكتابة دستور عام 2012، أم بإقصاء معارضي الانقلاب العسكريّ بصورة متعمدة. وعلى عكس الدستور المعطّل أيضًا، اتسمت عمليّة كتابة الدستور الجديد بانعدام الشفافيّة؛ إذ لم تنقل وسائل الإعلام اجتماعات اللجنة، كما أنَّ محاضر الاجتماعات لم تُنشر ليطّلع المواطنون عليها بشكل عام.

وبالإجمال، يمكن القول بأنَّ مشروع الدستور المصريّ عام 2014 جاء مشابهًا في أغلبية مواده للدستور المصريّ 2012 المعطّل، وإن حرصت لجنة الخمسين على إعادة صوغ عددٍ من المواد شكليًا مع الإبقاء على مضامينها كما هي، في خطوةٍ لا يُفهم منها سوى رغبة أعضاء اللجنة في الانتقاص - قدر الإمكان - من زملائهم السابقين في الجمعيّة التأسيسيّة لكتابة الدستور المعطل، أو الترويج إلى أنّها قامت بصوغ دستور جديد مختلف كُليًّا عن ذلك الذي عطّله الانقلاب. أما أبرز المواد الجوهريّة التي مسها التعديل الأساسي فقد جاءت كالتالي:

أولًا: جرت إعادة النظر بالمواد المتعلقة بالهويّة المصريّة، وأعيد النص المتعلّق بالشريعة إلى ما كان عليه في دستور عام 1971، كما حذفت الإشارة الخاصّة بمنع الإساءة إلى الرسل. وقد أظهر هذا التعديل أنّ الضغوط الشديدة التي قامت بها التيّارات السلفيّة وعلى رأسها حزب النور على لجنة الخمسين، كانت غير جديّة وأقرب إلى تسجيل المواقف الكلاميّة. فعلى عكس سلوكها في الجمعية التأسيسية 2012، لم تقم هذه التيارات بأعمال تعطِّل صوغ الدستور الجديد أو اللجوء إلى الشارع. ويعبِّر هذا الأمر عن مفارقة كبيرة، فأثناء صوغ دستور 2012، أصر التيّار السلفي على مواد تكرِّس فهمه الخاص للهويّة الإسلاميّة، مثل المادّة 219 التي تنص على أنّ "مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية، وقواعدها الأصولية والفقهية، ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة"، بالإضافة إلى المادة 44 التي نصّت على حظر الإساءة أو التعريض بالرسل والأنبياء كافة، وحذفت أيضًا المادة 10 التي أشارت إلى دور الدولة والمجتمع في صيانة الأسرة. وفي مقابل ذلك، حذفت المادة 4 التي خوّلت مؤسسة الأزهر بأنّ تكون مرجعية دستورية في الشؤون المتعلقة بالشريعة الإسلامية. والجدير بالذكر أنّ هذه الأخيرة كانت اقتراحًا من القوى المدنيّة، وقد اشترطتها للموافقة على الدستور السابق اعتقادًا منها بأنّ ذلك سوف يسحب البساط من تحت أقدام القوى الإسلاميّة.

ثانيًا: ظهر منصب الرئيس المصريّ في مشروع الدستور الجديد غامضًا، فمن جهةٍ أولى استُحدثت بعض الصلاحيات له، كما تشير المادة 123 في ما يتعلق بالصلاحيات التشريعية للرئيس وحقه في تعيين خمسة في المئة من أعضاء مجلس النواب، كما لم تلزمه المادة 146 بتكليف رئيس الوزراء من الحزب أو الائتلاف الحزبي الأكبر في مجلس النواب؛ بمعنى أنه بإمكانه أن ينسف نجاح حزب في الانتخابات، ويمنعه من تشكيل حكومة. وأعطته المادة 147 حق المشاركة في تعيين وزراء الحقائب السياديّة (الدفاع، والخارجيّة، والداخليّة، والعدل) إذا اضطر إلى تكليف أحد نواب الحزب أو الائتلاف الحزبي الأكبر في مجلس النواب. ومما لا شك فيه أنّ المواد التي تشير إلى صلاحيّات مجلس الوزراء تجعل مجلس الوزراء أقرب إلى مجلس تنفيذي لسياسات يضعها رئيس الجمهورية أو المجلس الأعلى للدفاع في مجلس الأمن القومي. ويبدو أنّ إعادة بعض الصلاحيّات إلى رئاسة الجمهوريّة هي من القضايا التي يختلف فيها المشروع الجديد عن دستور عام 2012 المعطّل؛ إذ حرصت الجمعيّة التأسيسيّة لكتابة دستور عام 2012، على توزيع السلطة بين كلٍ من الرئاسة ومجلس الوزراء، وتجلّى ذلك في المادتين 140 و159 اللتين تلزمان الرئاسة ومجلس الوزراء المشاركة في اتخاذ القرار والإشراف على تنفيذه. وكانت المناقشات لصوغ دستور عام 2012 تهدف إلى التقليل من تمركز الصلاحيّات بيد الرئيس؛ بسبب نزعة الرؤساء للتحول إلى الاستبداد منذ إعلان الجمهوريّة.

 ومن جهةٍ أخرى، سلبت الوثيقة الدستورية الجديدة بعضًا من صلاحيات الرئيس بعد تعميق امتيازات الدولة العميقة. ومع أنَّ دستور عام 2012 شهد نزعةً تسووية واضحة لمحاولة إرضاء بعض مؤسسات الدولة العميقة وتشريع أوضاعها ومن ثمّ كسب ولائها - وكان في مقدمة تلك المؤسسات المؤسسة العسكريّة التي مُنحت الاستقلاليّة النسبيّة في المنازعات الداخليّة (المادة 196)، وأعطيت حريّة مناقشة موازنتها العامّة وأخذ رأيها في المشاريع المتعلّقة بها (المادة 197)، وتشريع القضاء العسكريّ ومنحه حق إصدار الأحكام "في الجرائم التي تضرّ بالقوات المسلحة؛ ويحدد القانون تلك الجرائم، ويبين اختصاصات القضاء العسكري الأخرى" (المادة 198)، وأخذ رأيه في إعلان الحروب، بالإضافة إلى استيعاب مؤسستين أخريين هما هيئة قضايا الدولة وهيئة النيابة الإداريّة، اللتين ثار حولهما جدلٌ واسع داخل الجمعيّة التأسيسية بسبب إثقالهما كاهل ميزانيّة الدولة دونما حاجة - فإنّ مشروع دستور 2014 حافظ على هذه الامتيازات وعمّقها بشكلٍ يجعل الدولة تحت رحمة مؤسساتها العميقة. ففي مشروع الدستور الجديد تُدرج موازنة المؤسسة العسكريّة رقمًا واحدًا في الموازنة العامة للدولة (المادة 203)، واُشترطت موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة على تعيين وزير الدفاع لمدة دورتين رئاسيتين اعتبارًا من تاريخ العمل بالدستور الجديد (مادة انتقاليّة 234)، أما بخصوص جهاز الشرطة فقد سُحب من سلطة رئاسة الجمهوريّة (المادة 206). وتمّ استحداث مجلسٍ أعلى للشرطة يتكوّن من "أقدم ضباط هيئة الشرطة، ورئيس إدارة الفتوى المختص بمجلس الدولة، ويختص المجلس بمعاونة وزير الداخلية في تنظيم هيئة الشرطة وتسيير شؤون أعضائها، ويحدد القانون اختصاصاته الأخرى، ويؤخذ رأيه في أي قوانين تتعّلق بها" (المادة 207). وتشكّل المادتان الأخيرتان إنقاذًا لضبّاط الشرطة وأركان وزارة الداخليّة من إمكانية "إعادة الهيكلة للداخلية والشرطة" التي كانت مطلبًا أساسيًا من مطالب ثورة 25 يناير خاصّةً مع إدراج "الضبّاط القدماء" الذين أشرفوا على وضع السياسات الأمنية والقمعية وتنفيذها في عهد مبارك.

ثالثًا: بالنسبة إلى القضاء، فقد نص المشروع الجديد على إبقاء جميع الصلاحيات المتعلّقة بالمحكمة الدستوريّة كما كانت عليه قبل دستور عام 2012. وبالمقارنة، فقد نصّ دستور عام 2012 على اشتراط رقابة المحكمة الدستوريّة المسبّقة على القوانين المنظّمة لمباشرة الحقوق السياسية وللانتخابات الرئاسية والتشريعية والمحلية (المادة 177). وقد كُتبت هذه المادة بعد تجربة تدخّل المحكمة الدستوريّة في المرحلة الانتقاليّة حين جرى حلّ مجلس النواب والشورى، وحلّ الجمعيّة التأسيسيّة بأثرٍ رجعيّ بعد ذلك بحجة عدم دستوريّة القوانين التي نظّمت تلك الاستحقاقات، ما عطّل المسار الديمقراطي في المرحلة الانتقالية. إنّ إلغاء الرقابة المسبّقة للمحكمة الدستورية وإبقاء جميع صلاحياتها يعني بالضرورة أنّ الدستور الجديد قد كافأ المحكمة الدستورية التي كانت رأس حربة في الصراع السياسي خلال مرحلة انتخاب أول رئيس بعد الثورة. فقد كانت تلك المحكمة أداة التعطيل "القانونية" لمسار التحول الديمقراطي. كما عُدّلت المادّة التي منعت ندب القضاة إلا ندبًا كاملًا (المادة 170 من دستور 2012)، وحلت محلها مادة انتقاليّة تؤجّل إلغاء الندب إلى ما بعد خمس سنوات على الحدّ الأقصى عبر قانونٍ يصدره مجلس النوّاب (المادة 239). والجدير بالذكر أنَّ أسلوب الندب إلى جهاتٍ غير قضائيّة كان وسيلةً إقصائيّة تستخدمها السلطة التنفيذيّة ضد القضاة المعارضين[2].

رابعًا: اُستحدثت مواد دستوريّة ذات طبيعة انتقاميّة وقد تُستخدم ضدّ المعارضين من الإسلاميين؛ إذ استحدثت (المادّة 74) التي تحظر قيام أحزاب على أساسٍ دينيّ، كما استحدثت أخرى تلزم الدولة بمواجهة الإرهاب وتجفيف مصادر تمويله (المادة 237).

خامسًا: خُصصت مواد انتقاليّة عديدة لإرضاء ما بات يعرف بالأقليّات الدينيّة والثقافيّة. فقد استحدثت مادة لإعادة تسكين أهالي النوبة ومراعاة ثقافة المجتمعات المحليّة (المادة 236)، ومادة تلزم مجلس النواب في أول انعقادٍ له إصدار قانونٍ يسمح بإعادة ترميم الكنائس وبنائها (المادة 235). وهي نصوص إيجابية بحد ذاتها، وكان ينبغي أن تجد مكانًا لها في القوانين الانتقالية في مرحلة ما قبل الانقلاب، ولكنها تأتي في سياق سياسي لتقوية القاعدة الاجتماعية للانقلاب.

سادسًا: لم يتضمّن الدستور أيّ نصوص متعلقة بالعدالة الانتقاليّة أو بعزل رموز النظام القديم، في حين نصّ دستور عام 2012 على مادة العزل السياسيّ التي منعت قيادات الحزب الوطني المنحل من ممارسة العمل السياسي، والترشّح للانتخابات الرئاسية والتشريعية لمدة عشر سنوات من تاريخ العمل بالدستور[3]. كما جرى ربط ثورة 25 يناير بثورة 30 يونيو، وذلك لإضفاء الشرعيّة على نتائج الأخيرة، والتي من بينها وثيقة الدستور التي يجري الاستفتاء عليها، ونزع الخصوصيّة عن ثورة 25 يناير والتي تتجلّى في (المادة 65) من الدستور المعطّل وفي ديباجته.

وتشير مراجعة مواد مشروع الدستور الجديد المتعلّقة بالحقوق والحريّات بشكل جليّ إلى أنّه لم يرق إلى درجة الدستور الذي يؤسس لنظامٍ ديمقراطي ويحميه. فجميع النصوص المتعلقة بالحقوق والحريّات التي تضمنتها مواده لم تكن مطلقة كما ينبغي أن تظهر في الدستور، بل قُيّدت بأحكام القوانين التي تصدر لتنظيمها، ما يتيح تضييقها أو الحد منها من خلال التفاصيل والإجراءات والمواد التي سوف تتضمّن قوانين الجمعيّات والاجتماعات العامّة والأحزاب والنقابات. وقد يكون من المفيد الإشارة إلى قانون التظاهر الذي صدر بعد الانقلاب العسكري واشترط الحصول على ترخيص للتظاهر السلمي.

هكذا يتبيّن أنه باستثناء تعديل المواد المتعلّقة بهويّة الدولة وواجبات المجتمع، فإنَّ بقيّة المواد المعدّلة جاءت لتقوية دعائم أجهزة الدولة العميقة القائمة؛ أي الجيش والداخليّة والقضاء، وتعزيز استقلاليتها وحصانتها ضدّ أيّ جهةٍ منتخبة مستقبلًا، بحيث تصبح نتيجة الاقتراع غير مؤثرةٍ في إعادة هيكلة الدولة وإصلاحها، ما يعقّد أي مسارٍ ديمقراطيٍّ مستقبليّ.

لقد ضحّت لجنة الخمسين، والتي يُفترض أنّها ذات أغلبيّة مدنيّة، بالدولة المدنيّة مقابل تعديلاتٍ متوسطة الأهميّة تناسب هواها ومزاجها النخبويّ وصراعها مع الإسلاميين، وسلّمت البلاد في سبيل ذلك إلى الدولة العميقة لكي تعيد كتابة دستورها.


عقدة الدساتير المصريّة: العبرة في التطبيق

كشفت الأرقام الواردة - حتى الآن - من اللجنة العليا للانتخابات في مصر أنّ نسبة التصويت في الاستفتاء على مشروع الدستور المصري لعام 2014 بلغت نحو 15% من المقترعين[4]، وهي تُمثّل نحو ثلث المشاركين في استفتاء دستور عام 2012 التي بلغت نحو 42%، بحسب اللجنة العليا للانتخابات. ويكشف هذا عزوف المواطنين عن الاقتراع، سواء أكان ذلك نتيجة للمقاطعة أم اللامبالاة السياسيّة. وبغض النظر عن الأسباب، فسوف يلقي هذا ظلالًا من الشك على شرعيّة الدستور الجديد، وبخاصّة أنّ نسب الاقتراع أصبحت مبرر المعارضة المصريّة في التشكيك في شرعيّة دستور عام 2012. لقد هاجمت جبهة الإنقاذ الاستفتاء السابق بحجة أنّ نسبة المشاركة منخفضة؛ إذ كانت نتائج الاستفتاء الذي جرى على دستور 2012 قد أظهرت موافقة نحو ثلثي المقترعين عليه في ظل حشد واسع من قبل المعارضة لرفضه. ومن المتوقع أن يحصل الدستور الجديد على أغلبيّة المقترعين في ظل مقاطعة الاستفتاء من قِبل القوى السياسيّة والفئات الاجتماعيّة المعارضة للدستور والتي كانت ستصوّت بــ "لا"؛ ما يعني أنّ أكثريّة الذين سيقترعون مؤلفة من المؤيدين لهذا الدستور، وبخاصّة في ضوء حالة "التجييّش" التي تقوم بها وسائل الإعلام المصريّة لحث المواطنين على المشاركة بالموافقة على الدستور الجديد الذي سوف يؤدّي إلى "الاستقرار" و"البناء" و"التنميّة" و"الرخاء".

وبناء عليه، فإنّ المعركة حول الدستور الجديد لن تكون مرتبطة بحجم الموافقة عليه، بل ستكون مرتبطة بنسبة المشاركة. وإذا كان النظام الذي أعقب انقلاب 3 تموز/ يوليو يعتمد بشكل أساسي المنافسة الرقميّة (مثل أعداد المتظاهرين) كسلوك سياسي؛ فمن المتوقع أن يستمر في سياسة "التجييّش"، وربما باستخدام وسائل أخرى، لحثّ المواطنين على المشاركة. وليس من المستبعد أن يعتمد أساليب التلاعب في نسبة المشاركة لإضفاء شرعيّة على الدستور.

وعلى أيّ حال، من غير المتوقّع أن يُرفَض الدستور في حال ذهب المؤيدون وحدهم إلى التصويت كما هو واضح حتى الآن. وحينذاك سوف يواجه النظام الجديد أوّل اختبارٍ لاحترام ما خطّه هو بيده. فعلى الرغم من أنّ عددًا من المواد فُصّلت تفصيلًا لمواجهة المعارضين المصريين مثل بند مكافحة الإرهاب، فإنّ عددًا آخر من القوانين التي صدرت عن الحكومة وعن الرئيس المصريّ المؤقت عدلي منصور سوف تصبح بشكل تلقائيّ غير دستورية، ومن بينها قانون التظاهر، وقرار إغلاقِ عددٍ من القنوات الفضائيّة. ولكن الشعوب العربية تعوّدت على أنّ الدساتير في بلدانها لا توضع للتطبيق في ظل الاستبداد. كما أنّ مدى احترام النظام الدستور الذي وضعه بنفسه يعد إحدى أهم الأدوات في كشف طبيعة ذلك النظام الاستبدادية.

لقد اعتاد المصريون طوال أكثر من 60 عامًا على أن يقوم المنتصرون بكتابة الدساتير، ولكنّهم اعتادوا أيضًا ألا يحترم المنتصرون ما كتبوه في حال تحوّلوا إلى مستبدّين، فأولى ميزات الاستبداد أنّه لا يحترم كل ما يقيّده، بما في ذلك ما أصدره هو من قوانين ودساتير.


[1] بشأن سلوك النخبة المصريّة التقليديّة، انظر: أحمد زايد، "من البصاصة إلى الصراع والعنف: آليات المراقبة في الدولة المصرية الحديثة"، عمران، العدد 6 (خريف 2013).

[2] راجع بشأن ذلك: وحدة تحليل السياسات في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، "مخاض الأزمة المصريّة: مخاض الديمقراطيّة العسير" (12 كانون الأول/ ديسمبر 2012):

http://172.17.30.6:3030/sites/doiportal/ar/politicalstudies/pages/the_egyptian_crisis_the_strenuous_path_to_democracy.aspx

[3] و"يقصد بالقيادات كل من كان، في الخامس والعشرين من يناير 2011، عضوًا بالأمانة العامة للحزب الوطني المنحل أو بلجنة السياسات أو بمكتبه السياسي، أو كان عضوًا بمجلس الشعب أو الشورى في الفصلين التشريعيين السابقين على قيام الثورة" (المادة 233 في دستور عام 2012).

[4] "الخارجية: 103 آلاف شاركوا في الاستفتاء بالخارج من إجمالي 681 ألفًا"، الشروق  (13 كانون الثاني/ يناير 2014)، انظر:

http://www.shorouknews.com/news/view.aspx?cdate=13012014&id=4797ddc1-cac4-4602-9042-996fa2c69ce0