العنوان هنا
تقييم حالة 07 ديسمبر ، 2020

أزمة الكركرات وسيناريوهات مستقبل قضية الصحراء

وحدة الدراسات السياسية

هي الوحدة المكلفة في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بدراسة القضايا الراهنة في المنطقة العربية وتحليلها. تقوم الوحدة بإصدار منشورات تلتزم معايير علميةً رصينةً ضمن ثلاث سلسلات هي؛ تقدير موقف، وتحليل سياسات، وتقييم حالة. تهدف الوحدة إلى إنجاز تحليلات تلبي حاجة القراء من أكاديميين، وصنّاع قرار، ومن الجمهور العامّ في البلاد العربية وغيرها. يساهم في رفد الإنتاج العلمي لهذه الوحدة باحثون متخصصون من داخل المركز العربي وخارجه، وفقًا للقضية المطروحة للنقاش..

مقدمة

برزت في الآونة الأخيرة مشكلة الصحراء مجددًا، بعد أن اندلعت أزمة جديدة في منطقة الكركرات على الحدود المغربية-الموريتانية، في 21 تشرين الأول/ أكتوبر 2020، عندما قطع عشرات الأفراد المعبر الحدودي أمام الرحلات التجارية التي تربط المغرب بموريتانيا، عقب ذلك قام الجيش المغربي بعمليات عسكرية محدودة، وذلك في 13 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، بغرض "إنهاء إقفال المعبر الحدودي".

ظلّت منطقة الصحراء الغربية تابعةً للدولة الشريفية المغربية حتى نهاية القرن التاسع عشر، عندما بدأ الاحتلال الإسباني للمنطقة تدريجيًا. وفي 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 1912، أبرمت إسبانيا وفرنسا اتفاقية ترسيم حدود الصحراء الغربية التي وضعت هذا الإقليم رسميًا تحت الاحتلال الإسباني. وبدأ المغرب في استرجاعها بعد تنظيم مسيرة شعبية إلى هذا الإقليم بقيادة الملك الراحل الحسن الثاني، سميت "المسيرة الخضراء"، في 6 تشرين الثاني/ نوفمبر 1975؛ وهو ما استكمله باسترجاع إقليم وادي الذهب في 14 آب/ أغسطس 1979.

تتجاذب قضية الصحراء رؤيتان متناقضتان، هما: الرؤية المغربية التي تستند إلى الحقوق التاريخية، ورؤية البوليساريو والجزائر التي تعتمد على مبدأ تقرير المصير المفضي إلى تأسيس دولة مستقلة. ولذلك اندلعت، بعد استرجاع المغرب إقليم الصحراء مباشرةً، حرب بين المغرب والجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب، المعروفة باسم البوليساريو، التي أنشأها بعض المناضلين الصحراويين في 20 أيار/ مايو 1973 بقيادة مصطفى الوالي السيد وبرعاية العقيد معمر القذافي، وحظيت بعد ذلك بدعمٍ عسكري ومالي ودبلوماسي كبير قدمته الجزائر. وكانت البوليساريو تهدف في البداية إلى تحرير الأقاليم الصحراوية من الاستعمار الإسباني، من دون أن تكون لها نيات تأسيس دولة مستقلة عن المغرب. لكنها غيرت موقفها لاحقًا بإعلانها إنشاء "الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية"، في 27 شباط/ فبراير 1976.

وشهدت المنطقة إذّاك صراعًا مسلّحًا مريرًا، مثّل فيه بناء المغرب الجدار الرملي على مراحل، في الفترة 1980-1987، نقطة تحول كبير في الصراع، لأنه أكد التفوق العسكري المغربي في الميدان، ودفع جبهة البوليساريو إلى قبول مسلسل الحل السلمي؛ إذ ستتفق مع المغرب على إثره، برعاية بعثة الأمم المتحدة للاستفتاء في الصحراء الغربية (المينورسو)، على وقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ في 6 أيلول/ سبتمبر 1991.

غير أنّ مسلسل الحل السلمي لا يزال إلى اليوم يواجه تحديات كبيرة، ولا تزال المنطقة تنذر بنشوب صدام عسكري مباشر بسبب الخلاف حول الاتفاقات العسكرية التي أبرمت تحت إشراف البعثة الأممية المينورسو. ويُعدّ الاتفاق العسكري رقم 1 موضوع أغلب الاتهامات المتبادلة بين الطرفين بشأن عدم احترام مقتضيات وقف إطلاق النار.

مسلسل التسوية السلمية

بدأ مسلسل التسوية منذ وقف إطلاق النار في عام 1991 تحت إشراف بعثة المينورسو. ويعتبر الاتفاق على إجراء الاستفتاء لتقرير مصير الصحراء الغربية محور مسلسل التسوية السلمية لهذه القضية. لكن هذه العملية واجهت صعوبة كبيرة أدت إلى تجميد هذا الخيار خلال السنوات الأخيرة. وتتمثل أبرز عوائق هذا الخيار بالاختلاف الجوهري بين الطرفين في معايير تحديد هوية الهيئة الناخبة التي يحق لها التصويت في هذا الاستفتاء. ففي حين تصر البوليساريو على مشاركة الأفراد الذين شملهم إحصاء السكان الذي قامت به السلطات الإسبانية في عام 1974 في الاستفتاء، مع إضافة المولودين في الإقليم منذ ذلك التاريخ، فقط، فإنّ المغرب يتبنى رؤية واسعة تشمل الأفراد والقبائل الصحراوية التي غادرت الإقليم بسبب ظروف الاستعمار الإسباني، ولم يشملهم الإحصاء السالف الذكر.

وأمام صعوبة إجراء الاستفتاء، قدَّم المغرب في عام 2007 رؤيةً لحل هذه القضية تتمثل بمنح إقليم الصحراء الغربية حكمًا ذاتيًا في ظل السيادة المغربية. ويستمد التصور المغربي الجديد أساسه من مفهوم تقرير المصير الذي يأخذ أشكالًا متنوعة في التطبيق، من ضمنها تقرير المصير الداخلي الذي يتجسد في الحكم الذاتي. كما يأخذ هذا التصور المغربي في الاعتبار أن حل قضية الصحراء لا يدخل في إطار تصفية الاستعمار، ولا يسري عليه أيضًا مبدأ عدم المساس بالحدود الموروثة عن الاستعمار، نظرًا إلى الخصوصية التاريخية لهذا الإقليم الذي كانت له دائمًا رابطة قانونية بالولاء للسلطة المركزية المغربية، مستندًا في ذلك إلى الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية في 16 تشرين الأول/ أكتوبر 1975. أما البوليساريو، فلا تزال تتشبث بالاستفتاء بوصفه آليةً أساسية لتقرير مصير الإقليم، معتبرة الصحراء الغربية إقليمًا احتله المغرب منذ جلاء الإسبان عنه في بداية عام 1976. ولذلك، فإنّ رؤية البوليساريو تتمحور حول كون القضية هي مسألة إنهاء الاستعمار، ولا بد من منح سكان المنطقة الحق ليقرروا مصيرهم عبر إجراء استفتاء شعبي.

وقد أجريت جولات كثيرة للمفاوضات المباشرة بين المغرب والبوليساريو في تسعينيات القرن العشرين وخلال العقدين الماضيين. لكن هذه المفاوضات شهدت تعثرات كثيرة، ولم تعقد أي جولة منها منذ المحادثات التي تمّت في جنيف في آذار/ مارس 2019. ومن مظاهر المأزق الذي تعيشه هذه القضية أنّ منظمة الأمم المتحدة عجزت عن تعيين مبعوث خاص بها لهذه القضية منذ استقالة المبعوث السابق هورست كوهلر في 22 أيار/ مايو 2019؛ بمعنى أنّ المأزق الذي تعيشه هذه القضية لا يمثل فشلًا لأطراف النزاع في المنطقة فقط، بل يمثل أيضًا فشلًا لمنظمة الأمم المتحدة نفسها في تحقيق حلٍّ واقعي ومنصف ومستدام.

الوضع القانوني لمعبر الكركرات والمناطق الحدودية الصحراوية

يعدّ الجدار الرملي العسكري المَعْلم الأساسي لتحديد المناطق العسكرية في الصحراء والتزامات طرفَي النزاع، لا سيما ما يتعلق بالنشاطات العسكرية، وذلك بحسب الاتفاق العسكري رقم 1، الذي وقّعته بعثة المينورسو مع القوات المسلحة المغربية وجبهة البوليساريو في كانون الأول/ ديسمبر 1997، وكانون الثاني/ يناير 1998، على التوالي. يمتد الجدار الرملي الذي بناه المغرب في الصحراء من منطقة محاميد الغزلان شمالًا إلى منطقة الكركرات قرب الساحل الأطلسي في الجنوب، بطولٍ يتجاوز 2700 كيلومتر. وقد بناه المغرب على ست مراحل في الفترة 1980-1987، ولذلك فهو عبارة عن سلسلة من ستة جدران رملية مجهزة بأنظمة عسكرية مختلفة من قبيل الرادارات، وأجهزة الرصد والاستشعار، وملاجئ الجنود، ودعم المدفع، وغير ذلك. ولا يعدّ الجدار الرملي خطًّا حدوديًّا بين المغرب وموريتانيا والجزائر، بل هو جدار عسكري دفاعي بُني داخل إقليم الصحراء الغربية التي يعتبرها المغرب جزءًا من أراضيه. وتوجد منطقة واسعة جنوب الجدار وشرقه في اتجاه حدود الإقليم مع موريتانيا والجزائر. وقد جعل المغرب من جانب واحد هذه المنطقة أولًا بمنزلة منطقة عازلة لمراقبة عناصر البوليساريو التي كانت تعتمد حرب العصابات انطلاقًا من الجزائر، وثانيًا ساحة للمواجهة إذا دخلت هذه العناصر إلى هذه المنطقة، وأيضًا لتفادي توغّل القوات المغربية داخل الحدود الموريتانية والجزائرية عند مطاردتها هذه العناصر. ولا يشكل الجدار الرملي، عكس جدران كثيرة عبر العالم، حاجزًا فاصلًا بين السكان لأنه بُني في منطقة غير مأهولة.

يقسم الاتفاق العسكري رقم 1 الصحراء الغربية خمسة أقسام، هي:

  1. شريط فاصل: عرضه خمسة كيلومترات جنوب الجدار الرملي وشرقه في اتجاه الحدود الموريتانية والجزائرية. ولا يعدّ الجدار الرملي ضمن الشريط العازل. ويحظر دخول أفراد القوات المسلحة المغربية وجبهة البوليساريو وأجهزتها العسكرية هذا الشريط، سواء على الأرض أو الجو. كما يحظر فيه إطلاق النار على الأرض والجو وفي جميع الأوقات، وأيّ مخالفة لهذه الشروط تعدّ خرقًا لوقف إطلاق النار.
  2. منطقتان محظورتان: محيط كل واحدة منهما 30 كيلومترًا على طول الجدار الرملي. الأولى شمال الجدار الرملي وغربه، والثانية جنوبه وشرقه. يدخل الجدار الرملي ضمن المنطقة الأولى، ويدخل الشريط العازل ضمن المنطقة الثانية. ويُحظر في هاتين المنطقتين إطلاق النار وعمليات التدريب العسكري، باستثناء التدريب الجسدي للأشخاص غير المسلحين، وتحظر التعزيزات التكتيكية، وتحظر إعادة انتشار وحركة الجنود ومراكز القيادة والوحدات والمخازن والتجهيزات والذخائر الحربية والأسلحة، ويحظر دخول الطائرات العسكرية وتعزيز البنيات الدفاعية.
  3. منطقتان للحظر المحدود: هي مساحات واسعة من الأرض تقع على التوالي على الجانبين الشمالي والغربي للمنطقة المحظورة الأولى، وعلى الجانبين الجنوبي والشرقي من المنطقة المحظورة الثانية. ويسمح داخل هاتين المنطقتين بكل النشاطات العسكرية العادية باستثناء تعزيز حقوق الألغام الموجودة، وتركيز القوات، وبناء مراكز قيادة وثكنات وقدرات تخزينية جديدة. ويمكن للطرفين أن يقوما بتمارين عسكرية بما في ذلك إطلاق نيران الأسلحة من عيار أقلّ من 9 ملم، بشرط إخبار قوات المينورسو بذلك.

ساهم بناء الجدار الرملي في تقوية الأداء العسكري للمغرب وعزز موقعه التفاوضي، وضيَّق إلى حد بعيد هامش المناورة لدى البوليساريو، بل شلّ جزءًا مهمًا من قدراتها العسكرية، وعطل حركية المركبات العسكرية لديها؛ ما دفع قيادتها إلى التخلي عن الخيار العسكري والدخول في مفاوضات مباشرة مع المغرب تحت رعاية الأمم المتحدة. وتجدر الإشارة إلى أنه لا توجد أي وثيقة للأمم المتحدة بشأن الصحراء الغربية تعتبر الجدار الرملي غير قانوني، بل تم الاعتراف بالهدف الدفاعي منه (تقرير S/10/1998 الصادر في 20 [تشرين الأول]/ أكتوبر 1998 - الفقرة 8 من الفرع "ب").

حيثيات أزمة الكركرات والرد المغربي

مرت ثلاثة عقود تقريبًا على بداية وقف إطلاق النار، واثنان عشرون عامًا على بداية سريان الاتفاق العسكري رقم 1 الذي يعد الإطار العملياتي لجهود حفظ السلام التي تقوم بها بعثة المينورسو. وقد ظهر خلال العقود الثلاثة الأخيرة أنّ هذا الاتفاق يكتنفه بعض الغموض، على نحوٍ جعل الطرفين ينتهكانه باستمرار وفقًا للتقارير الدورية لبعثة المينورسو. ولعل تحرك البوليساريو في منطقة الكركرات خلال السنوات الأخيرة يدخل ضمن هذا الغموض لبنود الاتفاق العسكري رقم 1.

عندما أقام المغرب الجدار الرملي، كانت قواته العسكرية تتحكم في كل إقليم الصحراء الغربية، ولم يكن لجبهة البوليساريو أي وجود ثابت لها في المنطقة، سواء في شكل ثكنات أو قواعد عسكرية، بل كانت تعتمد في هذا الوقت على حرب العصابات انطلاقًا من الأراضي الموريتانية والجزائرية. ولم تستطع أن تتحرك بحرّية في المناطق التي توجد شرق الجدار وجنوبه إلا بعد بداية سريان وقف إطلاق النار. وحاولت الجبهة خلال السنوات الأخيرة إنشاء بنيات مدنية وإدارية، لا سيما في منطقتي تيفاريتي وبئر لحلو، وهو ما رأى فيه المغرب خرقًا لمبدأ الحفاظ على الوضع القائم الذي ثبّته اتفاق وقف إطلاق النار.

ينظر المغرب إلى تحركات جبهة البوليساريو بوصفها أعمالًا استفزازية، وتفتقد حسن النية في تطبيق الاتفاقات العسكرية المبرمة، ولا توفر الشروط الملائمة لإيجاد تسوية سلمية للنزاع، على الرغم من أنّ الاتفاق العسكري رقم 1 لا يمنع مبدئيًا النشاطات السياسية، وحتى النشاطات العسكرية العادية في منطقة الحظر المحدود.

ومن بين هذه التحركات التي تقوم بها جبهة البوليساريو خلال السنوات الأخيرة، مستغلةً غموض الاتفاق العسكري رقم 1، تنظيمها وقفات في منطقة الكركرات وصلت أحيانًا إلى حد عرقلة عبور الشاحنات المحمّلة بالبضائع، كما حدث في 21 تشرين الأول/ أكتوبر 2020. وتجدر الإشارة إلى أن تحركات البوليساريو في منطقة الكركرات والمناطق الموجودة جنوب الجدار وشرقه أصبحت اعتيادية خلال السنوات الأخيرة، وذلك بهدف الضغط على المغرب، أو إرسال رسائل سياسية إلى المجتمع الدولي. ويأتي تحرك البوليساريو الأخير في سياق حدثين مهمين: أولًا، أنه جاء قبيل إصدار مجلس الأمن قراره الدوري بشأن قضية الصحراء الغربية في 30 تشرين الأول/ أكتوبر 2020؛ ما يعني، أولًا، أن من بين أهداف هذا التحرك لفت انتباه مجلس الأمن والضغط عليه لاتخاذ توصيات لصالح البوليساريو (علمًا أنّ مضمون القرار كان لصالح المغرب)، وأنّ هذا التحرك، ثانيًا، جاء في سياق إقدام بعض الدول الأفريقية والعربية على فتح قنصلياتها في إقليم الصحراء في مدينتَي الداخلة والعيون، على نحوٍ مثَّل دعمًا قويًا للموقف المغربي دوليًا وإقليميًا.

وقد استمر إغلاق معبر الكركرات مدة ثلاثة أسابيع، وأدى ذلك إلى خسارة كبيرة لشركات نقل البضائع، قبل أن تقوم القوات العسكرية المغربية بتحرك غير قتالي بحضور بعثة المينورسو، أسفر عن إعادة فتح هذا المعبر واستئناف حركة الشاحنات. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه المنطقة لا تعتبر معبرًا تجاريًا حيويًا بالنسبة إلى المغرب فحسب، بل بالنسبة إلى موريتانيا وبلدان غرب أفريقيا أيضًا (مثل السينغال). كما أن البضائع التي تنقل عبره ليست مغربية فقط، بل هي قادمة من دول أخرى أيضًا، على رأسها الاتحاد الأوروبي. ومن الجهة المقابلة، يجري عبر هذا المعبر نقل البضائع من دول غرب أفريقيا تجاه المغرب والبلدان الأوروبية.

سيناريوهات ما بعد أزمة الكركرات

لعل من أهم تداعيات أزمة الكركرات الأخيرة أنها أدت إلى تكريس وضع جديد في الصحراء، يتمثل بتجاوز الجيش المغربي الجدار الرملي وفرض أمر واقع جديد. ولم تكتف القوات المغربية بتأمين التنقل عبر المعبر، بل استكملت تعبيد الطريق الدولية بين الكركرات والحدود الموريتانية. وقد يؤدي هذا الأمر تدريجيًا إلى حضور القوات المغربية حضورًا دائمًا على طول هذه الطريق لتأمين حركة التنقل، ومحاربة تهريب المخدرات، والجريمة المنظمة التي كانت منتشرة في هذه المنطقة. ومن ثم، تبرز ثلاثة سيناريوهات لتطور الأحداث في الصحراء الغربية بعد أزمة الكركرات.

1. السيناريو الأول

يتمثل هذا السيناريو بحدوث تصعيد متدرج بين الطرفين يؤدي إلى صدام عسكري، كأنْ تشنّ جبهة البوليساريو هجمات عسكرية على مواقع القوات العسكرية المغربية، سواء في ممر الكركرات أو غرب الجدار الرملي وشماله، ويردّ المغرب بهجوم واسع، ويوسّع حضوره العسكري جنوب الجدار وشرقه. وفي هذه الحالة، لن تقبل البوليساريو هذا الرد غير المتناسب على هجماتها المحدودة، لأن الرد المغربي سيعتبر تغييرًا جوهريًا للوضع القائم، وستدخل المنطقة مرحلة من الهجمات العسكرية المتبادلة التي قد تكون متفرقة في الزمان.

لكن هذا الخيار يظل غير مرجح، ولا يخدم مصلحة أي طرف من أطراف النزاع. فعلى الرغم من المأزق الذي تعانيه البوليساريو خلال السنوات الأخيرة، سواء بسبب تأزم الوضعية الاجتماعية في مخيمات تندوف أو تراجع الدعم الدولي السياسي والمالي لها، فإنها لا تملك القدرات التي تستطيع أن تجابه بها المغرب عسكريًا. وأيّ مواجهة عسكرية، لا سيما في المنطقة الموجودة جنوب الجدار الرملي وشرقه، سوف تكون نتائجها سلبية بالنسبة إلى جبهة البوليساريو، ولذلك فهي لن تغامر بتبنّي هذا الخيار. كما أن الوضع العام في الجزائر لا يشجعها على الدخول في نزاع مع المغرب، حتى إنْ كان بشكل غير مباشر. لذلك، يظل هذا السيناريو مستبعدًا، إلا إذا حدث خطأ كبير في سوء التقدير من أحد الأطراف يؤدي إلى انفلات الوضع. ومع ذلك، فإن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة سيبذلان جهدًا لإقناع الأطراف المعنية بوقف إطلاق النار، لأن أيّ انهيار في الوضع العسكري في المنطقة ستكون له انعكاسات اقتصادية وأمنية على أوروبا.

2. السيناريو الثاني

يتمثل هذا السيناريو بأن يفرض المغرب واقعًا جديدًا في الميدان، وذلك بتكريس وجوده العسكري الدائم جنوب الجدار وشرقه، لا سيما على طول المعبر التجاري من الكركرات إلى الحدود الموريتانية لتأمين تنقّل المركبات. وقد تخضع البوليساريو تدريجيًا لهذا الواقع الجديد، لا سيما مع التفوق العسكري المغربي، ولخشيتها أيضًا من تعميق حالة الانعزال التي تعانيها خلال السنوات الأخيرة. فقد جدّد المغرب ترسانته العسكرية خلال العقدين الأخيرين بشكل كبير نوعيًا وكميًا. وربما لا يشجعه هذا التفوق العسكري على ردع البوليساريو عن شن هجمات فحسب، بل على توسيع حضوره العسكري أيضًا في الميدان جنوب الجدار الرملي وشرقه. ولا تستطيع البوليساريو أن تشنّ هجمات فعّالة ضد القوات المغربية، لا سيما أنّ المنطقة الموجودة جنوب الجدار وشرقه أصبحت تحت المراقبة المغربية الكاملة بالأقمار الاصطناعية. وهذا ما يستبعد احتمال شنّ البوليساريو هجمات على القوات العسكرية المغربية في شكل حرب العصابات التي لم تعد مجدية الآن في المنطقة، نظرًا إلى ما حصل عليه المغرب خلال العقدين الأخيرين من أسلحة متطورة ومضادة لهذا النوع من الحروب.

وما يعزز احتمالية هذا السيناريو أنّ المغرب ليس من مصلحته هو أيضًا الدخول في حرب مع البوليساريو، ولا يريد خلخلة الوضع القائم بشكل جوهري لصالحه. بل يمكن أن يستغل الفرص التي تتيحها له أخطاء البوليساريو ليفرض وقائع جديدة في الميدان تدريجيًا، ومن دون قتال.

ولا يتعارض هذا السيناريو الثاني مع إمكانية استئناف المفاوضات بين الطرفين تحت رعاية منظمة الأمم المتحدة، لكن سيكون من الصعب إقناع البوليساريو بذلك؛ لأنها ستشعر بالضعف أمام ما سيكون المغرب قد حقّقه من مكاسب ميدانية.

ورغم واقعية هذا السيناريو وإمكانية حدوثه، فإن المغرب سيكون حريصًا على التحكم في ردوده العسكرية، لأن من شأن أيّ ردّ، حتى إنْ كان متناسبًا، أن يؤدي إلى انهيار الوضع القائم. ونظرًا إلى محدودية المكاسب السياسية والعسكرية التي قد يحققها المغرب من خلال هذا السيناريو، مع احتمال نشوب حرب، فإن هذا الخيار يظل غير مثالي بالنسبة إلى كلٍّ من المغرب والبوليساريو.

3. السيناريو الثالث

يتمثل السيناريو الثالث باستمرار الوضع الحالي كما هو من دون أيّ تصعيد ميداني. قد تكون هناك تحركات مدنية وسياسية للبوليساريو جنوب الجدار الرملي وشرقه، مع إصدار بعض البيانات، لكن من دون أن يصاحب ذلك تحركات عسكرية، ثم تهدأ الظروف تدريجيًا لتعود الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل أزمة الكركرات الأخيرة. بتعبير آخر، سيعود الوضع في هذا السيناريو إلى الحالة التي سادت منذ بداية سريان اتفاق إطلاق النار. وقد تسجل بعض الخروقات للاتفاق العسكري رقم 1، لكنها ستكون انتهاكات غير جوهرية ولن تؤدي إلى مشاكل كبرى.

وما يعزز واقعية هذا السيناريو أنّ من مصلحة كل الأطراف (المغرب والبوليساريو والجزائر وموريتانيا) أن تحافظ على الأمر الواقع، وعدم تغييره جذريًا، وأن تسير في النهج ذاته الذي بدأ بعد انتهاء حرب الرمال في عام 1963، وتكرَّسَ بعد وقف إطلاق النار في عام 1991.