العنوان هنا
تقييم حالة 13 أبريل ، 2022

الموقف الإسباني الجديد من قضية الصحراء الغربية وتداعياته الإقليمية

سعيد الصديقي

أستاذ العلاقات الدولية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، فاس، المغرب


مقدمة

تعدّ الأزمة الدبلوماسية التي اندلعت بين المغرب وإسبانيا لاستضافتها زعيم جبهة البوليساريو، إبراهيم الغالي، سرًّا قصد الاستشفاء من تداعيات إصابته بفيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) في نيسان/ أبريل 2021، أكبر أزمة سياسية بين البلدين منذ عقدين. وقد جاءت هذه الأزمة على خلفية توتر شهدته العلاقات سابقًا بسبب تواتر تصريحات معادية للمغرب من زعماء حزب "بوديموس" الشعبوي الذي يشارك في الحكومة الإسبانية الحالية، وإغلاق المعبرين البريين لمدينتَي سبتة ومليلية المحتلتين والذي جاء عقب الانتخابات البلدية في نيسان/ أبريل 2019؛ حيث حافظ الحزب الشعبي اليميني على الأغلبية في مدينة مليلية، وشكّل الحزبان اليمينيان، الحزب الشعبي وحزب "فوكس"، تحالفًا مسيّرًا لمدينة سبتة. يضاف إلى ذلك تحفّظ الحكومة الإسبانية على الاعتراف الأميركي بالسيادة المغربية على إقليم الصحراء الغربية الذي أعلنه الرئيس دونالد ترامب، في 11 كانون الأول/ ديسمبر 2020. وقد وصفت وزيرة الخارجية الإسبانية آنذاك، رانشا غونثالث لايا، هذا الاعتراف بأنه لا يخدم قضية الصحراء ويزيد من تعقيدها. وقد تسبب هذا الموقف في تأجيل لقاء رئيسَي الحكومتين المغربية والإسبانية الذي كان يفترض أن يُعقد، في 17 كانون الأول/ ديسمبر 2020[1].

وبعد ضغطٍ سياسي من المغرب، منذ اندلاع الأزمة الدبلوماسية مع إسبانيا واستدعاء سفيرته في مدريد، والإشارة إلى موضوع أمن الحدود والهجرة غير النظامية[2]، وتزايد الخسائر الاقتصادية لإسبانيا جراء هذه الأزمة، قامت الحكومة الإسبانية بخطوة فاجأت الكثيرين؛ وذلك بإعلانها دعم مبادرة الحكم الذاتي المغربية واعتبارها "الأساس الأكثر جدية وصدقية من أجل تسوية الخلاف"[3]. وقد جاء هذا الموقف الجديد في رسالة وجهها رئيس الحكومة، بيدرو سانشيز، إلى الملك محمد السادس، في 18 آذار/ مارس 2022، وأكده مضمون البيان المشترك الذي صدر عقب زيارة رئيس الحكومة الإسبانية إلى الرباط في 7 نيسان/ أبريل 2022[4]. ويعدّ هذا تطورًا مهمًّا في موقف إسبانيا من قضية الصحراء[5]، ونقلة في العلاقات المغربية - الإسبانية، خاصةً أن هذه الرسالة تضمنت مبادئ يمكن أن تشكّل إطارًا لشراكة أكثر استقرارًا بين البلدين. ورغم أن المغرب يرى أن إسبانيا بهذا الموقف الجديد أصبحت أكثر وضوحًا في قضية الصحراء، فإنه يبتغي اعترافًا صريحًا منها بالسيادة المغربية على إقليم الصحراء الغربية، كما فعلت الولايات المتحدة الأميركية.

أولًا: الصحراء الغربية: تاريخ من الصراع على السيادة والولاء

تتمتع منطقة وادي الذهب والساقية الحمراء، التي تُعرف دوليًا بإقليم الصحراء الغربية – والتي كانت تُسمّى أيضًا في ظل الاستعمار الإسباني الصحراء الإسبانية - بموقع جيوسياسي مهمّ، على الرغم من قساوة طقسها وصعوبة الحياة فيها، وافتقادها لثروات طبيعية كبيرة. وقد مثّلت هذ المنطقة بالنسبة إلى المغرب عمقًا استراتيجيًّا؛ إذ ظلت، كما يرى، مرتبطة به باستمرار بغض النظر عن السلالات التي حكمته، والتي ينحدر بعضها من الصحراء، واتجهت إليها أيضًا أنظار القوى الاستعمارية منذ بداية التوسع الاستعماري في القارة الأفريقية. وترى الرباط أن الوثائق التاريخية، سواء رسائل ولاء وبيعة قبائل الصحراء لسلاطين المغرب أو الاتفاقيات الثنائية التي أبرمها مع بعض الدول الغربية، تعدّ اعترافًا صريحًا للمغرب بسيادته على هذا الإقليم، وأنه جزء لا يتجزأ من ترابه الوطني[6] .

ونظرًا إلى أن المغرب تعرض لاستعمار متعدد الجنسيات وفي فترات زمنية متفرقة، فإنه لم يكن قادرًا على تحرير كل إقليمه عند حصوله على الاستقلال في عام 1956. واستعاد لاحقًا إقليمَي طرفاية وسيدي إفني في الجنوب على التوالي في عامي 1958 و1969 باتفاق ثنائي مع إسبانيا، لكن إقليم الصحراء الغربية ظل تحت السيطرة الإسبانية إلى عام 1975. ويعتبر الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية الصادر، في 16 تشرين الأول/ أكتوبر 1975[7] ، نقطة تحول في التاريخ الحديث للصحراء الغربية. فقد خلص هذا القرار إلى أن الصحراء الغربية لم تكن أرضًا خلاء أو لا مالك لها Terra nullius، قبل الاستعمار الإسباني، وأكد أيضًا وجود روابط بين هذه المناطق وكل من المغرب وموريتانيا. وعلى الرغم من عدم التوافق على تفسير هذا الرأي الاستشاري، فإنه شكّل الإطار القانوني الدولي لكل المبادرات المغربية الرامية إلى إيجاد حل لقضية الصحراء؛ إذ يؤكد وجود ارتباط سياسي وقانوني وروحي لسكان الصحراء الغربية بالعديد من السلالات التي حكمت المغرب على أساس علاقات البيعة على مر تاريخ المنطقة.

وعلى الرغم من أن إسبانيا غادرت منطقة الصحراء الغربية بطريقة سلمية، بناءً على اتفاقية مدريد في 14 تشرين الثاني/ نوفمبر 1975 المبرمة بينها وبين كل من المغرب وموريتانيا، فإنها لم تساعد على طي هذه القضية نهائيًا، وظل موقفها مترددًا وغامضًا أحيانًا، وكأنها تريد أن تمسك "العصا من الوسط" فلا تود إيجاد حل نهائي لقضية الصحراء؛ لأن ذلك من شأنه أن يجعل المغرب يركز جهده الدبلوماسي على تحرير مدينتَي سبتة ومليلية وبقية الجزر المتوسطية التي لا تزال تحتلها إسبانيا. وتضاف قضية الصحراء إلى عوامل أخرى جعلت العلاقات السياسية بين البلدين حبيسة أفق محدود؛ مع أنّ علاقاتهما الاقتصادية متقدمة. لقد ساهمت عوامل تاريخية كثيرة في جعل هذه العلاقات تتسم عادة بعدم الثقة والتوجس والشك، مثل الإرث الاستعماري، واستمرار احتلال إسبانيا لمدينتَي سبتة ومليلية وبقية الجزر المغربية المتوسطية، وعدم الاتفاق حتى الآن على ترسيم حدودهما البحرية على الساحلَين المتوسطي والأطلسي. لكن هذه العوامل لم تمنع استقرار العلاقات بين البلدين في حدود معينة. وواجه البلدان امتحانًا كبيرًا في علاقاتهما في صيف 2002 فيما سمي أزمة جزيرة ليلى (وتسمى أيضًا جزيرة المعدنوس)، والتي كادت أن تؤدي إلى مواجهة عسكرية بينهما.

ثانيًا: موقع الصحراء الغربية في العلاقات المغربية - الإسبانية

هناك ثلاث دوائر تجاذب وتنافر في المصالح المغربية - الإسبانية، وترتبط كلها بعلاقة تأثير متبادل بقضية الصحراء الغربية، وهي: دائرة القضايا الآنية، ودائرة القضايا المتوسطة المدى، ودائرة القضايا الاستراتيجية[8]. تتسم قضايا الدائرة الأولى غالبًا بالطابع السياسي، وترتبط خاصة بتغيرات الحياة السياسية الداخلية في إسبانيا؛ إذ نلاحظ اختلاف التعامل مع قضية الصحراء من حكومة إلى أخرى، بحسب الحزب الذي يقودها، ومكوناتها الحزبية الأخرى. وقد أصبح ثابتًا أن الحكومات اليمينية في إسبانيا لا تكون عادة في وفاق مع المغرب، وقد أضيف إليها مؤخرًا فاعل سياسي جديد وهو التيار الشعبوي والممثل في الحكومة الحالية بحزب بوديموس. لكن على الرغم من الهزات التي تتعرض لها علاقات البلدين بسبب تغير المشهد السياسي الإسباني، فإنها سرعان ما تعود تدريجيًا إلى وضعها الطبيعي المستقر والمشوب بالحذر. وتندرج أزمة جزيرة ليلى في 2002 والأزمة الأخيرة التي بدأت في نيسان/ أبريل 2021 ضمن القضايا الآنية المندرجة في هذه الدائرة.

وتعدّ قضايا الدائرة الثانية الأساس في العلاقات المغربية - الإسبانية، والذي يمكن أن يجعلها أكثر استقرارًا ونفعًا إذا نجح الطرفان في إدارتها جيدًا. وتضم هذه الدائرة المصالح الاقتصادية المتبادلة، والهجرة غير النظامية، وأمن الحدود، والتعاون الأمني ... إلخ. وتتأثر هذه الدائرة سلبًّا وإيجابًّا بدرجات متفاوتة بقضايا الدائرة الأولى، لكنّ الدولتين تتعاملان بحذر وبراغماتية في إدارة قضايا الدائرة الثانية، وتحرصان على احتواء أي تهديد لمصالحهما الاقتصادية والأمنية والسياسية المتبادلة.

أما الدائرة الثالثة، فتضم القضايا الاستراتيجية والبعيدة المدى، والتي تفرضها الجغرافيا والتاريخ، مثل قضية سبتة ومليلة وبقية الجزر المغربية المتوسطية المحتلة، وترسيم الحدود البحرية، ونظرة كل دولة Perception إلى الأخرى. ويبدو أن الدولتين تنأيان حاليًّا عن إثارة هذه القضايا، إلا في بعض المناسبات، وخصوصًا من الجانب المغربي، ليذكّر العالم بها حتى لا تسقط بعض هذه الحقوق التاريخية بالتقادم. إن عامل الزمان، وتغير بنية النظام الدولي، والتحولات المستقبلية في ميزان القوى بين البلدين، هي العوامل التي ستوفر الظروف الملائمة لمعالجة قضايا هذه الدائرة[9].

يتأرجح موقع قضية الصحراء الغربية في علاقات البلدين بين هذه الدوائر الثلاث جميعًا؛ فعلى مستوى التفاعلات السياسية والدبلوماسية لقضية الصحراء على المستويين الدولي والإقليمي، وما يترتب عليهما من تأثيرات مباشرة في علاقات المغرب ببقية البلدان، تندرج ضمن الدائرة الأولى؛ وهو ما عايشناه بشأن تداعيات التحفظ الإسباني على الاعتراف الأميركي في عام 2021 بمغربية الصحراء. لكنّ إيجاد حل نهائي لقضية الصحراء الغربية وطي ملفها نهائيًّا يندرج ضمن القضايا الاستراتيجية؛ ذلك أنه على الرغم من كل ما حققته الدبلوماسية المغربية من تقدم مهمّ خلال السنوات الأخيرة في توسيع دائرة الاعتراف بالسيادة المغربية على إقليم الصحراء، ومزيد من الإشادات الدولية بمقترح الحكم الذاتي الذي قدمه المغرب منذ عام 2007، فإن موقف الجزائر[10] من هذه القضية يعني أن الحل ينبغي أن يكون في الإطار الإقليمي المغاربي، وليس في الإطار الدولي. لذلك فإن موقف الحكومة الإسبانية الأخير يعزز التصور المغربي لقضية الصحراء الغربية سياسيًّا ودبلوماسيًّا، لكن مساهمة هذا الموقف في الحل النهائي لهذه القضية يصعب التكهن به الآن.

يمكن القول إن ما شهدته العلاقات المغربية - الإسبانية من أزمة دبلوماسية خلال الشهور الأخيرة (من نيسان/ أبريل 2021 إلى 18 آذار/ مارس 2022) كان محورها قضية الصحراء الغربية، ليس فقط لأن سببها المباشر هو استضافة إسبانيا لزعيم البوليساريو - وهو أيضًا رئيس ما يسمى الجمهورية العربية الصحراوية - قصد الاستشفاء، بل تقاطعت فيها عوامل متنوعة تمثّل قضية الصحراء قاسمها المشترك. إذًا، يمكن القول إن هذه الأزمة الأخيرة تجسد التفاعل بين قضايا الدوائر الثلاث، وهي أزمة ظرفية لذلك لم تدم إلا شهورًا.

ثالثًا: حيثيات الموقف الإسباني الجديد من الصحراء

يمكن فهم تطور[11] موقف إسبانيا من قضية الصحراء، في سياق علاقاتها الثنائية مع المغرب، وأيضًا في سياق عالمي متأثر بتداعيات أزمة الحرب بين روسيا وأوكرانيا. وإذا استثنينا تصريحات بعض الوزراء المنتمين إلى حزب بوديموس، فإن الحكومة الإسبانية – وخصوصًا رئيسها سانشيز - تعاملت ببراغماتية[12] مع هذه الأزمة، منذ بدايتها؛ ما سهّل على الجانب المغربي الوصول إلى هذا التفاهم بين الطرفين.

لقد شكلت هذه الأزمة تهديدًا مباشرًا لمصالح البلدين، وخصوصًا إسبانيا، وفي الجانب الاقتصادي خاصة. وتجدر الإشارة إلى أن المبادلات التجارية بين البلدين شهدت تطورًا ملحوظًا خلال السنوات الأخيرة، حيث صارت إسبانيا الشريك التجاري الأول للمغرب منذ عام 2014 بنسبة 16.3 في المئة من مجموع مبادلاته التجارية في تلك السنة، متجاوزة فرنسا التي كانت دائمًا الشريك التجاري الأول للمغرب،[13] وهذا ما عزز مكانة الاقتصاد الإسباني في مجال التجارة والاستثمار لدى المغرب. لذلك فإن أي توتر سياسي بين البلدين من شأنه أن يؤثر سلبيًا في مصالحهما الاقتصادية المشتركة. ومن النتائج المباشرة لهذه الأزمة استثناء المغرب الموانئ الإسبانية من عملية "مرحبا" لعام 2021 التي تنظم قدوم أكثر من ثلاثة ملايين من المغاربة المقيمين في أوروبا لقضاء عطلتهم الصيفية في المغرب. وقد سمحت الحكومة المغربية بقدومهم في تلك السنة فقط، عبر الموانئ البرتغالية والفرنسية والإيطالية. وتُقدّر خسائر الاقتصاد الإسباني، بعد هذا القرار المغربي، بحوالي 1.15 مليار يورو ينفقها المهاجرون المغاربة عند عبورهم التراب الإسباني في طريقهم إلى بلادهم خلال سنة واحدة، وتشمل هذه النفقات تكاليف الإقامة في الفنادق والطعام وتذاكر السفن ومحطات الوقود[14]، خسرت شركات الملاحة البحرية الإسبانية وحدها بسبب استثناء الموانئ الاسبانية من هذه العملية حوالي 500 مليون يورو[15]، فضلًا عن احتمال وجود خسائر أخرى غير معلنة في مجالَي الاستثمار والتبادل التجاري.

ويأتي هذا الانفراج في الأزمة السياسية بين المغرب وإسبانيا في ظل سياق دولي صعب، وخاصة للدول الأوروبية. فقد ساهمت تداعيات أزمة أوكرانيا في تعزيز موقع المغرب في النظامين الدولي والإقليمي؛ نظرًا إلى موقعه الجيوسياسي المهم، وهو يحاول كل ما في وسعه تعزيز هذه المكانة، من خلال موقفه البراغماتي من هذه الأزمة وحفاظه على خطوط الاتصال مع مختلف شركائه[16]. ويظهر هذا جليًا من خلال انخراطه في الحراك الدبلوماسي الذي شهدته المنطقة العربية خلال الأسابيع الأولي التي تلت اندلاع أزمة أوكرانيا[17]. ولعل من العوامل التي جعلت الدول الغربية توجّه أنظارها إلى المغرب في هذا الوقت هو ما قد يقدمه من خيارات لإسبانيا وأوروبا عمومًا، لتعزيز أمنها الطاقي سواءً بما يزخر به من مصادر الطاقة المتجددة الشمسية والريحية أو احتمال وجود احتياطات مهمة للغاز في الأراضي المغربية، وأيضًا مشروع خط أنبوب الغاز نيجيريا - المغرب[18] الذي قد يسهم في تعويض جزء من الغاز الروسي وتنويع مصادر أوروبا من الطاقة. علاوة على ما سبق، فإن عدم تجاوب الجزائر مع مطالب الدول الغربية بزيادة حجم صادراتها من الغاز إلى أوروبا[19]، وإعادة تشغيل أنبوب الغاز المغاربي - الأوربي الذي يمر عبر المغرب[20]، سرّع من وصول إسبانيا والمغرب إلى التفاهم السياسي الأخير، والذي تمخضت عنه إشادة إسبانية بمبادرة الحكم الذاتي المغربية.

يجدر الذكر أيضًا أن هذا الموقف الإسباني الجديد يأتي في ظل تحرك دبلوماسي أميركي واسع لحشد الدعم الدولي لسياسات واشنطن تجاه روسيا. ويبدو أن الإدارة الأميركية لم تكن بعيدة عن المفاوضات غير المعلنة بين الجانبين المغربي والإٍسباني للوصول إلى هذا التفاهم المتضمن في رسالة رئيس الحكومة الإسباني لملك المغرب. ومن بين مؤشرات ذلك أن الإدارة الأميركية سارعت، مباشرة بعد الكشف عن نتائج التفاهم المغربي - الإسباني، إلى الإعلان أنها تقاسم إسبانيا موقفها من قضية الصحراء، وأن مخطط الحكم الذاتي الذي اقترحه المغرب "جاد وذو صدقية وواقعي"، ويتضمن إمكانات واضحة للاستجابة لتطلعات سكان إقليم الصحراء الغربية[21].

رابعًا: تأثير الموقف الإسباني الجديد في المنظومة الإقليمية

يتأرجح المغرب بين تأثير نظامَين إقليميَين فرعيَين، هما النظام المغاربي ونظام غرب المتوسط؛ وهما نظامان متداخلان[22]. وتمثّل قضية الصحراء أحد عناصر تفاعلهما وتأثرهما المتبادل. وعلى الرغم من أن النظام الدولي الحالي يسمح للمغرب بهامش واسع للمناورة على الصعيد الدولي، فإن تجاذبات هذين النظامين الإقليميين تجعله في ما يشبه حالة إعاقة، عاجزًا عن الانطلاق بحرية. لذلك فإن هذا التفاهم الجديد مع إسبانيا من شأنه تحرير المغرب نسبيًا من بعض قيود الأنظمة الإقليمية التي تتجاذبه. وفي المقابل، ترى الجزائر في هذا التطور تهديدًا لها، وهذا ما يفسر رد فعلها ضد التقارب الجديد بين المغرب وإسبانيا.

يرى البعض أن قضية الصحراء هي سبب العلاقات المتوترة والمتأزمة باستمرار بين المغرب والجزائر، بيد أنه باستحضار تاريخ العلاقات بين البلدين وسياق ظهور هذه القضية، سنجد أنها في الواقع نتيجة لأزمة هذه العلاقات وليست سببًا لها؛ أو بمعنى آخر فإن قضية الصحراء الغربية هي أحد مظاهر النظام المغاربي المتسم بالتوجس وعدم الثقة بين مكوناته، وخصوصًا الدولتين الأساسيتين، المغرب والجزائر. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا الصدد هو: هل زاد هذا الموقف الإسباني من الفجوة بين المغرب والجزائر؟ في حقيقة الأمر، لقد جاء هذ التطور في موقف إسبانيا تجاه قضية الصحراء الغربية في ظل أزمة سياسية كبيرة بين المغرب والجزائر بعد حدوث القطيعة الدبلوماسية بين البلدين منذ 24 آب/ أغسطس 2021. وقد شجعت زيادةُ إيرادات صادرات الغاز والنفط والتراكم الكبير لمخزون العملات الأجنبية خلال السنوات الثلاث الأخيرة، إضافة إلى الفرص التي تتيحها أزمة أوكرانيا في هذا الصدد، الحكومةَ الجزائرية على الحفاظ على مواقفها التقليدية من قضية الصحراء ومن المغرب أيضًا؛ لأنها ليست في حاجة ماسة في هذا الوقت إلى الفوائد الاقتصادية التي يمكن أن تجنيها من تطبيع علاقاتها مع المغرب[23]. لقد جاء هذا الموقف الإسباني الجديد ليؤكد قواعد "اللعبة الصفرية" التي تحكم العلاقات المغربية – الجزائرية، وخصوصًا فيما يتعلق بقضية الصحراء، حيث سارعت الجزائر إلى استدعاء سفيرها في مدريد معتبرة الموقف الإسباني الجديد "انقلابًا فجائيًا وتحولًا في موقف الحكومة الإسبانية إزاء ملف الصحراء"[24]. ولعل ما أعطى هذا الموقف الإسباني قيمةً سياسية أكبر، هو طبيعة رد فعل كل من الجزائر وجبهة البوليساريو؛ لأنهما شعرتا بوجود مؤشرات على احتمال تحول في السياسة الخارجية الإسبانية تجاه قضية الصحراء مستقبلًا، وخصوصًا أنه جاء في ظل حراك دبلوماسي أميركي نشيط تجاه المغرب خلال الشهور الأخيرة، وتطور علاقات المغرب مع إسرائيل؛ ما قد يعزز لدى الجزائر مخاوف احتمال تشكيل حلف معاد لها في المنطقة.

أما على مستوى غرب المتوسط، فإن الإرث التاريخي والخلافات الإقليمية الطويلة الأمد بين المغرب وإسبانيا، وإشكالية ترسيم حدودهما البحرية على ضفتَي المتوسط والأطلسي، وموقف إسبانيا من قضية الصحراء، وبعض المصالح الاقتصادية المتناقضة، هي العوامل التي حددت الإطار العام لعلاقات البلدين منذ استقلال المغرب في عام 1956. وقد أظهرت أزمة جزيرة "ليلى" في عام 2002، والأزمة السياسية الأخيرة (2021)، مدى هشاشة العلاقات بين البلدين وقابليتها السريعة للتأثر بأبسط الأحداث، على الرغم مما يجمعهما من مصالح اقتصادية وأمنية كبيرة. وفيما يتعلق بموقع قضية الصحراء في العلاقة بين البلدين، فمنذ انسحاب إسبانيا من إقليم الصحراء الغربية في عام 1975، ظلت مدريد تمسك "العصا من الوسط" إزاء هذه القضية، ولم تساهم بأي دور لتسويتها، مع أنها كانت سببًا في نشوئها. ويبدو أن إسبانيا تستحضر دائمًا مدينتي سبتة ومليلية وبقية الجزر المغربية المحتلة، عندما يلوح في الأفق أي مؤشر لحل نهائي لقضية الصحراء لصالح المغرب؛ لأن ذلك سيعزز موقعه الجيوسياسي، ويجعله يركز جهوده على تحرير ما تحتله إسبانيا من أراضيه ومياهه في شمال البلاد.

خاتمة

على الرغم مما تشكله المبادئ الواردة في رسالة رئيس الحكومة الإسبانية، وفي بلاغ الديوان الملكي المغربي في 31 آذار/ مارس 2022، والبيان المشترك للبلدين في 7 نيسان/أبريل 2022، من إطار ملائم لشراكة أكثر متانة واستقرارًا، فإن العلاقات بين البلدين ستظل دائمًا مشوبة بالحذر والتوجس المتبادلين، وستكون معرضة للتأثر بالمستجدات السياسية الظرفية في المشهد السياسي الإسباني، وأيضًا تظل سبتة ومليلية وبقية الجزر المغربية المحتلة عقبة في طريق تحول عميق في العلاقات بين البلدين.

تجمع الدولتين مصالح اقتصادية كبيرة، خاصة من الجانب الإسباني، وهذا ما يفسر دفاع مدريد عن الاتفاقين التجاريين بين المغرب والاتحاد الأوروبي، مع أن محكمة العدل الأوروبية قد ألغتهما في حكم ابتدائي[25]. كما أنهما أيضًا في حاجة دائمة إلى التعاون الثنائي في القضايا الأمنية وإدارة الحدود، وستحتاج كل دولة إلى الأخرى أكثر في المستقبل المنظور وخاصة فيما يتعلق بالأمن الطاقي والغذائي. لكن نقطة الضعف الأساسية تكمن في متغيرات المشهد السياسي الداخلي في إسبانيا. مع أن الموقف الإسباني الجديد لا يحظى بدعم واسع، حتى الآن، من مكونات الحكومة الحالية أو أعضاء البرلمان، لكن نظرًا إلى أنه الموقف الرسمي للدولة[26] الذي قد عبّر عنه رئيس الحكومة، فسيكون من الصعّب على الحكومات اللاحقة تغييره، حتى إن كانت لها تصورات مختلفة تجاه قضية الصحراء؛ لأن أي تغير في الاتجاه المعاكس سيؤدي إلى تدهور كبير للعلاقات المغربية - الإسبانية.


[1] حسين مجدوبي، "اعتراف ترامب بمغربية الصحراء وراء تأجيل قمة الرباط مدريد والأخيرة تلمح إلى ضرورة تراجع بايدن عن القرار"، القدس العربي، 16/12/2020، شوهد في 6/4/2022، في:https://bit.ly/3vjjEfh

[2] بعد أيام قليلة من بداية الأزمة السياسية بين البلدين، علّق المغرب التعاون الأمني مؤقتًا مع إسبانيا؛ ما أدى إلى دخول مئات من الأفراد بطريقة غير القانونية إلى مدينة سبتة، وقد اتهمت إسبانيا السلطات المغربية بالابتزاز بورقة الهجرة غير النظامية.

“Spain Accuses Morocco of ‘blackmail’ over Ceuta Migrant Surge,” Reuters, 20/5/2021, accessed on 6/4/2022, at: https://reut.rs/3jf1RzY

[3] Francisco Peregil & Miguel González, “España toma partido por Marruecos en el conflicto del Sáhara,” El Pais, 18/3/2022, accessed on 7/4/2022, at: https://bit.ly/3Ku4wBK

[4] "النص الكامل للبيان المشترك المعتمد في ختام مباحثات الملك محمد السادس ورئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيز"، وكالة المغربي العربي للأنباء، 7/4/2022، شوهد في 12/4/2022، في: https://bit.ly/3KGtDBO

[5] سبق لرئيس الحكومة الإسباني السابق، خوسيه لويس ثاباتيرو، أن أشاد بالمبادرة المغربية للحكم الذاتي حينما كان يقود الحكومة، وكرر موقفه بوضوح أكثر من مرة بعد مغادرته رئاسة الحكومة. ينظر: "ثاباتيرو يشيد بخطة الصحراء ويذكر بحق تقرير المصير"، الجزيرة نت، 7/3/2007، شوهد في 7/4/2022، في: https://bit.ly/3LQkxCB

[6] Said Saddiki, “The Sahara Wall: Status and Prospects,” Journal of Borderlands Studies, vol. 27, no. 2 (2012) , pp. 199-212, accessed at 7/4/2022, at: https://bit.ly/3KdFKG2

[7] سعيد الصديقي، "قراءة في الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية في شأن قضية الصحراء الصادر في 16 أكتوبر 1975"، في: أبحاث ودراسات قانونية وسياسية مهداة للأستاذ القدير أحمد بنكوكوس (وجدة: مطبعة حراء، 2013)، ص 109-118.

[8] سعيد الصديقي، "المغرب - إسبانيا: الاستقرار الحذر"، الأيام الأسبوعية، العدد 973، 30/12/2021، ص 8.

[9] المرجع نفسه.

[10] Said Saddiki, “La vision algérienne du droit à l’autodétermination à l’épreuve du principe de non-ingérence dans les affaires intérieures des Etats,” in: Centre d’Etudes Internationales (dir.), Maroc-Algérie: Analyses croisées d’un voisinage hostile (Paris: Karthala, 2011), pp.143-157.

[11] نفى رئيس الحكومة، بيدرو سانشيز، أن يكون الموقف الإسباني الجديد "تحولًا" بل هو بحسب تعبيره "خطوة أخرى على الطريق الذي بدأ قبل 14 عامًا"، لإيجاد مخرج لهذه القضية.

Javier Casqueiro, “Sánchez defiende el giro sobre el Sáhara como ‘un paso más’ ante ‘un conflicto enquistado’,” El Pais, 30/3/2022, accessed on 7/4/2022, at: https://bit.ly/3DKQGZr

[12] في خضم الأزمة السياسية بين البلدين أدلى رئيس الحكومة الإسباني، سانشيز، مرارًا بتصريحات إيجابية تجاه المغرب واصفًا إياه بأنه شريك استراتيجي لإسبانيا، وهذه التصريحات نابعة من رؤية إيجابية جدًا لسانشيز تجاه العلاقات الثنائية بين البلدين والتي عبر عنها في صيف 2019 في مقال مهم نشر في جريدة إلباييس بعنوان "إسبانيا والغرب: علاقة استراتيجية".

Pedro Sánchez, “España y Marruecos: una relación estratégica,” El Pais, 29/7/2019, accessed on 7/4/2022, at: https://bit.ly/3r7RQcc

[13] المملكة المغربية، وزارة الاقتصاد والمالية، مديرية الدراسات والتوقعات المالية، "نقط حول العلاقات المغربية - الإسبانية مبادلات تجارية متنامية"، نيسان/ أبريل 2015، شوهد في 7/4/2022، في: https://bit.ly/3rv59E3

[14] Roberto L. Vargas, “Marruecos asesta un golpe de 1.150 millones de euros a España al cancelar la operación paso del Estrecho,” La Razón, 7/6/2021, accessed on 7/4/2022, at : https://bit.ly/37qD2OP

[15] Carlos Segovia, “El nuevo golpe de Mohamed VI: 500 millones a empresas españolas que viven del Paso del Estrecho,” El Mundo, 8/7/2021, accessed on 7/4/2022, at: https://bit.ly/3LR07JH

[16] بعد يومين من بداية دخول الجيش الروسي إلى أوكرانيا، أصدرت وزارة الخارجية المغربية في 26 شباط/ فبراير 2022 بيانًا ذكّرت فيه بضرورة احترام وحدة أراضي أعضاء الأمم المتحدة، واللجوء إلى الوسائل السلمية لحل النزاعات، لكن من دون أن تعبر عن موقف واضح من هذه الأزمة. وفي 2 آذار/ مارس 2022 غاب المغرب عن جلسة لتصويت الجمعية العامة لإدانة التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، وفي 22 آذار/ مارس 2022 اتصل وزير الخارجية المغربي بوزيرَي خارجية كل من روسيا وأوكرانيا. وقد فسر هذا السلوك الدبلوماسي للمغرب برغبته في الحفاظ على مسافة واحدة من الطرفين وعدم الانحياز إلى أي منهما، وأنه موقف براغماتي وواقعي، خاصة أن المغرب تربطه علاقات جيدة بالطرفين، كما أن روسيا هي عضو دائم بمجلس الأمن. ووجه أيضًا بهذا الموقف رسالة إلى الغرب على أن قضية الصحراء هي محدد أساسي لسلوك المغرب الخارجي. وقد لوحظ بعد هذه المواقف المغربية اهتمامًا متزايدًا من الدول الغربية لفهم أبعاد هذا التعامل المغربي مع قضية أوكرانيا، وخصوصًا أنه كان يعتبر بلدًا حليفًا للغرب وأن مصالحه معه من الناحية الاقتصادية والسياسية والعسكرية أكبر مقارنة بروسيا.

[17] نذكر على سبيل المثال مشاركة وزير خارجية المغرب في لقاء النقب الذي جمع وزراء خارجية أربع دول عربية، وهي المغرب ومصر والإمارات العربية المتحدة وعمان، ووزيرَي خارجية إسرائيل والولايات المتحدة في 28 آذار/ مارس 2022، وتلاه في اليوم الموالي، 29 آذار/ مارس 2022، زيارة رسمية لوزير الخارجية الأميركي للرباط حيث التقى كلًّا من رئيس الحكومة ووزير الخارجية المغربيَين، وعقد أيضًا لقاء مع ولي عهد أبوظبي ومجموعة من المسؤولين الإماراتيين. كانت تداعيات أزمة أوكرانيا في صلب موضوع محادثات هذه اللقاءات.

[18] أعلن المغرب ونيجيريا، في كانون الأول/ ديسمبر 2016، اتفاقهما على تطوير خط أنبوب الغاز بين البلدين، عبر مجموعة من دول غرب أفريقيا، مع إمكانية ربطه بالقارة الأوروبية.

“Nigeria and Morocco Sign Gas Pipeline Deal to Link Africa to Europe,” Reuters, 3/12/2016, accessed on 7/4/2022, at: https://reut.rs/3DO5qGW

[19] “Algeria not Responding to Europe Requests for Increase in Gas Supplies,” Middle East Monitor, 7/3/2022, accessed on 7/4/2022, at: https://bit.ly/3jbIU11

[20] “L'Algérie refuse de faire remarcher son gazoduc vers l’Espagne,” RFI, 18/3/2022, accessed on 7/4/2022, at: https://bit.ly/3v3DkmY

[21] “EEUU coincide con España en que el plan de autonomía marroquí es ‘serio, creíble y realista’,” Inrenacional Europa Press, 18/3/2022, accessed on 7/4/2022, at: https://bit.ly/3xfHqLL

[22] للمزيد عن طبيعة هذين النظامين وتفاعلاتهما، ينظر: سعيد الصديقي، "المغرب بين قيود البنية الإقليمية وفرص النظام الدولي"، جريدة بناصا،21/7/2021. شوهد في 7/4/2022، في: https://bit.ly/3Jbo78w

[23] عبد الرزاق بن عبد الله، "الجزائر تستدعي سفيرها في إسبانيا بسبب موقفها من ملف الصحراء"، وكالة الأناضول، 19/3/2022. شوهد في 7/4/2022، في: https://bit.ly/3LRXK9z

[24] بن عبد الله.

[25] Miguel González, “España quiere que la UE recurra las sentencias que anulan los acuerdos comercial y pesquero con Marruecos,” El Pais, 29/9/2021. accessed on 7/4/2022, at: https://bit.ly/3jgVGvr

[26] هذا ما أكده رئيس الحكومة الإسبانية، سانشيز، أمام أعضاء مجلس النواب في 30 آذار/ مارس 2022 بقوله إنها "مسألة دولة تتطلب سياسات دولة". ينظر:

Javier Casqueiro, “Sánchez defiende el giro sobre el Sáhara como ‘un paso más’ ante ‘un conflicto enquistado’,” El Pais, 30/3/2022, accessed on 7/4/2022, at: https://bit.ly/3JiRDJF