مقدمة
جاء سقوط النموذج الواقعي الضيق لتعريف مفهوم الأمن Security المتعلق بمركزية الدولة وأمنها القومي في منتصف ثمانينيات القرن العشرين، نتيجة بروز قضايا أمنية أخرى لم تستطع نظريات النموذج الواقعي تفسيرها. فقد طرأت تغيرات على الساحة الدولية كانهيار الاتحاد السوفياتي وتفشي صراعات إثنية ودينية في عدد من دول أوروبا الشرقية، فضلًا عن صعود تهديدات غير تقليدية عابرة للحدود،
كالهجرة، والإرهاب، وقضايا البيئة؛ ما جعل مفهوم الأمن يخرج من افتراض وحدوية الدولة، ليصبح قابلًا للاشتقاق. بهذا، توسع بالتحليل أفقيًا بحسب القطاعات (العسكرية، والسياسية، والاقتصادية، والمجتمعية، والبيئية)، وتعمق بالتحليل رأسيًا بحسب الفواعل، انطلاقًا من الدولة نزولًا إلى الجماعات والأفراد؛ ما أنتج مقاربات مختلفة في الحقل الأمني، قادت إلى النظر إلى الفواعل ما دون الدولة ومدى تأثيرهم في الأمن وتأثُرهم به.
أثرت تلك التغيرات في توازنات القوة، فمع نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي تصاعد مشروع الولايات المتحدة الأميركية الذي روّج للديمقراطية السياسية والرأسمالية الاقتصادية وسعى لنشرها بين المجتمعات. وقد أطلق صامويل هنتنغتون Samuel P. Huntington على هذا الانتشار الواسع للقيم الديمقراطية بوساطة الفاعلين الأوربيين والولايات المتحدة خلال الربع الأخير من القرن العشرين اسم "الموجة الثالثة من الديمقراطية"، والتي يرى أنها ناتجة من التقدم التكنولوجي، والنمو السريع للشباب المتعلم، إضافةً إلى زيادة الثقة في الديمقراطية بسبب الممارسات الديكتاتورية للأنظمة السلطوية، من فساد وعدم مساواة اجتماعية، على نقيض ما يتبناه النموذج الديمقراطي من وضعِ حدٍ للفساد، وإتاحة اختيار القيادة وإقالتها، وحرية التعبير والتحرر من الخوف. وقد ساهمت مفاهيم التحول الديمقراطي للمجتمعات في تحقيق نجاحات في التفكير الأمني وإعادة صياغة مفهوم الأمن، وتسليط الضوء على قطاع الأمن وعلاقته بالدولة والمجتمع، ليبرز على السطح متطلب إصلاح قطاع الأمن بوصفه أحد مسارات ترسيخ الديمقراطية. كما ساهم تعميق مفهوم الأمن وتوسيعه في تسليط الضوء على الأفراد، وهو ما سمي بالأمن الإنساني Human Security، الذي يشير إلى ارتباط الأمن باستمرار الحياة بعيدًا عن أشكال التهديد والإحساس بالخطر؛ أي استمرار الأنشطة الإنسانية الاجتماعية والسياسية من دون وجود تهديد.
في هذا الصدد، يُعد مفهوما إصلاح قطاع الأمن والأمن الإنساني من المفاهيم الحديثة نسبيًا في الخطاب الأمني. ورغم وجود قواسم مشتركة بين المفهومين، فإنهما يختلفان أيضًا. تتناول هذه الورقة مفهومَي إصلاح قطاع الأمن والأمن الإنساني، وتفحص العلاقة بينهما، بهدف فهم العلاقة بين إصلاح قطاع الأمن وتحقيق الأمن الإنساني، إجابةً على سؤالٍ رئيس: هل يُمكن تحقيق الأمن الإنساني من خلال إصلاح قطاع الأمن؟ تفترض الورقة أن تنفيذ حزمة من التعديلات في البنية الأمنية للدول ما بعد الصراعات والتحولات من السلطوية، تؤدي إلى إحداث تحولات في نظامها الأمني، بما يشمل جميع الفاعلين وأفعالهم وإدارتهم والإشراف عليهم، ومن ثم المساهمة في خلق بيئة آمنة مواتية للتنمية وتعزيز الأمن الإنساني. واستنادًا إلى هذا الافتراض، تسعى إلى تقديم إطار عمل قابل للتطبيق، يستهدف تحقيق تحسينات فعالة في مجال إصلاح قطاع الأمن، مع التركيز بشكل خاص على القوات المسلحة بوصفها القوة ذات التأثير الأكبر على مجريات إصلاح قطاع الأمن في بيئات ما بعد الصراع والسلطوية. وفي هذا السياق، تبدأ الورقة بتقديم نقاش نظري يغطي المفاهيم الأساسية ذات الصلة بموضوعها، والتي تشمل الأمن الإنساني وإصلاح قطاع الأمن، وتفحص العلاقة بين هذين المفهومين، يلي ذلك تحليل أبعاد الإطار العملي المُقترح والقائم بالأساس على تجارب تطبيقية. ويشمل هذا التحليل النظر في أفضل الممارسات الممكنة ضمن كل بُعدٍ من أبعاد الإطار، وذلك من خلال التركيز على الإخفاقات في مسار الإصلاح العسكري التي أفضت إلى نتائج عكسية وفشل إصلاح القطاع الأمني بالكُلية في بعض الحالات، وفي حالات أخرى الوقوف على النجاحات في الإصلاح العسكري التي مهدت الطريق للشروع في عمليات إصلاح أوسع تغطي القطاع الأمني برمته، ويبدأُ بالقوات المسلحة وصولًا إلى الشركات الأمنية الخاصة.
تقعُ الورقة في أربعة أقسام وخاتمة؛ يستكشف القسم الأول مفهوم الأمن الإنساني ويسعى إلى تحديد أبعاده المختلفة. ويعالج القسم الثاني مفهوم قطاع الأمن، ويوضح السمات البارزة لقطاع الأمن الذي يتطلب إجراء إصلاحات، مع توضيح الأهداف المرجوة من إعادة تشكيل هذا القطاع. أمّا القسم الثالث، فيناقش مدى تحقيق إصلاح قطاع الأمن لمتطلبات الأمن الإنساني، من خلال تقييم قدرة القطاع الأمني على حماية حقوق الإنسان، والتصدي للتهديدات الأمنية المختلفة، وتعزيز الشفافية والمساءلة. ويعرض القسم الرابع إطار عمل مقترح لإصلاح قطاع الأمن في ضوء الإصلاح العسكري، بما في ذلك المكونات والممارسات.