العنوان هنا
تقدير موقف 26 مايو ، 2021

الهبّة الشعبية في مناطق الـ 48 المحتلة: أسبابها وتداعياتها

الكلمات المفتاحية

وحدة الدراسات السياسية

هي الوحدة المكلفة في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بدراسة القضايا الراهنة في المنطقة العربية وتحليلها. تقوم الوحدة بإصدار منشورات تلتزم معايير علميةً رصينةً ضمن ثلاث سلسلات هي؛ تقدير موقف، وتحليل سياسات، وتقييم حالة. تهدف الوحدة إلى إنجاز تحليلات تلبي حاجة القراء من أكاديميين، وصنّاع قرار، ومن الجمهور العامّ في البلاد العربية وغيرها. يساهم في رفد الإنتاج العلمي لهذه الوحدة باحثون متخصصون من داخل المركز العربي وخارجه، وفقًا للقضية المطروحة للنقاش..

شهدت مناطق فلسطين المحتلة عام 1948 هبّة شعبية واسعة تضامنًا مع العائلات الفلسطينية التي حاولت سلطات الاحتلال الإسرائيلي إخلاء منازلها قسرًا من حي الشيخ جراح في القدس الشرقية وإحلال مستوطنين فيها، وتضامنًا مع المدافعين عن الأقصى ضد الاقتحامات المتكررة من طرف المستوطنين والقوات الإسرائيلية. وتصاعدت هذه الاحتجاجات وتوسعت مع رد جيش الاحتلال الإسرائيلي على صواريخ المقاومة التحذيرية ضد اقتحامات الأقصى بحرب عسكرية شاملة على قطاع غزة. وقد دفع اتساع رقعة المظاهرات في المدن والبلدات داخل الخط الأخضر رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في 12 أيار/ مايو 2021، إلى إعلان حالة الطوارئ، خاصة في مدينة اللد التي شهدت صدامات واسعة بين الفلسطينيين والمستوطنين اليهود، ومنح المفتش العام للشرطة الإسرائيلية حق الاستعانة بالجيش الإسرائيلي للمساعدة في وقف الاحتجاجات[1].

الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية لفلسطينيي الـ 48

يصل عدد السكان الفلسطينيين في مناطق الـ 48 المحتلة إلى نحو مليون ونصف مليون نسمة، وهم المجموعة التي تحمل المواطنة الإسرائيلية وتعيش في الجليل والمثلث والنقب والمدن الساحلية، إضافة الى اللد والرملة. مثّلت الهبّة الشعبية الفلسطينية في مناطق الـ 48 مفاجأة كبيرة للمؤسسة السياسية والأمنية الإسرائيلية، وكذلك لجزء من النخب السياسية الفلسطينية في إسرائيل. وقد جاءت هذه الهبّة في سياق سياسي مركب عاشه الفلسطينيون داخل الخط الأخضر منذ انتفاضة الأقصى أواخر أيلول/ سبتمبر 2000، عندما خرجوا في احتجاجات شبيهة واسعة تضامنًا مع إخوانهم في الأراضي المحتلة عام 1967 تصدّت لها القوات الأمنية والشرطية الإسرائيلية بعنف شديد أدى إلى مقتل 13 مواطنًا فلسطينيًا. وقد دفعت هذه الأحداث إسرائيل إلى تبنّي مجموعة من سياسات العصا والجزرة، الترهيبية والاحتوائية، من أجل منع انتفاضة أو هبّة شعبية مماثلة مستقبلًا، وإضعاف التنظيم الفلسطيني في الداخل. وقد حملت الانتفاضة آنذاك في طياتها معانيَ تؤشر إلى أن قضية فلسطينيي الـ 48 تمثّل جزءًا لا يتجزأ من جوهر القضية الفلسطينية.

تمثّلت السياسات الإسرائيلية في ملاحقة التنظيمات والقيادات السياسية التي اعتبرتها المؤسسة الإسرائيلية سببًا أو عاملًا في الانتفاضة من خلال عملها وخطابها السياسي. وفي هذا الصدد، لاحقت المؤسسة السياسية والأمنية حزب التجمع الوطني الديمقراطي ورئيسه الدكتور عزمي بشارة الذي اعتبرته فاعلًا رئيسًا ساهم في إنتاج خطاب وطني فلسطيني وتأطير الفلسطينيين في إسرائيل بوصفهم مجموعة قومية لها حقوق جماعية مدنية وقومية، والدفاع عن فكرة المساواة الجوهرية المتحدية للطابع اليهودي للدولة الإسرائيلية، وربط المجموعة الفلسطينية في أراضي الـ 48 بالقضية الفلسطينية، وكانت الخطوة التالية ضمن حلقات ملاحقة بشارة تلفيق تُهم أمنية له أدت إلى نفيه قسرًا خارج الوطن. كما لاحقت المؤسسة الإسرائيلية الحركة الإسلامية برئاسة الشيخ رائد صلاح، حتى أخرجتها عن القانون في عام 2015، متهمةً إياها بالمسؤولية عن تحريض الجمهور الفلسطيني ضد السياسات الإسرائيلية في القدس والمسجد الأقصى.

من جهة أخرى، عمدت إسرائيل إلى اتباع سياسات تهدف من خلالها إلى دمج فلسطينيي الـ 48 في الاقتصاد الإسرائيلي، نتج منها صعود حالة الأسرلة التي تمثلت في ابتعاد الجمهور الفلسطيني في الداخل عن العمل السياسي والحزبي الوطني الفلسطيني، وصعود خطاب سياسي جوهره الاندماج في السياسة الإسرائيلية، بما في ذلك الاندماج على هامش المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة، والعزوف عن محاولات تحدي النظام السياسي، وتحييد الحقوق الجماعية ذات الطابع القومي، وتراجع مكانة التنظيمات السياسية الوطنية في المجتمع الفلسطيني. وقد ترافقت أزمة الهوية وتراجع أهمية الأطر الوطنية مع أزمة قيمية؛ إذ يعاني المجتمع الفلسطيني منذ نحو عشر سنوات انتشار الجريمة والعنف، حيث وصلت معدلات الجريمة إلى معدلات غير مسبوقة؛ ففي عام 2020 وحده وصلت إلى أكثر من 100 جريمة قتل في ضوء رفض الحكومة الإسرائيلية مكافحة عصابات الإجرام التي تنشط داخل الخط الأخضر، بل تقوم الشرطة الإسرائيلية، ضمنيًا، بتشجيعها من خلال غضّ الطرف عن نشاطها وعدم معاقبة مرتكبي الجرائم.

وقد عمّق كلٌ من انعدام جاذبية المشروع الوطني الفلسطيني في ظل الانقسام الفلسطيني، وحالة الثورة المضادة في العالم العربي، أزمةَ الهوية والانحياز إلى مشروع الأسرلة. إضافة إلى ذلك، سادت حالة من السخط على النخب الحزبية السياسية بسبب شق القائمة المشتركة، والانقسام على مسألة دعم اليمين الصهيوني أم أحزاب الوسط ويمين الوسط في الائتلافات الحكومية، وهو استقطاب داخل حالة من الأسرلة يهمّش القوى الوطنية.

وقد نتج من كل هذه الأحداث والتحولات حالة من الإحباط، وعدم القدرة على التغيير، في ظل ضعف قيادي وتنظيمي للمجتمع الفلسطيني.

أسباب الهبّة الشعبية في مناطق الـ 48

تعود أسباب الهبّة الشعبية للفلسطينيين داخل الخط الأخضر، إذًا، إلى تراكم حالة من الإحباط شملت مختلف جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتحوّل هذا الإحباط إلى حالة من الغضب على الواقع السياسي ورهانات الاندماج المجاني، وانتشار الجريمة والعنف، ونزع الشرعية عن العمل السياسي الفلسطيني في الداخل، بما فيه الاندماجي منه. في حين عززت إسرائيل الطابع اليهودي للدولة، في الخطاب والممارسة، من خلال تشريع قانون القومية في تموز/ يوليو 2018. وقد جاءت أحداث القدس والعدوان على غزة لتفجّر حالة الغضب في ثلاثة تعبيرات واضحة، هي:

1. أحداث حي الشيخ جراح في القدس

مثّلت أحداث حي الشيخ جراح نموذجًا للنمط الاستعماري الاستيطاني الذي تستخدمه إسرائيل في المدن الساحلية واللد والرملة، من خلال استجلاب مستوطنين إلى أحياء سكنية فلسطينية وطرد السكان الفلسطينيين من بيوتهم بأدوات قانونية غير عادلة، بهدف تضييق المجال وتهويد المكان الفلسطيني. ويُفسر هذا عنف المواجهات في هذه المدن تحديدًا، والتي تعكس حالة شبيهة بحالة الشيخ جراح على نحو استبدال السكان الأصليين بمستوطنين. وقد شارك شباب وطلاب جامعيون من فلسطينيي الـ 48 في احتجاجات حي الشيخ جراح، وتعرضوا لقمع وعنف الشرطة الإسرائيلية، كما شاركوا في التصدي لوضع الحواجز الحديدية على مدخل باب العامود؛ ما دفع الشرطة الإسرائيلية إلى إزالتها، في مشهد مكرر عن الدور الذي قام به هؤلاء الشباب في الاحتجاج المقدسي الشعبي السلمي ضد البوابات الإلكترونية على مداخل المسجد الأقصى عام 2017.

2. قمع الشرطة الإسرائيلية للمصلين في المسجد الأقصى

دخلت الشرطة الإسرائيلية ساحات المسجد الأقصى يوم السبت، الثامن من أيار/ مايو 2021، أي في أواخر شهر رمضان، وبدأت في قمع المصلين ومنعهم من تأدية الصلاة، وقد أصيب خلال المواجهات معها أكثر من 200 فلسطيني. نظّم فلسطينيو الـ 48 حافلات للوصول إلى المسجد الأقصى لإحياء الليالي الأخيرة من شهر رمضان، لكن الشرطة الإسرائيلية حاولت منع وصولها إلى المسجد، وعمدت إلى ترهيب الناس وتخويفهم من الوصول إلى القدس استعدادًا ليوم القدس الإسرائيلي الذي يصادف العاشر من أيار/ مايو، حيث كانت تستعد مسيرة الأعلام اليمينية اليهودية لدخول البلدة القديمة، وهي مسيرة تحاول تأكيد السيطرة الإسرائيلية على القدس. وقد مثلت هذه الأحداث جزءًا من مخطط إسرائيلي للسيطرة على المسجد الأقصى، وتحويل دخول اليهود إليه إلى حالة طبيعية.

3. الحراكات الشبابية ضد العنف والجريمة

قبل أشهر من اندلاع الهبّة الشعبية، جرى تنظيم مظاهرات بمبادرات شبابية بين الشباب الفلسطيني في مناطق الـ 48 ضد تواطؤ الشرطة الإسرائيلية وتخاذلها في مكافحة الجريمة والعنف. وقد تجاوزت هذه المبادرات في تنظيمها ومثابرتها النضالية الأحزاب والقيادات السياسية، وأنتجت حالة نضالية في بلدات عديدة داخل الخط الأخضر. واعتمد الحراك على الاحتجاج والنضال الشعبي السلمي، قابلته الشرطة الإسرائيلية بقمعه في بعض المناسبات، وأعطى ذلك مؤشرًا على توجهات الشباب الفلسطيني تجاه سياسات الدولة.

تعامل السلطات الإسرائيلية مع الهبّة الشعبية

واجهت السلطات الإسرائيلية الهبّة الشعبية الفلسطينية في مناطق الـ 48 بردّات فعل عنيفة عبر أدوات مختلفة، يمكن إجمالها على النحو التالي:

  • قمع عنيف من الشرطة الإسرائيلية باستعمال الرصاص المطاطي والحيّ؛ ما أدى إلى استشهاد شابين، أحدهما في اللد برصاص مستوطن، والآخر في مدينة أم الفحم برصاص الشرطة.
  • توسيع صلاحيات الشرطة الإسرائيلية، وإعطاؤها إمكانية فرض حظر تجول، وإغلاق بلدات فلسطينية، ووضع حواجز على مداخل البلدات الفلسطينية في الداخل.
  • استدعاء قوات حرس الحدود من الضفة الغربية إلى البلدات الفلسطينية في الداخل من أجل المساهمة في قمع الهبّة الشعبية، وهي وحدات معروفة بعنفها تجاه الفلسطينيين.
  • تنفيذ عمليات اعتقال مكثفة بحق الشباب الفلسطيني، بلغ عددها أكثر من 1500 معتقل، قامت النيابة العامة بتقديم لوائح ضدهم.
  • إطلاق حملة تحريض إعلامي وسياسي ضد الهبّة الشعبية ووصفها بالعمل التخريبي والإرهابي لتبرير قمعها.
  • تنظيم مجموعات يهودية مسلحة وغير مسلحة في ميليشيات، كتلك التي دخلت المدن الساحلية واللد والرملة، وفي مدن يهودية أخرى، قمعت الفلسطينيين ولاحقتهم واعتدت عليهم بالضرب، وحرقت ممتلكاتهم ومحلاتهم التجارية. وقد عملت هذه الميليشيات، التي تم استجلاب أغلب عناصرها من البؤر الاستيطانية في الضفة الغربية عبر حافلات، تحت نظر الشرطة، وفي بعض الأحيان بحمايتها، لقمع الفلسطينيين في الشوارع، ومهاجمة محلاتهم وبيوتهم.

تداعيات الهبّة الشعبية في مناطق الـ 48

أكدت الهبّة الشعبية الفلسطينية في مناطق الـ 48 على وحدة الشعب الفلسطيني وانتماء الفلسطينيين داخل الخط الأخضر إلى القضية الفلسطينية، وأنهم جزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني، وعلى استعدادهم الانخراط في النضال الفلسطيني للحفاظ على عروبة القدس وضد مجمل سياسة التطهير العرقي الإسرائيلية فيها. وقد مثلت قضية القدس بما تحمله من تعبيرات رمزية، سياسية ودينية، الرابط الرئيس الذي وحّد الفلسطينيين داخل الخط الأخضر مع بقية الشعب الفلسطيني. ويعاني سكان القدس السياسات الاستعمارية الاستيطانية نفسها التي يعانيها فلسطينيو الـ 48 من استيطان وإخلاء منازلهم قسرًا في المدن الساحلية واللد والرملة وفي النقب، والتضييق عليهم مكانيًا، وإغراقهم في الجريمة والعنف، والتعامل معهم بتراتبية على مستوى الحقوق المدنية والقومية.

وقد أكدت الهبّة الشعبية في مناطق الـ 48 تهافت خطاب الاندماج في النظام السياسي الإسرائيلي الذي أثبتت الأحداث الأخيرة جوهره الاستعماري، وسقوط محاولات الفصل بين الحقوق الوطنية والحقوق المدنية للشعب الفلسطيني في مناطق الـ 48. كما أثبت تعامل السلطات الإسرائيلية مع الهبّة الشعبية، كما في مرات سابقة، أنها تريد تجريد الفلسطينيين من هويتهم وكرامتهم الوطنية.

ولكن، من ناحية أخرى، بعد عودة الحياة إلى مجراها الطبيعي، تستفرد السلطة الإسرائيلية الحاكمة بالناشطين الفلسطينيين عبر حملات اعتقال، وتعمل على عزلهم عن مجتمعهم الذي تأمل إسرائيل أن يعود إلى ممارسة حياته "الطبيعية" على هامش المجتمع الإسرائيلي، راضيًا بنصيبه من المواطنة غير المكتملة وأزمة الهوية. ومن هنا تبرز أهمية التفكير بما جرى بعد الانتفاضة الثانية، وكيفية تجنّبه. ويبدو أن الأهم هو عدم الخوف من الخطوات الإسرائيلية القمعية الأخيرة، والحفاظ على هذه النزعة الاحتجاجية السلمية من أجل مواجهة سياسات السلطات الإسرائيلية الهادفة إلى ردع الشباب الفلسطيني عن الربط بين حقوقهم المدنية وشعورهم بالانتماء إلى الشعب الفلسطيني.

فرضت الهبّة الشعبية على المجال السياسي الفلسطيني داخل الخط الأخضر ضرورة إعادة التفكير في أهمية تنظيم المجتمع الفلسطيني ومراجعة خطابه السياسي، بحيث يجري التواؤم مع التغييرات التي كشفت عنها الأحداث الأخيرة. لقد تجاوز الشباب الفلسطيني بوضوح القيادات والتنظيمات السياسية التي جاء تحرّكها منفصلًا ومتأخرًا عن الهبّة الشعبية، على عكس انتفاضة الأقصى عام 2000 التي تميّزت بمواكبة النخب والجمهور معًا للحدث النضالي.


[1] "نتنياهو يعطي الضوء الأخضر لتنفيذ اعتقالات إدارية وإدخال الجيش للمدن"، عرب 48، 13/5/2021، شوهد في 17/5/2021، في: https://bit.ly/2S2Gyap