العنوان هنا
تقدير موقف 13 ديسمبر ، 2011

ما بعد الانتخابات التّشريعيّة في المغرب

الكلمات المفتاحية

وحدة الدراسات السياسية

هي الوحدة المكلفة في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بدراسة القضايا الراهنة في المنطقة العربية وتحليلها. تقوم الوحدة بإصدار منشورات تلتزم معايير علميةً رصينةً ضمن ثلاث سلسلات هي؛ تقدير موقف، وتحليل سياسات، وتقييم حالة. تهدف الوحدة إلى إنجاز تحليلات تلبي حاجة القراء من أكاديميين، وصنّاع قرار، ومن الجمهور العامّ في البلاد العربية وغيرها. يساهم في رفد الإنتاج العلمي لهذه الوحدة باحثون متخصصون من داخل المركز العربي وخارجه، وفقًا للقضية المطروحة للنقاش..

على الرّغم من أنّ المغرب الأقصى ينفرد من بين بلدان شمال أفريقيا بتجربة انتخابيّة خاصّة، فإنّ انتخابات يوم 25 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي جاءت في ظروفٍ غير مسبوقة، تتّسم بالضّغوط التي أحدثتها موجة المطالب الشّعبيّة العربيّة التي تحوّلت إلى ثورات أدّت إلى سقوط أنظمة حكم كانت تُعدّ حليفةً للمغرب.

نشير إلى أنّ هذه الانتخابات التشريعيّة كانت سابقة لأوانها. ففي أجواء الاضطرابات التي شملت عدّة دول عربيّة، خرجت في المغرب كذلك مظاهرات حاشدة بدايةً من 20 فبراير/شباط 2011، تطالب بتغييرات ديمقراطيّة جذريّة، بدت وكأنّها سير محتمل على خطى ثورتيْ تونس ومصر. اضطرّ الملك محمّد السّادس تحت هذه الضّغوط إلى المسارعة باقتراح تعديلات دستوريّة في التّاسع من مارس/آذار 2011، وصفها مراقبون بأنّها خطوة استباقيّة ووقائيّة ممّا يمكن أن يؤدّي إليه الحراك الشّعبيّ.

عقب إقرار التّعديلات الدّستوريّة المقترحة في استفتاء شعبيّ (1 يوليو/تمّوز 2011)، أعلن عن تنظيم انتخابات تشريعيّة أعطت الفوز في النّهاية لحزب العدالة والتّنمية ذي المرجعيّة الإسلاميّة بربع المقاعد، كما لم تحرم الأغلبيّة السّابقة من الدّخول إلى البرلمان أو المشاركة في تشكيل الحكومة المرتقبة. ولكن هذه النّتيجة لم تغيّر من موقف حركة 20 فبراير ومسانديها الرّافض لهذه الانتخابات في ظلّ ما يرونه "دستورًا ممنوحًا من القصر" (أي لم يأت من الشّارع). ممّا يفتح الباب للتّساؤل عن مدى فاعليّة الإصلاحات الملكيّة في الحدّ من الغضب الشّعبيّ، وعن إمكانات النّجاح والفشل التي تحيط بحكومةٍ يقودها حزب العدالة والتّنمية في مرحلةٍ صعبة، ويعلّق عليها البعض آمالا كبيرة.

وفي معرض ردود الفعل الدّوليّة أشادت الولايات المتّحدة الأميركيّة والاتّحاد الأوروبيّ بالانتخابات المغربيّة. لكن، أكّد مراقبون وأطراف سياسيّة مشاركة ومقاطعة في المغرب أنّ العمليّة الانتخابيّة شابتها عدّة خروقات. ومن هذه الأطراف حزب العدالة والتّنمية الفائز الأساسيّ الذي سيقدّم ثمانية عشر طعنًا في نتائج عشرين دائرة انتخابيّة. والحقيقة أنّ هذه النّتائج تعدّ إيجابيّةً لمستقبل الدّيمقراطيّة. فبالنّظر إلى قوّة المخزن في المغرب، كان بالإمكان أن تأتي النّتائج أكثر سلبيّة للمعارضة الإسلاميّة. ولكن مرورهم إلى الحكم ينمّ عن تغيّر مهمّ في نظرة القصر إليهم.

ويرى محلّلون نسبة المشاركة التي أعلنت عنها وزارة الدّاخليّة المغربيّة، وهي 45 في المئة من المسجّلين في اللّوائح الانتخابيّة، ضعيفة باستحضار الإصلاحات التي أطلقها الملك محمّد السّادس في التّاسع من آذار/مارس 2011، وما صاحبها من دعم إعلاميّ وسياسيّ شارك فيه ما يقارب ثلاثين حزبًا. وعلى الرّغم من أنّ الوزارة عدّت هذه النّسبة مرتفعة بالمقارنة مع نسبة المشاركة في انتخابات 2007 والتي لم تتجاوز 37 في المئة، فالأمر ليس كذلك حقًّا. فمن أصل 21 مليون مغربيّ يحقّ لهم التّصويت، لم يسجّل سوى 13 مليون فقط، أي ما يعادل مليونين أقلّ من 2007.

 وهو ما تعتبره حركةُ 20 فبراير ومساندوها (حزب الطّليعة، حزب اليسار الاشتراكيّ الموحّد، حزب النّهج الدّيمقراطيّ، جماعة العدل والإحسان، حزب الأمّة، حزب البديل الحضاريّ، تجمّعات سلفيّة، منظّمات مدنيّة وحقوقيّة)، استجابة لدعوتهم لمقاطعة هذه الانتخابات.


نتائج في ميزان معادلة الحكم

تؤكّد النّتائج الانتخابيّة أنّ النّاخب المغربيّ كافأ الجميع في اقتراع 25 تشرين الثّاني/ نوفمبر. فبالإضافة إلى فوز حزب معارض وهو "العدالة و التّنمية"، استطاعت الأغلبيّة في الحكومة السّابقة أن تضمن لنفسها مقاعدَ مريحة في البرلمان وفي الحكومة المقبلة أيضًا. وللتّوضيح توزّعت أهمّ المقاعد بين المتنافسين كما يلي: العدالة والتّنمية 107 مقاعد، الاستقلال 60 مقعدًا، التّجمّع الوطنيّ للأحرار 52 مقعدًا، الأصالة والمعاصرة 47 مقعدًا، الاتّحاد الاشتراكيّ 39 مقعدًا، الحركة الشّعبيّة 32 مقعدًا، الاتّحاد الدّستوريّ 23 مقعدًا، التّقدّم والاشتراكيّة 18 مقعدًا.

وباستثناء حزب العدالة والتّنمية، كانت لجميع هذه الأحزاب تجربة حكوميّة سابقة، ويُصنّف بعضها ضمن أحزاب "المخزن" الإداريّة (صنعتها الإدارة) التي أفرزها الصّراع القديم بين القصر والقوى اليساريّة في سبعينيّات القرن الماضي. وعلى مستوى البرامج لا توجد هناك اختلافات جوهريّة بين الأحزاب المتنافسة، فهي جميعا ترفع شعار محاربة الفساد والبطالة والفقر، وتعِد بدولة الدّيمقراطيّة وحقوق الإنسان.


دور القصر : اللّاعب الرّئيس

على الرّغم من أنّ أوّل انتخابات تشريعيّة في المغرب تعود إلى سنة 1963، عندما كانت بقيّة دول الجوار ترزح تحت حكم الحزب الواحد، وعلى الرّغم من أنّ الحياة السّياسيّة المغربيّة تميّزت بطابعٍ تعدّديّ منذ ذلك الحين، فإنّ القصر احتفظ على الدّوام بدور لاعب رئيس مسيطر، تحكّم في تشكيل الخريطة السّياسيّة، وفي ضبط قوانين اللّعبة وتأطيرها ضمن حدودٍ معيّنة يعرف بقيّة اللّاعبين كيف يقفون عندها. ولا تشكّل الانتخابات التّشريعيّة الأخيرة استثناءً حقيقيًّا من جملة السّياق السّابق الذي كان من نتائجه تحجيم قوّة الأحزاب ومدى تأثيرها في الحياة العامّة، بما فيها حزب العدالة والتّنمية.

خلافًا للتّقاليد السّياسيّة في الدّول اللّيبراليّة، التي تستمدّ فيها الأحزاب نفوذها وقوّتها من قاعدتها الشّعبيّة، يؤكّد تاريخ الأحزاب المغربيّة أنّ قوّة الحزب في السّاحة السّياسيّة هي التي يستمدّها من القصر. فكلّما كانت مواقف الحزب السّياسيّة وأدبيّاته منسجمة مع الإرادة الملكيّة، ضمن لنفسه حضورًا أكبر في مؤسّسات الدّولة، سواء بصفته الرّسميّة، أو من خلال رموزه وقياداته التي يختارها الملك عادةً لتتقلّد مسؤوليّات كبيرة في المؤسّسات.

ويعرّف الدّستور المغربيّ الجديد الحزب السّياسيّ بما يلي: "تعمل الأحزاب السّياسيّة على تأطير المواطنات والمواطنين وتكوينهم السّياسيّ، وتعزيز انخراطهم في الحياة الوطنيّة، وفي تدبير الشّأن العامّ، وتساهم في التّعبير عن إرادة النّاخبين، والمشاركة في ممارسة السّلطة، على أساس التعدّديّة والتّناوب، بالوسائل الدّيمقراطيّة، وفي نطاق المؤسّسات الدّستورية"([1]).

يستوقفنا في هذا التّعريف مقطع: "تساهم في التّعبير عن إرادة النّاخبين والمشاركة في ممارسة السّلطة". لا يبيّن الدّستور المغربيّ الجديد معنى الشّراكة وأطرافها. فهل هذه الشّراكة تهمّ سلطات الملك أم تعني تقاسم السّلطة مع أحزابٍ أخرى؟ والواضح أنّ الحزب السّياسيّ في المغرب لا "يحكم" بقدر ما يُعدّ "شريكًا" فقط في "ممارسة السّلطة".

هذه المعطيات تحدّ في السّياق الحالي من قدرة أيّ حزب سياسيّ مغربيّ على إحداث تغيير حقيقيّ في معادلة الحكم، على الرّغم من نتيجة الانتخابات التي أتت بلاعبٍ جديد من المعارضة.


مقاطعون ومشاركون

وهنا نشير إلى موقف حركة 20 فبراير والأطراف المساندة لها، والتي تضغط من خارج المؤسّسات من أجل تغيير جذريّ في قواعد هذه المعادلة، وترفع شعار "ملكيّة برلمانيّة تكون فيها السّيادة للملك والحكم للشّعب"، على أساس فصلٍ بين السّلطات، ومنافسة حرّة بين القوى السّياسيّة على تمثيل النّاخبين بهدف الوصول إلى الحكم وتنفيذ برنامج محدّد، تضمن ذلك كلّه قوانين تربط المسؤوليّة السّياسيّة والإداريّة بالمراقبة والمحاسبة.

والواقع أنّ النّقاش حول الجدوى من المقاطعة أو المشاركة في اللّعبة السّياسيّة في ظلّ قواعدَ لا تزال تفتقر إلى المصداقيّة الدّيمقراطيّة أصبح كلاسيكيًّا. وهو لايزال يدور حول مدى قدرة القوى السياسيّة على التّأثير في القرار السّياسيّ، وهل يكون ذلك أفضل من داخل مؤسّسات الحكم أو من خارجها. وينتهي الطّرفان (المُقاطع والمشارك) دائمًا إلى حدود تتحكّم في الصّراع على السّلطة، يرفضها أحدهما ويقبلها الثّاني. هذه الحدود (قواعد اللّعبة) يضعها الملك بصفتيه: الدّينيّة (أمير المؤمنين) والسّياسيّة (رئيس الدّولة).

وكما أشرنا، تتمتّع المؤسّسة الملكيّة أو ما يُعرف بـ"المخزن" في المغرب بالقدرة الكبيرة على الاحتواء، وهي مهارة مكّنت الملكيّة من عبور مراحلَ صعبة من تاريخها. وفي هذا السّياق يستحضر مراقبون تجربة التّناوب التّوافقيّ التي أدخلت المعارضة بقيادة الزّعيم اليساريّ عبد الرّحمان اليوسفي إلى الحكومة عام 1997، حيث كان المغرب مهدّدًا بـ"سكتة قلبيّة" كما عبّر الملك الرّاحل الحسن الثّاني، وكان القصر في حاجة إلى جسر يؤمّن انتقال مقاليد الحكم إلى محمّد السّادس، وهو ما حصل بالفعل، وانتهى في 2002 بعودة التّكنوقراط، واعتراف المعارضة اليساريّة بفشلها وأنّ ما حدث لم يكن تناوبًا ديمقراطيًّا.

لكن ما يمثّله الرّبيع العربيّ اليوم من ضغوط على أكثر من بلد لم تقع فيه إصلاحات سياسيّة أو تغيير ديمقراطيّ هو ظرف "أخطر " بكثير على حكم تقليديّ أوتوقراطيّ من الظّرف الذي اضطرّ فيه الملك إلى قبول معارضيه اليساريّين. مرّة أخرى، أظهرت المؤسّسة الملكيّة مرونةً وسرعةً في التّجاوب مع الظّروف. فاضطرّت إلى القبول بانتصار حزب العدالة والتّنمية وقيادته لحكومة جديدة، بعد أن قضى أربع عشرة سنة في المعارضة البرلمانيّة، وفي محاولات متكرّرة لإثبات قدرته على تحمّل المسؤوليّة و جدارته بثقة الملك. وهو ما جعل الحزب يتحاشى ممارسة معارضة سياسيّة تُحْرج القصر.


التّوازنات الصّعبة

الواقع أنّ أيّ حزب في المعارضة يتغيّر عند تحمّل المسؤوليّات الحكوميّة. بشكل عامّ، تصبح الأحزاب المعارضة أكثر "اعتدالا" في خطابها ما إن تتولّى السّلطة، لاضطرارها للدّفاع عن برامجها ومواقعها ومصالحها. لكن طبيعة الحياة السياسيّة في المغرب التي كما قلنا تتّسم بحدودٍ يضعها الملك لقواعد اللّعبة، يحتمل أن تفتح الباب لاستكمال خطاب المعارضة حتّى من داخل السّلطة نفسها، بحيث يسعى المسؤولون في الحكومة إلى كسب المزيد من المواقع والصّلاحيات، فيما يسعى القصر إلى مواصلة تحجيمهم حتّى لا يحظوا بشعبيّة تسمح لهم بالمطالبة بالمزيد من الصّلاحيّات. وهذا ما يثير السّؤال عن مستقبل الصّراع بين حكومةٍ يقودها حزب العدالة والتّنمية والمحيط الملكيّ.

لكن تحقيق توازن قوّة مع سلطة الملك هو رهانٌ يعتبره العديد من المراقبين صعبًا جدًّا. فخلال أقلّ من أسبوعين، عيّن الملك بعض الشّخصيّات مستشارين في الدّيوان الملكيّ، آخرهم السيّد فؤاد عالي الهمة، الرّجل الأكثر إثارةً للجدل في السّاحة السّياسيّة المغربيّة([2]).

ويرى البعض في هذه التّعيينات التي تستبق إعلان تشكيل حكومة بن كيران، بمنزلة حكومة ظلّ تشتغل إلى جانب الملك، بالنّظر إلى ما كان لمستشاري الملك في الحكومات السّابقة من سلطة وصلاحيّات. وهو ما ينبئ بدور محوريّ سيلعبه فؤاد عالي الهمة في مواجهة حكومة العدالة والتّنمية، فالرّجل معروف بمعارضته الشّديدة للإسلاميّين ومشروعهم المجتمعيّ، وقد حذّر مرارًا من خطورة العدالة والتّنمية على ما يسمّيه "المشروع الدّيمقراطيّ الحداثيّ في المغرب".

ومن النّاحية الإستراتيجيّة وعلى مستوى الدّاخل تمثّل انتخابات 25 تشرين الثّاني/ نوفمبر بالنّسبة إلى القصر محطّة ستمكّنه من إعادة ترتيب أوراقه، وربّما تجاوز المرحلة الأصعب، أمام قوّة الاحتجاجات الشّعبيّة المتصاعدة، حيث يتوقّع أن تمتصّ حكومة العدالة والتّنمية بعض غضبها. أمّا على المستوى الخارجيّ فسيكون النّظام المغربيّ في موقع "النّموذج الدّيمقراطيّ" الذي استطاع أن يوصل الإسلاميّين إلى السّلطة من دون ثورة أو خسائرَ، وهو ما ينسجم مع توصياتٍ غربيّة للحكومات العربيّة منذ سنوات، تنصّ على ضرورة السّماح لـ "إسلاميّين سنيّين معتدلين" بممارسة الحكم.

ويبقى تحدّي عبور المرحلة عند المؤسّسة الملكيّة رهينًا بإقناع الحراك الشّعبيّ بالتّوقّف عن التّظاهر والاحتجاج في الفضاء العامّ، وانتظار نتائج حكومة العدالة والتّنمية.

ولاتزال القوى المعارضة والمطالبة بإصلاحاتٍ جذريّة، تمثّل الرّقم الصّعب في المعادلة المغربيّة. فمن ناحية، مالم تستطع هذه القوى أن تحقّق تعبئة جماهيريّة فعليّة تتحدّى بها السّلطة بتحالفاتها التقليديّة مع "المخزن"، لن تصل إلى النّتيجة التي تريد. وإذا هادنت الحكومة، فهي ستصبح جزءًا من "اللّعبة". ومن ناحيةٍ أخرى، لن يستطيع القصر أن يستصحب هذه القوى في مشروعٍ وطنيّ يوفّر الجوّ المناسب لعمل الحكومة الجديدة ما لم تقع تنازلات من الجانبين.

أمّا حكومة العدالة والتّنمية، فلأنّ استمرار الحراك الشّعبيّ يضايقها ويهدّدها، فهي قد تشعر بالحاجة إلى القيام بدورٍ وسيط، بين حركة 20 فبراير والقصر، ممّا قد يدخلها في صراعٍ مع هذا الأخير دون أن يضمن لها حيازة ثقة الشّارع بالضّرورة. وفي كلّ الحالات، سيخرج المخزن رابحًا إذا وقع صدام إسلاميّ-إسلاميّ بين العدالة والتّنمية الحكوميّ والعدل والإحسان التي تمثّل طرفًا أساسيًّا في حركة 20 فبراير.


امتحان العدالة والتّنمية

وجّهت قيادات العدالة والتّنمية خلال الثّلاثين سنة الماضية عديد الرّسائل للمؤسّسة الملكيّة عبّرت فيها عن استعدادها للعمل بما لا يخالف الإرادة الملكيّة. لذلك يعتبر المراقبون حزب العدالة والتّنمية تعبيرًا حديثا عن القوى الدّينيّة المخزنيّة التي تلعب دور المدافع عن إمارة المؤمنين. فعلى المستوى الأيديولوجيّ لا يشكّل هذا الحزب أيّ تهديد للقيم اللّيبراليّة التي تنبني عليها ثقافة النّظام المغربيّ السّياسيّة واختياراته الأساسيّة، كما أنّ الحزب ما فتئ يبعث برسائلَ تطمئن الجميع في ما يتّصل بمجالات مشاركة المرأة والسّياحة وتجارة الخمور. وبالنّسبة إلى الخارج فلن يكون لمواقف العدالة والتّنمية تأثيرٌ كبير، باعتبار أنّ صنع القرار في السّياسة الخارجيّة اختصاص ملكيّ لا تتدخّل فيه القوى السّياسيّة الحكوميّة، ما عدا التّنفيذ.

وسيخوض العدالة والتّنمية تجربته الحكوميّة لأوّل مرّة وهو في موقع القيادة. وستكون مهمّته في غاية الصّعوبة. إنّ حزبًا ذا مرجعيّة إسلاميّة مثله مضطرّ في السّياق الحالي إلى التّحالف مع أحزاب يساريّة ويمينيّة منافسة لا تربطه بها قرابة أيديولوجيّة أو تحالفات سياسيّة سابقة. فهو قد خاض صراعًا أيديولوجيّا طويلا مع حزب التقدّم والاشتراكيّة، فيما يمثّل حزب الاستقلال منافسًا رئيسًا باعتبار خلفيّته المحافظة ودوره التاريخيّ. أمّا حزب الحركة الشّعبيّة، فتأثيره في أوساط الفلّاحين والأعيان يجعل منه أيضًا منافسًا ذا وزنٍ معتبر.

ولكن أكبر العراقيل التي ستواجهها الحكومة الجديدة هي الوضع الاقتصاديّ والاجتماعيّ في المغرب.

 فقد كشف تقريرٌ لبرنامج الأمم المتّحدة للتّنمية البشريّة لسنة2011 تراجع المغرب بـ16 درجة في سلّم التّصنيف الدوليّ، ليحتلّ المرتبة 130 من بين187 دولة، والمرتبة 15 عربيًّا من بين 20 دولة عربيّة. وهي مؤشّرات تفيد أنّ نسبة الحرمان في المغرب بلغت 45 في المئة، وتبلغ نسبة السكّان المعرّضين لخطر الفقر 12.3في المئة، أمّا السكّان الذين يعيشون في فقر مدقع فنسبتهم 3.3 في المئة. أضف إلى ذلك الخسائر التي لحقت بالاقتصاد الوطنيّ في السّنوات الأخيرة، آخرها خسائر أربع شركات عموميّة هي: الشّركة الوطنيّة للطّرق السيّارة في المغرب، وشركة الخطوط الجوّية الملكيّة المغربيّة، والمكتب الوطنيّ للكهرباء.

ونذكر في هذا الإطار أيضًا الضّغوط المتواصلة للمطالب الفئويّة في كلّ القطاعات الإنتاجيّة والخدميّة، وانتظارات مئات الآلاف من الشّباب العاطلين عن العمل ومن بينهم أصحاب الشّهادات العليا.

وبخصوص وعود الحزب الانتخابيّة، يرى الخبير الاقتصاديّ المغربيّ إدريس بن علي أنّ "ما يقترحه حزب العدالة والتّنمية هو زيادة نسبة النموّ إلى 7 في المئة وخفض عجز الميزانيّة إلى 3 في المئة وخفض نسبة البطالة. وتحقيق ذلك في العاميْن القادمين يبدو صعبا بل غير قابل للتّحقيق". وأضاف: "بحسب صندوق النّقد الدّوليّ فإنّ المغرب سيشهد في أفضل الأحوال نموًّا بنسبة 4 إلى 4.5 في المئة". وأشار هذا الخبير إلى أنّ "أوروبا أوّل شريك اقتصاديّ للمغرب، تدخل في أزمة عميقة، والموارد الرّئيسة الثّلاثة التي سمحت للمغرب بتحقيق نموٍّ سريع في السّنوات الأخيرة هي تحويلات المهاجرين وعائدات السّياحة والاستثمارات الأجنبيّة المباشرة، وسيكون هناك بالتّأكيد تراجعٌ في هذه المجالات".

ومن أهمّ شعارات الحزب الانتخابيّة، تأكيده على محاربة الفساد. وهي مهمّةٌ فشلَ في تحقيقها من سبقه في ظلّ واقع إداريّ واقتصاديّ وسياسيّ يفتقر إلى آليّات المراقبة والمحاسبة والتّنفيذ، ويحتاج إلى سندٍ قانونيّ قويّ ودعمٍ سياسيّ أقوى حتّى يكافح الفساد بطرقٍ ناجعة.

وسيكون حزب العدالة والتّنمية أمام اختبار كبير مقابل تدخّلات مستشاري الملك في الاختصاصات الحكوميّة، إضافةً إلى تحدّي التّأثير في القرار. فمفاتيح الحكم وتدبير الشّأن العامّ في المغرب لاتزال في يد الملك بموجب أحكام الدّستور. فهو أمير المؤمنين ورئيس مجلس الوزراء ويترأّس مجالسَ وهيئات متعدّدة، ويوافق على تعيين الوزراء والعديد من رؤساء المؤسّسات الأمنيّة والمدنيّة، ويوافق على القوانين الصّادرة عن البرلمان، وتشتغل إلى جانبه مجموعة من المجالس الموازية في عملها لوظائف الحكومة ومهامّها، إضافةً إلى احتفاظه بوزاراتٍ سياديّة لا يقربها السّياسيّون إلى حدّ الآن، وهي: الدّاخليّة، والخارجيّة، والأوقاف والشّؤون الإسلاميّة، والأمانة العامّة للحكومة. وفي ظلّ التّعديلات الدّستوريّة الأخيرة وباعتبار نوايا الملك محمّد السّادس في الإصلاح، بالإمكان افتراض أن تفوّض بعض السّلطات إلى الجهات الحكوميّة المختصّة، تجنّبًا للتّضارب والتّناقضات البيروقراطيّة، ولمعرفته أنّه دون هذه العمليّة (التّفويض) سيفتقر الطّرفان (الحكومة والملك) إلى نجاعة الأداء في ظروف المغرب الصّعبة. ولكن ذلك احتمال غير مؤكّد.


خاتمة واستنتاجات

تختلف ظروف وصول العدالة والتّنمية المغربيّ عن باقي أحزاب "الإسلام السنّي المعتدل" في عناصرَ جوهريّة. فمثلا ارتبط وصول حزب العدالة والتّنمية التركيّ إلى الحكم بتحوّلٍ ديمقراطيّ عميق، تنازل فيه الجيش عن صلاحيّاته بحكم طبيعة المرحلة التّاريخيّة وضروراتها تحت ضغوط أوروبا التي فرضت شروطها لانضمام تركيا للاتّحاد الأوروبي. ولعلّه بالإمكان المقارنة بين دور الجيش في تركيا ودور "المخزن" في المغرب في نقطةٍ واحدة، وهي قدرتهما على التدخّل في الحياة السّياسيّة وضبط حدود اللّعبة. أمّا ما عدا ذلك، فهما على طرفي نقيض. ففي المغرب، يلعب "المخزن" إضافة إلى وظيفته السياسيّة المركزيّة، دور حارس القيم الدّينيّة التّقليديّة خاصّة من خلال تكريس سلطة "إمارة المؤمنين". أمّا في تركيا، فقد لعب الجيش إلى حدّ الآن دور حارس القيم العلمانيّة.

ولا ننسى ما يمثّله حزب العدالة والتّنمية التركيّ من قوّةٍ اقتصاديّة اجتماعيّة داخل تركيا، وضعت يده على مفاتيح حاسمة في أيّ سباق إلى مواقع النّفوذ والسّلطة. وهو أمر لا ينطبق على حالة حزب العدالة والتّنمية في المغرب.

وإذا ما نظرنا إلى الجوار العربيّ، سنجد أنّ أحزابًا كانت إلى زمنٍ قريب محظورة، أصبحت اليوم تقود السّياسة بعد الثّورة وتتحالف مع أحزابٍ علمانيّة لتشكيل الحكومة. ففي تونس، فاز حزب "النّهضة" بنسبةٍ مهمّة من الأصوات خوّلته قيادة الحكومة في الوقت الذي مكّنته من حصّة كبرى نسبيًّا في المجلس التّأسيسيّ الذي سينبثق عنه الدّستور التّونسيّ الثّاني. وفي مصر أسفرت الانتخابات الأخيرة عن فوزٍ كبير للإسلاميّين، ممّا زاد في تأثيرهم داخل البلاد. أمّا في المغرب، فإنّ وصول الإسلاميّين إلى الحكم لم يأت نتيجة ثورة وإنّما نتيجة لجملة من العناصر المركّبة تتمثّل في ضغوط الرّبيع العربيّ، وضغوط غربيّة، وضغوطٍ داخليّة سببها انسداد سياسيّ في غياب الإصلاح والتّغيير الدّيمقراطيّ، وتجاوب ملكيّ إلى حدٍّ ما مع المطالب الشّعبيّة ورغبة في الإصلاح، بالإضافة إلى غياب قوى سياسيّة ذات وزن عن ساحة المنافسة الانتخابيّة.


سيناريوهات

هناك في المغرب اليوم احتمالان: أوّلهما يرجّح نجاحًا نسبيّا جدًّا ومشروطًا إلى حدٍّ كبير بحسن النيّة وتغيير السّياسات، وثانيهما يتوقّع إخفاقًا.

  • على افتراض أنّ القصر يمنح الحكومة الجديدة ثقته التامّة ويزيد على ذلك بمنحها صلاحيّات إضافيّة لم يمنحها في السّابق، فهذا سيضاعف من حظّها في معالجة المشاكل دون أن يؤدّي حتمًا إلى نجاحها بنسبةٍ عالية. سيكون النّجاح في كلّ الأحوال رهنا على الأقلّ بعنصرين: تجاوب القصر مع الحكومة، وتجاوب الحكومة مع الشّعب. في حالة غياب أحد هذين العنصرين، ستجد الحكومة نفسها عاجزة، وهو ما سيضاعف من قوّة المعارضة. وسينتهي الأمر بسقوط حكومة بن كيران، ومجيء حكومة أخرى. وقد تلعب الدّور الأساسيّ في هذا السّيناريو القوى "الخفيّة" المناورة من داخل "المخزن"، فضلًا عن المنافسين السّياسيّين الذين لن يسعدهم نجاح حكومة بن كيران في ما فشلوا فيه.
  • سيكون نجاح حكومة بن كيران رهينًا بتحقيق التّوازن مع المحيط الملكيّ، والتغلّب على جيوب مقاومة التّغيير، ثمّ إحداث تغيير يلمسه المواطن المغربيّ في حياته اليوميّة، ويستجيب لمطالب الشّباب والفئات المثقّفة، يبدأ برفع أجور العمّال والموظّفين وإنعاش الطّبقات المحرومة وإطلاق سراح المعتقلين السّياسيّين وتحويل ملفّات الفساد الاقتصاديّ العالقة إلى القضاء وإطلاق حريّة الصّحافة والتّرخيص للأحزاب السّياسيّة. ولكن يحتاج هذا السّيناريو المثاليّ إلى رفع سقف الإصلاح في المغرب كي يتحقّق. وهو لايزال موضع سؤال وموضوع مطالب الحراك الشعبيّ. وليس من الواضح وجود نيّة حقيقيّة إلى حدّ الآن في الاستجابة لتلك المطالب جملةً وتفصيلا. ومن ثمّ، فوضع الحكومة سيكون هشًّا، حيث تقع بين مطرقة الشّارع وسندان "المخزن". ومن ثمّ، سيتواصل الجدل في المغرب فترةً أطول، وقد يؤدّي إلى مأزقٍ أكبر يضطرّ معه القصر إلى اتّخاذ إجراءاتٍ مستعجلة، وتحميل الإسلاميّين مسؤوليّة الفشل.

وفي جميع الأحوال، ليس هناك حلٌّ سحريّ لمشاكلَ متراكمة عبر السّنوات.

  • هناك سيناريو ثالث، ولكنّه لا يزال بعيدًا. وهو أن تنفتح المؤسّسة الملكيّة نفسها على مطالب الذين يريدون أن يكون الملك فوق لعبة السّلطة والمعارضة، فلا يجازف بتأزيم النّظام حين تتأزّم الأوضاع الاجتماعيّة، ويكتفي بإعطاء توجيهاته لمن يختارهم الشّعب. وهذا أفضل الحلول على المدى البعيد، حيث يضمن استقرار الملكيّة في حين يصبح كلّ رجال السّياسة في البلاد خاضعين للمحاسبة، وهو ما يرضي الشّعب. ولكن من المستبعد أن يتحقّق في الغد القريب.

 

[1] الدستور المغربي 2011، الباب الأوّل، الفصل السّابع.

[2] وكان قد عيّن قبل أسابيع كلًّا من عبد اللطيف المانوني، ومصطفى الساهل الذي سبق له أن شغل منصب وزير الداخلية في حكومات سابقة وكان يصنّف ضمن صقور وزارة الداخليّة.