العنوان هنا
تقييم حالة 09 مارس ، 2020

صعود اليسار يصطدم بجدار الوسط: ملامح الصراع داخل الحزب الديمقراطي في انتخابات أميركا

جو معكرون

باحث في العلاقات الدولية، ومرشح لدرجة الدكتوراه في جامعة باث البريطانية. تتركز أبحاثه في السياسة الأميركية والعلاقات الدولية وتحليل النزاعات في الشرق الأوسط. يُولي دولَ المشرق العربي اهتمامًا بحثيًّا خاصًّا. باحث غير مقيم في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. عمل سابقًا في مركز مكافحة الإرهاب في ويست بوينت، ومركز كولين باول للدراسات السياسية في نيويورك. كما شغل عدة وظائف في منظمة الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي. حاصل على درجة الماجستير في العلاقات الدولية من جامعة نيويورك

مقدمة

أثبتت نتائج "الثلاثاء الكبير"، الموافق 3 آذار/ مارس 2020، في سباق الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي لانتخابات الرئاسة الأميركية، أن القيادة التقليدية في الحزب الديمقراطي ليست مستعدة بعد لتسليم المرشح اليساري السيناتور بيرني ساندرز قيادة الحزب في تكرار لسيطرة الرئيس الحالي دونالد ترامب على الحزب الجمهوري. توحّد التيار الوسطي خلف نائب الرئيس الأسبق باراك أوباما، جو بايدن، بتأثير من أوباما نفسه الذي سعى وراء الكواليس في محاولة لحماية إرثه في الحزب الديمقراطي ومنع تحويل الانتخابات العامة إلى مواجهة بين أقصى اليسار وأقصى اليمين. ولتقييم التداعيات الطويلة المدى لهذا السباق على السياسة الأميركية، تسلّط هذه الورقة الضوء على خلفية هذه النهضة اليسارية وطبيعتها وملامح صراعها الأيديولوجي والسياسي مع القيادة التقليدية في الحزب الديمقراطي.

ملامح "الاشتراكية الأميركية"

للمرة الثانية على التوالي في التاريخ الأميركي، هناك مرشّح في الانتخابات الرئاسية يعرّف نفسه بأنه "اشتراكي" يسعى لإعادة صياغة دور الحكومة الفدرالية وهوية الحزب الديمقراطي. ولا يوجد تعريف واضح وشامل لفكرة الاشتراكية الأميركية، ما يفتح الباب واسعًا لإسقاط الكثير من المفاهيم عليها في الخطاب السياسي الأميركي، سواء أكانت إسقاطات سلبية أم إيجابية. وبالنسبة إلى ساندرز والنخب المحيطة به، يعني مفهوم الاشتراكية دورًا أوسع للحكومة الفدرالية في التخفيف من وطأة الرأسمالية، من دون المس بالنظام الديمقراطي أو ملكية الدولة لوسائل الإنتاج. لكن قبل التأمل في ظاهرة ساندرز مقارنةً بصعود بايدن، لا بد من خلفية تاريخية عن الاشتراكية الأميركية نظرًا إلى أهميتها في هذا الصراع داخل الحزب الديمقراطي.

ليست الاشتراكية الأميركية طارئة على الحياة السياسية في الولايات المتحدة، بل تعود جذورها إلى المجتمعات المحلية الطوباوية في بداية القرن التاسع عشر في ظل حركات عمالية مستوحاة من التجربة الأوروبية للمهاجرين، أدت حينها إلى تأسيس "الحزب الاشتراكي الأميركي" أو ما يمكن تسميته النهضة اليسارية الأولى. وفي عشرينيات القرن الماضي، قاد المرشح الرئاسي، يوجين دبس، المعارضة الاشتراكية للحرب العالمية الأولى، لكن تعرضت حينها المجموعات اليسارية المتأثرة بالبلشفية والفوضوية للقمع الحكومي، خوفًا من تمدد الشيوعية إلى الولايات المتحدة في مرحلة عُرفت بـ "الخوف الأحمر الأول" خلال الفترة 1917-1920. بعدها برز نورمان توماس مرشحًا رئاسيًا عن الحزب الاشتراكي الأميركي على مدى ست دورات انتخابية منذ عام 1928، وكان شخصية ذات كاريزما حاولت أن تطرح اشتراكية تتمايز من الشيوعية الأميركية، كما كان مدافعًا عن الحرب العالمية الأولى ومناهضًا لقيادة جوزيف ستالين للاتحاد السوفياتي. وفي الخمسينيات من القرن الماضي، تعرّض اليسار الأميركي لنكسة ثانية في ظل ما عُرف بـ "المكارثية"، التي قادها السيناتور جوزيف مكارثي، وهي مرحلة "الخوف الأحمر الثاني" التي قضت بتوجيه اتهامات بالتخريب أو الخيانة إلى عدد من موظفي الحكومة من دون أدلة، خوفًا من تسلل الشيوعية إلى المؤسسات الأميركية والتجسس لصالح الاتحاد السوفياتي.

شهدت مثالية ستينيات القرن الماضي في المجتمع الأميركي النهضة اليسارية الثانية مع صعود "اليسار الجديد" الذي وجد ضالته في حركة الحقوق المدنية والسياسية، وقام بمراجعة نقدية للحركات النقابية بتحويل اهتمام الاشتراكيين من المادية الاجتماعية وصراع الطبقات إلى العدالة الاجتماعية. وقد جعل هذا التحول الحركة الاشتراكية أكثر تماهيًا مع الحزب الديمقراطي، وقد كان أبرز رموز الحركة في تلك الفترة، مايكل هارينغتون، الذي ساعدَ إدارتي جون كينيدي وليندون جونسون في برامج محاربة الفقر والظلم العنصري. وفي سبعينيات القرن الماضي كانت هناك نقطة تحول في تأطير النسخة الأميركية من الاشتراكية بعد خلافات داخل هذه الحركة حول أفضل طريقة لنزع صبغة "الشيوعية" التي تطغى عليها في الرأي العام الأميركي. وفي مؤتمره الوطني عام 1972، قرر الحزب الاشتراكي الأميركي إعادة تسمية نفسه "الديمقراطيون الاجتماعيون" لإيصال رسالة مفادها أنه جمعية سياسية أميركية يجب تمييزها من الشيوعية، تركز على القضايا الاجتماعية. لكن كانت هناك حالة اعتراضية على هذه الخطوة بقيادة هارينغتون رفضت التسمية الجديدة، واعتبرت أن الحزب يتجه إلى اليمين. تبلورت هذه المعارضة لتصبح منظمة سياسية منفصلة تحمل اسم "الديمقراطية الاشتراكية لأميركا" رأت ضرورة التمسك بشعار الاشتراكية، لكنها أضافت أيضًا كلمة "ديمقراطية" لإظهار التمسك بالنظام الديمقراطي.

بقيت كل هذه التيارات الاشتراكية عبر التاريخ الأميركي الحديث هامشية مقارنة بتجارب مشابهة في أوروبا، وحتى في كندا المجاورة للولايات المتحدة. لكن هناك ما يمكن وصفه بالموجة الثالثة من النهضة اليسارية بقيادة ساندرز الذي حصل على 13 مليون صوت خلال الانتخابات التمهيدية عام 2016 مقارنة بمليون صوت للاشتراكي دبس في انتخابات عام 1912[1]. وغني عن القول إن ظاهرة ساندرز تعدّ نتاجًا وامتدادًا لدينامية ونقاشات الحركة الاشتراكية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، مع فارق كبير يتمثل في أن الحالة اليسارية الحالية وصلت إلى ذروة قوتها منذ عام 2016، وقررت خوض معركة وجودية داخل الحزب الديمقراطي.

اشتراكية ساندرز تحت المجهر

بدأ في الحزب الديمقراطي أفول خطاب النيوليبرالية وتحرير السياسات الاقتصادية مع الركود الاقتصادي الأميركي عام 2008 الذي أوصل أوباما، مرشح يسار الوسط، إلى الحكم عام 2009، لتتدخل إدارته لإنقاذ الاقتصاد ووضع ضوابط عليه. وقد خيبت خطط أوباما الإنقاذية آمال القاعدة اليسارية، لأنها صرفت أموال دافعي الضرائب على إنقاذ كبرى الشركات التي أعلنت إفلاسها ووسعت الفجوة بين الأثرياء والطبقة العاملة التي رأت مستواها المعيشي يتراجع. ساهم هذا الأمر في صعود ساندرز عام 2016 في مواجهة وزيرة الخارجية السابقة، هيلاري كلينتون، في ظاهرة تحاكي تجارب مشابهة في أوروبا خرجت خلال السنوات الأخيرة من هوامش الحياة السياسية، مثل: جيرمي كوربين في بريطانيا، وجان لوك ميلنشون في فرنسا، حيث سمحت وسائل التواصل الاجتماعي لهذه التيارات بالوصول إلى قاعدة شعبية أوسع، ولا سيما جيل الشباب. لكنّ تعافي الاقتصاد الأميركي خلال السنوات الأخيرة نتيجة سياسات أوباما أضعف هذه الحجج داخل القاعدة الديمقراطية ونقل تركيز الليبراليين إلى ضرورة هزيمة ترامب.

يمثل هذا اليسار الأميركي تحديًا للقيادة التقليدية التي تمثل حركة "الطريق الثالث" أو الوسطية التي صاغت لعقود سياسة الحزب الديمقراطي استنادًا إلى مقاربة جمعت بين سياسات اقتصادية تميل إلى اليمين وسياسات اجتماعية تميل إلى اليسار. وقد برزت هذه الليبرالية الاجتماعية في ثمانينيات القرن الماضي في محاولة لردع نجاحات رئاسة رونالد ريغان، وهي تعكس المرحلة التي تمتد من رئاسة بيل كلينتون عام 1992، إلى باراك أوباما عام 2016، مع الأخذ في الاعتبار الفارق بين تحديات المرحلتين.

يعد احتمال فوز ساندرز على بايدن مسألة حياة أو موت لهذه الوسطية في الحزب الديمقراطي. ومن المفيد القول إن بايدن، تحديدًا، يمثل أيضًا رموز حقبة "إجماع واشنطن" التي تضمنت بنودًا مثل التجارة الحرة والخصخصة وإلغاء الضوابط الاقتصادية والمالية، وهي سياسات قضت على الطبقة الوسطى الصناعية في أميركا، وساهمت في فوز ترامب عام 2016.

في عام 2008، تحالف بايدن مع أوباما، في حين اتجه اليوم إلى يسار الوسط في حملته الانتخابية واقترح استثمارات فدرالية في البنى التحتية لإيجاد فرص عمل جديدة للطبقة الوسطى. يقول بايدن إنه "ديمقراطي أوباما - بايدن" من دون أن يفسر بعد ماهية هذا التوصيف، ولا سيما أنه يمثل الجيل المحافظ القديم في الحزب الديمقراطي الذي يجد صعوبة في التأقلم والتخاطب مع جيل جديد شديد الليبرالية، وخاصة في السياسات الاجتماعية والاقتصادية.

وفي حين يسعى ساندرز إلى أن توفر الحكومة الفدرالية خدمات رئيسة مثل التعليم والرعاية الصحية مجانًا أو بأسعار مخفضة عبر إعادة توزيع الثروات من خلال الضرائب، واستبدال شركات التأمين الصحي الخاصة بنظام حكومي شامل (النموذج الكندي)، ما يسمح بسيطرة فدرالية أكبر على النظام الطبي الأميركي، يقترح بايدن رعاية صحية اختيارية تكون خليطًا بين الحكومة والشركات الخاصة (النموذج الأوروبي). لكن أبعد من ذلك، ليس هناك في برنامج ساندرز أي إشارة إلى أنه يرغب في تعديل أسس النظام الرأسمالي.

يعدّ ساندرز أكثر تماهيًا مع "الديمقراطيين الاجتماعيين" من ناحية سعيه إلى إصلاح النظام الرأسمالي القائم، وليس استبداله بنظام آخر كما تسعى إلى ذلك "الديمقراطية الاشتراكية". وفي تاريخه ما يكفي من التصريحات الموثقة[2] التي تعكس مواقف متناقضة في هذا السياق؛ فعلى سبيل المثال، قال في حديث لصحيفة بوسطن غلوب عام 1981: "لقد ابتعدت عن وصف نفسي اشتراكيًا لأنني لا أرغب في قضاء نصف حياتي موضحًا أنني لا أعتقد بالاتحاد السوفياتي أو بمعسكرات الاعتقال". لكن بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة، أصبح أكثر جرأة في توصيف نفسه بأنه اشتراكي، بحيث صرح لصحيفة واشنطن بوست عام 2006: "لن أنكر ذلك لثانية واحدة، أنا ديمقراطي اشتراكي". هذا التحول في موقف ساندرز يمكن تفسيره في استطلاعات الرأي، إذ أجرت مؤسسة "غالوب" استطلاعًا في أيار/ مايو 2019 قال فيه 43 في المئة من الأميركيين إن الاشتراكية أمر جيد للولايات المتحدة، مقارنة بـ 25 في المئة عام 1942[3]. ويعود هذا التحول، على نحو رئيس، إلى أن جيل ما بعد الحرب الباردة لا يحمل موروثات الجيل الذي سبقه نفسها في النظرة إلى الاشتراكية.

لكن يبدو أن ساندرز يحاول إرضاء القاعدة الاشتراكية بالشكل والتسميات، وليس بالضرورة في مضمون السياسات، في حين يسعى في الوقت ذاته إلى إعادة تعريف "الاشتراكية الأميركية" لتتأقلم مع تحديات اليوم. وفي خطابه في جامعة جورج واشنطن في صيف 2019، شرح ساندرز ماهية "الاشتراكية الأميركية" بالنسبة إليه، مشيرًا إلى أنها تعني أن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية تندرج في سياق حقوق الإنسان، وأن رئاسته المحتملة "استكمال للعمل غير المنتهي" لرئاسة فرانكلين روزفلت في ثلاثينيات القرن الماضي التي جابهت "الكساد الكبير"[4]. كما يقدم ساندرز المثال الإسكندنافي أو "دول الشمال"، وتحديدًا الدنمارك التي تتبع نموذج دولة الرفاهية. لكن كان هناك رد من مسؤولين[5] ونواب[6] في الدنمارك على ساندرز بأن دولتهم ليست نظامًا اشتراكيًا بل تتبع "اقتصاد السوق". وهناك اليوم تساؤلات حول برامج ساندرز الطموحة، ليس فقط من ناحية تكلفتها ومن أين ستوفر تمويلها، بل هل ستصبح تلك البرامج قوانين تدخل حيز التنفيذ في ظل الاستقطاب السياسي في الكونغرس بين الديمقراطيين والجمهوريين؟ وهل لهذه الأفكار قبول لدى الأميركيين؟ من الجدير ذكره هنا أن تعديل منظومة الرعاية الصحية يؤدي إلى تحول بنيوي في المجتمع الأميركي، ولا يوجد إجماع يكفي لإحداث هذا التحول.

السياسة الخارجية: ساندرز مقابل بايدن

تعدّ نظرة ساندرز إلى السياسة الخارجية انعكاسًا جزئيًا لأفكاره الداخلية، فهو يرى أن على واشنطن أن تؤدي دورًا رياديًا في تقليص التأثير السلبي للرأسمالية في النظام الدولي وتوزيع ثرواته عبر استخدام قوة الدبلوماسية الأميركية لتحقيق تقدم في قضايا المساواة والبيئة، ومحاولة خفض الميزانية العسكرية الأميركية والتصنيع الدفاعي للشركات الخاصة، والحد من التدخلات الأميركية الخارجية. لكن هذا لا يعني أن ساندرز سيمثل انقلابًا في السياسة الخارجية الأميركية، بل يمثل استمرارًا لها في عناوينها العريضة، وقد يتعرض نتيجة هذا الأمر لضغوط من قاعدته اليسارية. في حين يعدّ بايدن، إلى حد بعيد، صدى لأوباما في التعامل مع السياسة الخارجية، لكنه قد يكون على الأرجح على يمينه. كما أن لدى بايدن سجلًا حافلًا في صناعة السياسة الخارجية الأميركية من الكونغرس إلى البيت الأبيض، لكنه سجلٌ يجمع فيه بين تأييد التدخل العسكري (حلف شمال الأطلسي "الناتو" في البوسنة وليبيا، والتصويت لصالح الغزو الأميركي للعراق)، والاعتراض عليها (معارضة حرب فيتنام، ودعم الانسحاب الأميركي من أفغانستان)، ومن ثم ميله إلى التدخل أكبر مقارنة بترامب وساندرز.

ستكون ترجمة سياسات ساندرز في الداخل الأميركي عبر الميزانية الفدرالية، إذ يتوقع أن يكون هناك اشتباك تشريعي بين إدارة ساندرز والكونغرس، ولا سيما مع ممثلي الولايات التي تستفيد من فرص عمل المصانع الدفاعية. قد يكون هذا الاشتباك التشريعي حول ميزانية البنتاغون مشابهًا لضغوط الكونغرس من الحزبين على إدارة ترامب كي لا تقلص ميزانية وزارة الخارجية. وإذا فاز ساندرز، فسيكون هناك تحدٍ للصناعة العسكرية الأميركية التي تمثّل نحو نصف مبيعات الأسلحة العالمية (420 مليار دولار)[7]. قد يكون تقليص الصفقات العسكرية محدودًا خلال رئاسة ساندرز، لكن، بخلاف ترامب، سيعرف حلفاء واشنطن أن الصفقات العسكرية ليست مدخل الحصول على انتباه الرئيس. وحتى لو لم يتمكن ساندرز من إقرار برامجه في الكونغرس، فإن لديه هامشًا واسعًا ضمن صلاحياته الرئاسية لتغيير ملامح السياسة الخارجية الأميركية.

قد تكون محاولة فهم سياسة ساندرز الخارجية عبر أبرز مستشاريه، مات داس، الذي يعمل منذ بداية عام 2017 في مكتبه في مجلس الشيوخ وانضم إلى حملته الرئاسية، كما أدى دورًا في صياغة الاتفاق النووي الإيراني عام 2015[8]. وفي هذا الإطار، يُذكر أن من بين مستشاري ساندرز: روبرت مالي، رئيس مجموعة الأزمات الدولية الذي كان مستشار أوباما للأمن القومي، وسوزان دي ماجيو، المختصة في شؤون التفاوض مع الخصوم في معهد كارنيغي للسلام الدولي، وولي نصر، عميد كلية الدراسات المتقدمة في جامعة جون هوبكينز، وجميعهم مهتمون بالشأن الإيراني. أما بايدن فيعتمد على أسماء مخضرمة من داخل البيروقراطية التي خدمت في إدارتي بيل كلينتون وأوباما، مثل توني بلينكن ونيكولاس بيرنز، أي ستكون مقاربة تقليدية للحزب الديمقراطي مع لمسة بايدن عليها.

ومن أبرز معالم سياسة ساندرز الخارجية انتقاداته العلنية للطغيان والاستبداد حول العالم، فقد كتب في صحيفة الغارديان في عام 2018 أن هناك "محورًا استبداديًا جديدًا يتطلب جبهة تقدمية دولية"[9]، كما صرح لمجلة نيويوركر أنه لا يمكن الفصل بين انعدام المساواة الاقتصادية و"الاستبداد اليميني"[10]. يستفيد من هذه المقاربة حيال الاستبداد التي بدأها قبل عامين، أي عام 2018، في المواجهة ضد ترامب، لأنها تسمح له بطرح مقاربة مناقضة لترامب الذي بنى ولايته الأولى على التغزل بقيادات الاستبداد في النظام الدولي، كما تسمح لساندرز بوضع مسافة بينه وبين أنظمة الاستبداد حول العالم التي تدور في الفلك اليساري. لكن دفاع ساندرز الجزئي، نهاية شباط/ فبراير 2020، عن الزعيم الكوبي فيدل كاسترو معتبرًا أنه "من الظلم القول إن كل شيء ببساطة سيء"[11] في الثورة الكوبية، لم تساعده على تغيير هذه الصورة النمطية عنه. في المقابل، يحاول بايدن الحديث عن قضايا الاستبداد لإحداث توازن مع ساندرز، لكن هذه القضية ليست مركزية في سياسة بايدن الخارجية، ومن ثم سيواجه، في حال وصل إلى البيت الأبيض، ضغوطًا من القاعدة اليسارية حول هذا الملف. سياسة بايدن هي عودة إلى المثالية الأميركية في ما يسمى قيادة "العالم الحر"، لكن بشروط ترامب إلى حد ما، أي أن لا تقع كل الأعباء على الكاهل الأميركي. وبناء على ذلك، هناك عودة إلى بناء العلاقات مع الحلفاء الأوروبيين، وتركيز على روسيا والصين أكثر من التركيز على الشرق الأوسط.

لن تكون سياسة ساندرز الخارجية بعيدة عن بايدن والمقاربة التقليدية للحزب الديمقراطي، لكن قد يكون هناك تباين تكتيكي أكثر مما هو استراتيجي. ويعتبر ساندرز أن القوة العسكرية ضرورية في ثلاث حالات: حماية الأميركيين، أو التدخل الإنساني، أو توجيه ضربة عسكرية استباقية ضد تجارب نووية أو صاروخية في إيران أو كوريا الشمالية. ويضيف بايدن إلى هذه الحالات سيناريو القوة العسكرية لحماية إمدادات النفط والرد على استخدام الأسلحة الكيماوية. لكن يتفق كلاهما على رفض استخدام القوة لتغيير الأنظمة. وفي حين ينتقد ساندرز قتل إدارة ترامب لقائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني، فإن بايدن لا يدين هذه الخطوة إدانة صريحة. ويتوقع أن تكون إدارة ساندرز للملف الإيراني مشابهة لأوباما من ناحية عودة واشنطن إلى الاتفاق النووي الإيراني بالتعاون مع الأوروبيين ومحاولتها إيجاد اتفاقات الحد الأدنى مع طهران. وكما كانت المؤسسات الحاكمة ممانعة لتشدد ترامب مع إيران في مراحل سابقة، ستكون أيضًا ممانعة لأي تساهل كبير مع طهران.

وفي الملف الفلسطيني - الاسرائيلي، يتفق كل من بايدن وساندرز على استمرار المساعدات العسكرية الأميركية لإسرائيل وعدم إعادة نقل السفارة الأميركية إلى تل أبيب، لكن الفارق أن ساندرز، المرشح اليساري، يريد أن يستخدم هذا الدعم ليضغط على الإسرائيليين للتفاوض مع الفلسطينيين ووقف الأنشطة الاستيطانية. وبناء عليه، ستكون علاقة ساندرز متأزمة بنتنياهو إذا بقي في الحكم، أو بأي حكومة يمينية تحل مكانه، وذلك في سيناريو يبدو مشابهًا لعلاقة أوباما بنتنياهو، في حين أن بايدن قد يكون أكثر ليونة في التعامل مع القيادات الإسرائيلية.

يتفق كل من بايدن وساندرز على تصنيف روسيا خصمًا استراتيجيًا، لكن، مثل ترامب، سيكون من الصعب على ساندرز تخفيف حدة التنافس مع موسكو أو تقليص العقوبات الأميركية عليها من دون إحداث تحول رئيس في سياساتها الخارجية. وستستمر رئاسة ساندرز، على الأرجح، في نوع من التوتر التجاري مع الصين لحماية العمال الأميركيين، لكن التحدي أمامه يكمن في حاجته إلى بكين لتحقيق تقدم في أبرز شعارات حملته الانتخابية؛ أي مكافحة التغير المناخي. كما ستكون إدارة ساندرز أكثر انخراطًا في محاولة لإيجاد الحلول في اليمن وسورية، لكن القوى الرئيسة الأخرى قد تعرقل هذه المهمة إذا لم تحصل على تنازلات من واشنطن.

تداعيات المواجهة بين ساندرز وبايدن

في بداية عام 2009، بعد انتخاب أوباما، كتب المؤرخ جون ميشام مقالًا في مجلة نيوزويك بعنوان "نحن كلنا اشتراكيون الآن"[12] في إشارة إلى كيف تدخلت إدارةٌ جمهورية، مثل إدارة بوش الابن، لإنقاذ القطاع العقاري، وكيف سيستمر هذا الاتجاه مع أوباما. وفي شباط/ فبراير 2020 كتبت صحيفة واشنطن بوست افتتاحية[13] تقول فيها إنه ليس هناك مرشح وسطي في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، وإن كل المرشحين على يسار أوباما، وهذا يعكس إلى أي درجة تمكَّن ساندرز من تغيير خطاب الليبراليين منذ عام 2016، لكن طرحه شعار الاشتراكية يبقى مثيرًا للجدل بين جزء رئيس من القاعدة الديمقراطية. وفي استطلاع مشترك لمجلة إيكونوميست ومؤسسة "يوغوف" YouGov في عام 2019، قال 51 في المئة من الديمقراطيين إنهم لا يرون أنفسهم اشتراكيين[14]. وينعكس هذا الأمر في صعود بايدن المحبوب بين الليبراليين أمام اليساري ساندرز، على عكس برودة الناخب الليبرالي حيال هيلاري كلينتون عام 2016.

هناك معركة جارية اليوم حول روح الحزب الديمقراطي وخيار الناخب الليبرالي حتى الآن، وهي العودة إلى إرث أوباما لهزيمة ترامب بدلًا من المغامرة مع ثورة ساندرز. لكن مهما يحصل في الانتخابات التمهيدية، سيستمر هذا الصراع في المدى المنظور، وهناك احتمال أن يؤدي إلى انقسامات جوهرية في الحزب إذا لم يتم استيعاب تداعيات هذه المواجهة ومحاولة توحيد صفوف الديمقراطيين بالحد الأدنى على الأقل. ويمثل كل من بايدن وساندرز نظرة متناقضة إلى السياسات الداخلية، مع تقاطعاتٍ في السياسة الخارجية. ويكمن تحدي ساندرز، إذا فاز في هذا السباق أو خسر، في تحديد مقاربته للاشتراكية الأميركية وكيف يمكنها أن تتأقلم مع الثقافة الأميركية. وليس واضحًا بعدُ هل خسارة ساندرز ستكون نكسة ثالثة للتيار الاشتراكي؟ أم هل سيعود هذا التيار مجددًا مع وجوه جديدة بدلًا من جيل ساندرز، ولا سيما عضو مجلس النواب ألكساندريا أوكازيو-كورتيز.

لا يعدّ بايدن يساريًا بالقدر الذي يدّعيه، وسيسارع في التموضع في الوسط إذا نال تأييد الحزب الديمقراطي في المواجهة ضد ترامب، وهو يحمل إرث الماضي والمؤسسة الحاكمة في واشنطن مقارنة بترامب وساندرز باعتبارهما من خارج المنظومة الحزبية التي ينتمون إليها. في حين أن ساندرز ليس اشتراكيًا بالقدر الذي يصوّر نفسه في الإعلام، وليس متشددًا في يساريته بالقدر الذي يوحي به في العلن، ولديه نظرة واضحة إلى العالم، لكن لا يمانع من تحقيق مكاسب تدريجية لا ترتقي إلى مستوى "الثورة السياسية" التي يرددها في كل خطاباته. السؤال الكبير في المرحلة المقبلة هو: هل ستكون تجربة ساندرز مشابهة لتجربة كوربين في بريطانيا؟ بمعنى أنه يتمتع بشعبية كبيرة بين قاعدته وداخل حزبه لكن من دون القدرة على الفوز في الانتخابات أو طرح مشروع وطني قابل للتنفيذ. على أي حال، لا يعدّ وصول ساندرز إلى البيت الأبيض محسومًا بأي شكل من الأشكال، لكنها مهمة قد تكون أسهل من تغيير مجتمع أميركي يبقى حتى الآن منذورًا للثقافة الرأسمالية الفردية.


[1] Gillian Brockell, “Socialists were Winning U.S. Elections Long before Bernie Sanders and AOC,” The Washington Post, 2/13/2020, accessed on 5/3/2020, at: https://wapo.st/2VMvSwM

[2] Michael Kruse, “14 Things Bernie Sanders has Said About Socialism,” Politico, 17/7/2015, accessed on 5/3/2020, at: https://politi.co/39xV3H6

[3] Mohamed Younis, “Four in 10 Americans Embrace Some Form of Socialism,” Gallup, 20/5/2019, accessed on 5/3/2020, at: https://bit.ly/32Nz4tf

[4] Tara Golshan, “Read: Bernie Sanders Defines His Vision For Democratic Socialism in the United States,” Vox, 12/6/2019, accessed on 5/3/2020, at: https://bit.ly/2TAd6G3

[5] Matthew Iglesias, “Denmark's Prime Minister Says Bernie Sanders is Wrong to Call His Country Socialist,” Vox, 31/10/2015, accessed on 5/3/2020, at: https://bit.ly/2vsWRmi

[6] Ida Auken, “We Danes aren’t Living the ‘American Dream.’ And we still aren’t Socialist,” The Washington Post, 22/2/2020, accessed on 5/3/2020, at: https://wapo.st/3aoMY7L

[7] David Reid, “US Firms Dominate Arms Sales List as 2018 Global Spend Rises to $420 Billion,” CNBC, 9/12/2019, accessed on 5/3/2020, at: https://cnb.cx/2Tv5JzG

[8] David Richardson, “How One Advisor Bolstered Bernie Sanders’ Foreign Policy Credentials Ahead of 2020,” The Observer, 6/2/2019, accessed on 5/3/2020, at: https://bit.ly/2VE8x05

[9] Bernie Sanders, “A New Authoritarian Axis Demands an International Progressive Front,” The Guardian, 13/9/2018, accessed on 5/3/2020, at: https://bit.ly/2vCqLUX

[10] Benjamin Wallace-Wells, “Bernie Sanders Imagines A Progressive New Approach to Foreign Policy,” The New Yorker, 13/4/2019, accessed on 5/3/2020, at: https://bit.ly/2VIYBT8

[11] Paul Le Blanc & Dan America, “Sanders Says ‘it's Unfair to Simply Say Everything is Bad’ with Fidel Castro's Cuba,” CNN, 24/2/2020, accessed on 5/3/2020, at: https://cnn.it/38mRuSI

[12] John Meacham, “We are all Socialist Now,” Newsweek, 6/2/2009, accessed on 5/3/2020, at https://bit.ly/2IetvKT

[13] Editorial Board, “No, Pete Buttigieg and Joe Biden are not ‘Centrists’,” The Washington Post, 8/2/2020, accessed on 5/3/2020, at: https://wapo.st/3csJXoK

[14] Kathy Frankovic, “Are Democrats Socialists? Democrats Say No, But Republicans Say Yes,” YouGov, 25/7/2019, accessed on 5/3/2020, at: https://bit.ly/2uPgtk0