يُعدّ انفجار مرفأ بيروت في 4 آب/ أغسطس 2020 من المحطات الصعبة في تاريخ لبنان الحديث؛ إذ بدأت تداعياته تتبلور تِباعًا عبر تغيير المشهد السياسي في لبنان، وتعميق أزمته الاقتصادية، وتوسيع حجم التدخل الخارجي في إدارة شؤونه. وقد يفتح هذا الانفجار البابَ أمام عودة شكل من أشكال الوصاية الدولية على أنقاض ما بقي من نظام "الطائف" الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) في بداية تسعينيات القرن الماضي. ويُشجع هذه الوصايةَ الدولية كلٌّ من الطبقة الحاكمة التي تحمي مصالحها ومصالح القوى الخارجية التي تدعمها، والرأي العام اللبناني الناقم على فساد السلطة، والراغب في دعمٍ خارجي لإطاحتها.
تناقش هذه الورقة أسباب الانفجار وآثاره السياسية والاقتصادية على لبنان، وعلى التدخّل الخارجي في نظامه، وتناقش أيضًا السيناريوهات المتوقعة في المرحلة المقبلة.
خلفية الانفجار: التحقيقات والعامل الخارجي
في الساعة السادسة مساءً بتوقيت بيروت، في 4 آب/ أغسطس، انفجر مستودع تخزين في مرفأ بيروت (العنبر رقم 12)، فيه ما يقارب 2750 طنًّا من مادة نترات الأمونيوم (مركّب كيميائي لصنع المتفجرات)، متروكة في مرفأ مدني منذ نحو سبع سنوات، من دون حدٍّ أدنى من الإجراءات الوقائية. وكانت النتيجة تدمير المنطقة الأثرية التي تُمثّل واجهة بيروت البحرية، ومقتل أكثر من 200 شخص، وجرح نحو 6000 شخص، وتشريد نحو 300 ألف شخص[1]. وقدّر محافظ بيروت مروان عبود، الخسائر المالية في العاصمة الناتجة من هذا الانفجار بما يراوح بين 10 و15 مليار دولار أميركي[2]. وخسر مرفأ بيروت، حتى إشعار آخر، موقعه في الاقتصاد اللبناني، ودوره في البحر الأبيض المتوسط.
في يوم الانفجار نفسه، شكّلت الحكومة اللبنانية لجنة تحقيق برئاسة رئيس الوزراء حسان دياب وعضوية وزراء العدل والداخلية والدفاع، إضافة إلى قادة القوى العسكرية والأمنية، ورفعت تقريرها إلى الأمانة العامة لمجلس الوزراء في 10 آب/ أغسطس؛ أي بعد أقل من أسبوع على الانفجار. وفي اليوم نفسه، قدّمت حكومة دياب استقالتها رسميًا، وعُيّن القاضي فادي صوان في 13 آب/ أغسطس محققًا عدليًا في هذه القضية، واستلم ادعاء النائب العام لدى المجلس العدلي القاضي، غسان عويدات، محاضر التحقيقات الأولية ليتوسع فيها.
ليس هناك بعدُ إعلان عن تحقيق رسمي، أو حتى مؤتمر صحافي من السلطات اللبنانية، كحدّ أدنى، بعد كارثة بهذا الحجم. وعلى الرغم من ذلك، فإن الرواية الأكثر ترجيحًا هي أن هذه الشحنة الكبيرة من نترات الأمونيوم بدأت رحلتها في أيلول/ سبتمبر 2013 من جورجيا على متن السفينة الروسية "روسوس" التي رست في مرفأ بيروت، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2013، ولم تصل إلى وجهتها التي كانت "شركة موزمبيق لصناعة المتفجرات"، وأنّ السلطات اللبنانية حجزتها بأمر قضائي، في كانون الأول/ ديسمبر 2013، بسبب ديونها المستحقة، وقد تم تفريغ حمولتها في مستودعات مرفأ بيروت في تشرين الأول/ أكتوبر 2014، بعد أن اعتُبرت السفينة غير صالحة للإبحار. لكن بدلًا من التخلّص من هذه البضاعة الخطرة، أو إتلافها في أسرع وقت ممكن، ماطلت إدارة الجمارك في المرفأ في اتخاذ إجراءات تحمي المصلحة العامة، وربما كان ذلك في سياق ما يبدو محاولة للكسب المالي عبر محاولة إعادة تصديرها، وذلك بعلمٍ وتواطُؤٍ من جهة أجهزة الدولة التي ترعاها الطبقة الحاكمة.
على الرغم من أنّ عدة تفاصيل ليست واضحة بعدُ، فإن المراسلات الإدارية والقضائية التي تسرّبت إلى الإعلام تعكس حجم الإهمال والفساد على كل مستويات الدولة اللبنانية؛ بحيث إنّ هناك ضرورة لتحقيق مزدوج يشمل جريمة تَرْك مواد متفجرة في مرفأ مدني، والظروف التي أدّت إلى انفجارها في حادثة أو تفجيرها إنْ كان الانفجار عملًا مُدبّرًا.
يقتصر الادعاء حتى الآن على 25 شخصًا من المديرين والموظفين في البيروقراطية المعنية بإدارة مرفأ بيروت، لكن ليس واضحًا بعد إنْ كان سيتم التحقيق والادعاء بالنسبة إلى الوزراء المعنيين أمام القضاء العدلي أو المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء الذي يخضع لحسابات سياسية. كما أنّ هناك مسؤولية أخلاقية وإدارية وسياسية عبر الإهمال والتقصير، تقع على عاتق رؤساء الجمهورية والحكومة منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2013.
من جهتها، رفعت المديرية العامة لأمن الدولة تقريرًا في 20 تموز/ يوليو (أي قبل الانفجار بأسبوعين)[3] إلى رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة حسان دياب، يفيد أنّ هناك كميةً كبيرة من نترات الأمونيوم في مرفأ بيروت تُمثّل خطرًا أمنيًّا يُهدّد بدمار العاصمة بيروت في حال انفجارها. وعلى الأرجح، أدّت هذه المتابعة التي قام بها جهاز "أمن الدولة" إلى المزيد من الإهمال ومحاولة التغطية. وفي النهاية، حصلت الكارثة.
بناءً على هذه المعطيات، ليس مستغربًا أن تُعارض الطبقة الحاكمة في لبنان إجراء تحقيق دولي بشأن سبب الانفجار (يُمثّل هذا الموقف الرئيس عون نفسه)، وأن يتمّ الاكتفاء بالدعوة إلى مشاركة دولية تقنية فحسب في هذا الأمر (يُمثّل هذا الموقف رئيس الوزراء السابق سعد الحريري)، ولا سيما أنّ على لائحة المتهمين مديرين في المرفأ من أنصار عون والحريري.
من ناحية أخرى، سارعت القوى الخارجية المؤثرة في لبنان إلى التموضع، على وقع تطوّرات الانفجار، في موقفين: الأول تقييمها لهذه الكارثة إنْ كانت حادثة أم اعتداءً، أمّا الثاني فهو إنْ كان يجب أن يُجرى التحقيق محلّيًا أو دوليًا.
كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أول مسؤول دولي يزور بيروت بعد الانفجار، حيث دعا إلى "تحقيق محايد وموثوق ومستقل"[4]، في وقت لمّحت فيه باريس إلى أن الانفجار هو نتيجة إهمال، وليس اعتداءً مدبرًا. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترامب، هو المسؤول الدولي الوحيد الذي أوحى أنّ انفجار بيروت ناتج من اعتداء[5]، في خطوة تحاكي مواقف المسؤولين اللبنانيين السابقين والحاليين الذين يحاولون التهرّب من مسؤوليتهم المباشرة، أو غير المباشرة، عن هذه الكارثة. لكن موقف ترامب هذا، كان، مثل العادة، مناقضًا لسياسات المؤسسة الحاكمة، فقد رفض البنتاغون الحديث عن أي اعتداء قبل أن يضطر وزير الدفاع مارك إسبر إلى أن يتراجع عن هذا الموقف[6]؛ لتفادي المزيد من التأزّم في علاقته بالبيت الأبيض. ودعم وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو التحقيق الذي تُجريه السلطات اللبنانية، من دون الضغط في اتجاه أي تحقيق دولي[7]. ومن جهته، وصف المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية في إيران، علي خامنئي، الانفجار بأنه "مأساة"[8]، ولم يُلمّح، مثل عادته في كل مرة مشابهة، إلى دور إسرائيلي أو أميركي، ودعمت السلطات الإيرانية التحقيق الداخلي اللبناني. أما القوى الخارجية الأخرى، مثل روسيا وتركيا والصين، فلم تُعلّق على معطيات الانفجار أو التحقيق، في حين دعت السعودية، عبر وزير خارجيتها فيصل بن فرحان، إلى "تحقيق شفاف ومستقل"، ووجّه بن فرحان اللوم إلى حزب الله قائلًا: "إنّ استمرار الهيمنة المدمرة لتنظيم حزب الله الإرهابي يثير مخاوفنا جميعًا. نحن ندرك جميعًا أن هذه المنظمة أكّدت سابقًا استخدام المواد المتفجرة وتخزينها في مناطق مدنية في بلدان عربية، وفي أوروبا والأميركتين"[9]. لكنّ اتجاه القوى الخارجية المؤثرة في لبنان، بشكل عام، يتمثّل بتصنيف انفجار بيروت بوصفه حادثة، وتقتصر المساعدة الدولية التقنية على التدقيق في أسبابه، ولا تتجه إلى أنّ تَرْك مواد متفجرة في مرفأ مدني يُعدّ جريمة في حدّ ذاته؛ لتفادي الدخول في تحقيق دولي يتطلب آلية وتمويلًا. والأهم من ذلك أنّ مثل هذا الاتجاه قد يورّط حلفاء واشنطن وطهران في مسؤولية مباشرة، أو غير مباشرة.
الأثر الاقتصادي والمساعدات الدولية
هناك عاملان رئيسان في الحديث عن الأثر الاقتصادي لانفجار بيروت؛ أحدهما أنّ التداعيات على لبنان في ظل الانهيار الاقتصادي والمالي القائم وتفشّي وباء "كورونا"، أمّا الآخر فهو حجم المساعدات الدولية ومشاريع إعادة الإعمار ودورها وشروطها. ففي ظل تقييد التبادل التجاري الرسمي على الحدود الشمالية والشرقية، نتيجة العقوبات الأميركية تجاه النظام السوري، واستمرار حالة الحرب مع إسرائيل على الحدود الجنوبية، وتعطّل مرفأ بيروت حاليًّا، أصبحت خيارات لبنان الاقتصادية محدودة، خصوصًا أن 80 في المئة من البضائع التي يستهلكها لبنان مستوردة، وأنّ مرفأ بيروت كان البوابة الرئيسة للاستيراد، على غرار "الثقب الأسود" لمنظومة الفساد.
بحسب توقعات صندوق النقد الدولي قبل انفجار بيروت، سينكمش الاقتصاد اللبناني بنسبة 12 في المئة هذا العام، مع استمرار ارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية[10]. كما تشير الإحصاءات إلى أن نحو 50 في المئة من السكان يعيشون تحت خط الفقر، مع انعدام الأمن الغذائي، وإلى أنّ نحو 33 في المئة عاطلون من العمل[11]. وقد تراجع معدل الواردات في لبنان بنسبة 50 في المئة منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2019، وسيزداد هذا الانخفاض بعد انفجار بيروت. كما يُرجّح أن يستمر التراجع في قيمة الليرة اللبنانية، في مقابل ازدياد الطلب المحلي على الدولار الأميركي، بعد أن فقدت الليرة اللبنانية 80 في المئة من قيمتها بسبب التضخم. ثمّ إنّ المصارف لا تزال تضع ضوابط على عمليات سحب أموال المودعين؛ لذا، سيكون توافر الرأسمال المحلي لإعادة إعمار ما دمّره الانفجار محدودًا، خصوصًا في ظل نكسة كبيرة متوقعة لشركات التأمين في منطقة هي الأكثر ثراءً وحركةً في مدينة بيروت. هناك أيضًا خسائر القطاع السياحي الذي تتراجع موارده منذ عام 2019، في وقت تضرّر أكثر من 90 في المئة من فنادق بيروت، بدرجات مختلفة[12]، بينما لا يزال هناك غيابٌ لأي خطة حكومية من أجل إنعاش القطاعين الصناعي والزراعي، بهدف إيصال لبنان إلى الحد الأدنى من الاكتفاء الذاتي.
تسعى القوى الخارجية لتعزيز نفوذها عبر مساعدات الإغاثة ومشاريع إعادة الإعمار لملء الفراغ في لبنان بعد الانهيار المدوّي للسلطة في لحظة انفجار بيروت. وانطلق هذا السباق رسميًا مع زيارة الرئيس الفرنسي، وما تلاها في مؤتمر المانحين الذي نظّمته باريس بالتعاون مع الأمم المتحدة في 9 آب/ أغسطس. وقد تمّ جمع نحو 300 مليون دولار ستُسلّم مباشرةً إلى المتضررين عبر منظمات مدنية محلية ودولية، وليس عبر السلطات الرسمية اللبنانية.
المعركة الرئيسة هي على الاستثمار لإعادة بناء مرفأ بيروت، وهي مرتبطة أيضًا بالحركة السياسية الحالية في لبنان. ومن المرجح أن يُقرّر على أساسها اتجاه هذه الاستثمارات.
من المعروف أن مرفأ بيروت يكتسب أهمية جغرافية، نظرًا إلى ربطه بين أسواق آسيا والبحر الأبيض المتوسط وأوروبا، فضلًا عن أنّ هذا المرفأ تمرّ عبره 82 في المئة من واردات لبنان وصادراته، وفيه 98 في المئة من الحاويات التي تخزن نحو 120 ألف طن من المنتوجات الزراعية، كما أنه يوفّر لخزينة الدولة 90 في المئة من الرسوم الجمركية وضريبة القيمة المضافة (نحو 250 مليون دولار سنويًا)، وكانت إيراداته قد بلغت في عام 2019 نحو 40 مليون دولار[13].
تشمل الدول التي عرضت المساعدة في إعادة بناء مرفأ بيروت فرنسا وتركيا والصين وقطر والكويت والإمارات. وقررت الحكومة اللبنانية في 5 آب/ أغسطس تحويل أغلبية حركة الشحن إلى مرفأ طرابلس في شمال لبنان. قد يكون الاستثمار الفرنسي في مرفأ بيروت هو الاستثمار الأكثر قبولًا؛ إذ إنه يحصل على موافقة أميركية، كما أنه لا يُقابَل بممانعة إيرانية، على عكس عروض أخرى قد تكون إشكالية في الداخل اللبناني.
ربط ديفيد هيل، مساعد وزير الخارجية الأميركي للشؤون السياسية، المساعدات الدولية على المدى الطويل للتعامل مع الانهيار المالي بإجراء الحكومة اللبنانية إصلاحات جدّية[14]، لكن الكلام الإيجابي الصادر عن القوى الخارجية المؤثرة في لبنان لا يعكس مواقفها الفعلية على الأرض، ولا طبيعة مصالحها وسياساتها في لبنان.
الوصاية الدولية وصراع شرق المتوسط
كثيرًا ما كان التنافس بين القوى الخارجية قائمًا في لبنان. وهذا التنافس سيشتد بعد الانفجار نتيجةً لانهيار الدولة، وافتقارها إلى الموارد الأساسية التي ينبغي توافرها في إطلاق جهود إعادة الإعمار وتجاوز الانهيار المالي. ويتوافد المسؤولون الفرنسيون والأميركيون والأتراك وغيرهم، تِباعًا، إلى بيروت، كما تُرسل القوى الخارجية البوارج التي تعرض قوتها أمام واجهة بيروت البحرية المدمّرة تحت عنوان "مساعدات الإغاثة"، في تعبير عن شكل من أشكال الوصاية الدولية على لبنان.
يعيش النظام السياسي المشوّه الذي أنتجته الرعاية الدولية في مرحلة ما بعد "اتفاق الطائف"، منذ 15 عامًا، في العناية الفائقة. وأدّى انكفاء النظام السوري في عام 2011، وانسحاب النفوذ السعودي من لبنان في عام 2016، إلى فتح الباب أمام دينامية أميركية - إيرانية معقدة، تؤدي إلى أزمات في لبنان حين تتعارض مصالح الطرفين، وإلى تسويات تُعزّز منظومة الفساد حين تتقاطع مصالحهما.
حين وقع الانفجار في بيروت، كان الرئيس الفرنسي حريصًا على الدفاع عن آخر جيوب النفوذ الفرنسي في المنطقة، ولا سيما في ظل التوتر مع تركيا في شرق المتوسط. فبعد أن همّشت الولايات المتحدة النفوذ الفرنسي في ليبيا لمصلحة تقدم النفوذ التركي، حرصت باريس على أن تحصل على دعم واشنطن لتفادي تكرار سيناريو مشابه في لبنان. لذا، أتت زيارة ماكرون لبيروت بضوء أخضر أميركي من حيث الشكل. وقد وبّخ ماكرون القادة اللبنانيين، ودعا إلى "نظام سياسي جديد"، كما حذر من أن باريس ستتخذ المزيد من الإجراءات في أيلول/ سبتمبر، أي بعد شهر من تاريخ وقوع الانفجار، إذا لم تُبادر السلطات اللبنانية إلى إجراء الإصلاحات؛ لأن المجتمع الدولي لن يعطي "شيكات على بياض لنظام لم يعُد يحظى بثقة شعبه"[15]. لكن إدارة ترامب "فرملت" هذه الاندفاعة الفرنسية عبر زيارة هيل الذي ضبط الإيقاع الدولي في موقف يتقاطع مع طهران. ويبقى لبنان بعيدًا عن استعادة حقبة الاستعمار الفرنسي أو النفوذ العثماني، فالولايات المتحدة وإيران هما اللاعبان الرئيسان في المشهد السياسي اللبناني حتى إشعار آخر.
المشهد السياسي والسيناريوهات المتوقعة
كانت استقالة رئيس الوزراء حسان دياب حتميةً منذ اليوم الأول للانفجار؛ لأن الطبقة الحاكمة المتجذّرة بنفوذها داخل الدولة تتصرف مثل أي نظام عربي يُضحّي بحكومة مع صلاحيات رمزية في الواجهة عند الأزمات الكبيرة لحماية الأمر الواقع القائم. لكن السؤال، الآن، هو: ماذا سيحصل بعد الاستقالة؟ لا يوجد مخرج من أي أزمة وطنية بهذا الحجم من دون إجراء انتخابات برلمانية شفافة ونزيهة، لكن هذه الخطوة لا تدعمها الطبقة الحاكمة في لبنان، ولا القوى الخارجية المؤثرة التي تدعم هذه الطبقة. المتظاهرون ضد النظام الطائفي لديهم إرادة التغيير، لكن ليس واضحًا كيف يمكن ترجمتها وتأطيرها لإحداث هذا التغيير، أو التنافس في الانتخابات مع الأحزاب السياسية التقليدية والقيادات الإقطاعية، في ظل غياب أي قدرات تنظيمية لمعارضة جدية ضد قوى النظام الطائفي، ولا سيما إذا بقي نظام التمثيل النسبي الذي اعتُمد في الانتخابات التشريعية عام 2018.
يبدو حزب الله مربكًا في التعامل مع هذا التحدي الجديد؛ إذ حاول أمينه العام السيّد حسن نصر الله، في أوّل خطاب له بعد الانفجار، استيعاب الصدمة والانفتاح على المبادرة الفرنسية بعد دعوة رئيس كتلة "حزب الله" في المجلس النيابي محمد رعد إلى الاجتماع الموسع الذي عقده ماكرون مع ممثلين عن الطبقة الحاكمة في لبنان. لكن بعد تشدد الموقف الإيراني وإعادة تموضع المبادرة الفرنسية لتتماشى مع الشروط الأميركية، وعتب الرئيس عون على غياب دعم "حزب الله" له بعد انفجار بيروت، اتهم نصر الله في خطابه الثاني (في 14 آب/ أغسطس) قوى سياسية لبنانية بأنها عملت على "إسقاط الدولة ووضعها على حافة حرب أهلية"[16]، ودعا إلى حكومة "وحدة وطنية" من القوى التقليدية الرئيسة؛ ما يعني ضمنيًا تأييد "حزب الله" تكليف سعد الحريري لتأليف الحكومة.
هناك محاولة لإعادة إنعاش التسوية الرئاسية بين عون والحريري التي أوصلت كلاهما في عام 2016 إلى رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة، لكن التوتر الأميركي - الإيراني والانهيار المالي في لبنان، وانتفاضة اللبنانيين، كلها عوامل أدّت إلى إجهاض هذه التسوية في تشرين الأول/ أكتوبر 2019. وترى واشنطن في إنعاش هذه التسوية الرئاسية، بشروط جديدة، تحسّنًا في ميزان القوى لمصلحتها في لبنان، وتعطي هامشًا أوسع للحريري. وقد يكون هذا التناغم الضمني بين الحريري وحزب الله محركًا للحكومة اللبنانية الجديدة، حتى مع إعلان المحكمة الدولية حكمها في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، وفيه اتهمت قياديًا من حزب الله (سليم عياش) بتنفيذ هذه الجريمة، وإن استبعدت قيادة الحزب منها.
إنّ إدارة ترامب لا تُمانع بشأن اختيار أي اسم آخر لرئاسة الحكومة الجديدة، ولا سيما أن حكومة حسان دياب كانت مساعِدةً للمصالح الأميركية، لكنّ أي حكومة جديدة في لبنان ستكون ضعيفةً أمام الضغوط الدولية. وما يهم الولايات المتحدة في لبنان هو استمرار مسار ترسيم الحدود مع لبنان، وعدم الانفتاح على النظام السوري، وإعادة التوازن إلى الداخل اللبناني بطريقة تضمن الحياد في سياسة لبنان الخارجية.
في حال تكليف الحريري، سيكون مسار تشكيل الحكومة مفتوحًا على كل الاحتمالات والتحالفات ضمن إيقاع أميركي - إيراني. وفي هذا السياق، تحاول إدارة ترامب التأثير في هذه الحسابات الداخلية عبر تحذير رئيس التيار الوطني الحر (التيار العوني) جبران باسيل من العقوبات، وعبر استمرار الضغوط الأميركية على أنشطة "حزب الله" الخارجية[17].
قد يبقى لبنان على مسار طويل من حكومة تصريف الأعمال ومرحلة من الفراغ في انتظار أن تنتج الوصاية الدولية ميزان قوى جديدًا داخل الطبقة الحاكمة في لبنان. أمّا المجتمع الدولي، فهو يتصرف مع لبنان، بعد انفجار بيروت، باعتباره نظامًا سياسيًا غير قادر على حكم نفسه، ولا يُمثل شعبه، ولا يملك الحد الأدنى من أخلاقيات الحكم، وهي نظرة تتقاطع مع المزاج الشعبي اللبناني الذي يتوقع من القوى الخارجية الضغط لتحقيق الإصلاحات. إنّ انفجار بيروت يغير المشهد السياسي اللبناني تدريجيًّا، ويزيد من التأثير الخارجي، الأمر الذي قد لا يفيد بالضرورة الشعب اللبناني، ما لم يشجع المجتمع الدولي مسار إصلاحات سياسية واقتصادية في البلاد، وما لم يتخلّ عن دعم حلفائه التقليديين، وهذا الأمر يبدو مستبعدًا في المدى المنظور.
إنّ لبنان يقترب تدريجيًّا من حدود تصنيف "الدولة الفاشلة"؛ بسبب الطبقة الحاكمة المنقسمة، والتدخل الأجنبي، والانهيار المالي، وغياب الخدمات العامة الأساسية، والتدهور الاقتصادي. في حين أن بعض عناصر الحوكمة لا تزال قائمة في لبنان، مع استمرار التماسك في نظام عسكري/ أمني يحمي مصالح الطبقة الحاكمة. ولا شك في أن انفجار بيروت سينقل لبنان إلى مرحلة جديدة في مسار "الدولة الفاشلة" التي تنتظر طبقتها الحاكمة تبلور شكل جديد ربما من أشكال الوصاية الدولية.
[1] “Beirut Explosion: Lebanon’s government ‘to resign’ as death toll rises,” BBC News, 10/8/2020, accessed on 16/8/2020, at: https://bbc.in/32ki5Pk
[2] جعفر قاسم، "محافظ بيروت: خسائر انفجار المرفأ بين 10 و15 مليار دولار"، وكالة الأناضول، 5/8/2020، شوهد في 15/8/2020، في: https://bit.ly/326p2Uj
[3] Samia Nakhoul & Laila Bassam, “Exclusive: Lebanon's leaders were warned in July about explosives at port – documents,” Reuters, 10/8/2020, accessed on 14/8/2020, at: https://reut.rs/2Qc94Cn
[4] "انفجار بيروت: إيمانويل ماكرون الرئيس الفرنسي يدعو إلى "تغيير عميق" في لبنان"، بي بي سي العربية، 6/8/2020، شوهد في 14/8/2020، في: https://bbc.in/34pEwWj
[5] Adela Suleiman, “Beirut explosion: Trump to discuss aid response with Lebanese, world leaders,” NBC News, 8/8/2020, accessed 14/8/2020, at: https://nbcnews.to/2FNn5EV
[6] Ryan Brown, “Esper appears to backtrack on Beirut explosion cause after White House pushback,” CNN, 10/8/2020, accessed on 14/8/2020, at: https://cnn.it/2Qf4OlA
[7] “Massive Beirut blast kills more than 70, injures thousands,” Associated Press, 4/8/2020, accessed on 16/8/2020, at: https://bit.ly/2CN1YBp
[8] “Leader condoles Lebanese over Beirut explosion,” Tehran Times, 6/8/2020, accessed on 14/8/2020, at: https://bit.ly/329G1oN
[9] “Saudi foreign minister calls for ‘transparent and independent’ Beirut explosion investigation,” Arab News Japan, 10/8/2020, accessed on 14/8/2020, at: https://bit.ly/31fLLOh
[10] “IMF sees crisis-hit Lebanon's output shrinking 12% in 2020,” Reuters, 15/4/2020, accessed on 12/8/2020, at: https://reut.rs/31fJ1jY
[11] Havovi Cooper & Mark Abadi, “Lebanon was already in financial crisis before the explosion in Beirut — and now experts are predicting devastating consequences,” Business Insider, 5/8/2020, accessed on 12/8/2020, at: https://bit.ly/2Egd9mP
[12] "الأشقر: تسعون في المئة من فنادق بيروت متضررة"، الوكالة الوطنية للإعلام، 5/8/2020، شوهد في 15/10/2020، في: https://bit.ly/3aHVwrI
[13] Toni Akleh, “Beirut Port: irreplaceable importance in the middle of Lebanon’s geography,” Arabian Business, 6/8/2020, accessed on 14/8/2020, at: https://bit.ly/3aIX1Gc
[14] Issam Abdallah & Ellen Francis, “U.S. envoy: FBI to join Beirut blast probe, Lebanon must end 'empty promises',” Reuters, 13/8/2020, accessed on 16/8/2020, at: https://reut.rs/2E3E997
[15] “Macron: Lebanon to Get No 'Blank Checks' for Blast Aid, Must Reform Government,” VOA News, 7/8/2020, accessed on 14/8/2020, at: https://bit.ly/2EgdEgH
[16] "نصر الله: سنرد على اغتيال شهيدنا بسوريا وعلى جمهور المقاومة المحافظة على غضبه لأننا قد نحتاجه في يوم من الأيام"، النشرة، 14/8/2020، شوهد في 14/8/2020، في: https://bit.ly/3gcflZo
[17] Dion Nissenbaum & Ian Talley, “U.S. Prepares Sanctions Against Hezbollah’s Allies in Lebanon,” The Wall Street Journal, 12/8/2020, accessed on 15/8/2020, at: https://on.wsj.com/3l5ByMA