العنوان هنا
تقييم حالة 09 مارس ، 2022

تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا على الشرق الأوسط

جو معكرون

باحث في العلاقات الدولية، ومرشح لدرجة الدكتوراه في جامعة باث البريطانية. تتركز أبحاثه في السياسة الأميركية والعلاقات الدولية وتحليل النزاعات في الشرق الأوسط. يُولي دولَ المشرق العربي اهتمامًا بحثيًّا خاصًّا. باحث غير مقيم في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. عمل سابقًا في مركز مكافحة الإرهاب في ويست بوينت، ومركز كولين باول للدراسات السياسية في نيويورك. كما شغل عدة وظائف في منظمة الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي. حاصل على درجة الماجستير في العلاقات الدولية من جامعة نيويورك

لم تكتمل بعدُ ملامح الغزو الروسي لأوكرانيا. وعلى الرغم من ذلك، تظهر مؤشرات أولية متعلّقة بكيفية تعامل الحكومات العربية والإقليمية مع هذه الأزمة؛ في ضوء التحالفات التي بَنتها روسيا في العقد الأخير، ودينامية العلاقات الأميركية - الروسية. وأبعد من ذلك، الطبيعة المعقدة لهذا النزاع المسلح الذي يشتمل على عناصر مترابطة من المواجهة الاقتصادية والجيوسياسية، وعناصر أخرى مرتبطة بأسعار الطاقة وأنابيب الغاز وإمدادات القمح والممرات الاستراتيجية. فأين هو الشرق الأوسط من كل هذه التداعيات والتحولات؟

في البداية، هناك النطاق الأوسع لذلك الحراك العسكري. لقد كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين دائمًا يتحدى الهيمنة الأميركية ضمن الحدود المتاحة في النظام الدولي، الذي كانت تستفيد روسيا ونخبها من طبيعته الرأسمالية. إنّ غزو أوكرانيا لا يتعارض مع مبدأ عدم التدخل الذي يطبع الأدبيات الروسية الرسمية فقط، بل أعطى الولايات المتحدة الأميركية فرصةً استثنائية لتكريس تلك الصورة عن الرئيس بوتين من جهة أنه يقود نظامًا "مارقًا"، على الرغم من تكرار إقدام الولايات المتحدة، أيضًا، على الغزو العسكري خلال العقود الأخيرة. تمكنت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن من استباق حرب بوتين الأوكرانية قبل حدوثها عبر التحذير العلني منها؛ ومن ثمّ مهّدت الطريق لضغوط غربية عزلت روسيا اقتصاديًّا عن نظام العولمة، ورفعت تكلفة الهجوم على أوكرانيا. الهدف المعلن هو تغيير حسابات بوتين، لكنّ الهدف في الوقت نفسه هو ردع محاولات روسيا، على المدى الطويل، عن تحدي الأحادية الأميركية. وفي هذا السياق، توجد ثلاثة عوامل مؤثّرة على المستوى الإقليمي.

  • أولًا، يعزز هذا النزاع العسكري الانقسام بين الشرق والغرب، لا سيما التأثير في صورة بوتين بين مَن يراه في صُلب المواجهة مع الهيمنة الأميركية ومن يعتبر الخسائر في صفوف الجيش الروسي على الحدود الأوكرانية دليلَ ارتباكٍ. وإذا لم يتمكن بوتين من الحسم العسكري في أوكرانيا واستيعاب العزلة الاقتصادية، فإنّ هذا الأمر قد يُضعف "الهالة" التي اكتسبها منذ تدخله العسكري في سورية عام 2011؛ أي الفعالية العسكرية والدبلوماسية في تحقيق المصالح الروسية الاستراتيجية. والانطباع الإقليمي في تقييم خلاصة غزو أوكرانيا له تداعيات على النفوذ الروسي في المنطقة، ويؤثر تلقائيًّا في طبيعة تفاعل الحكومات الإقليمية مع روسيا أيضًا.
  • ثانيًا، يؤثّر انحسار القدرات المالية والاقتصادية لروسيا، عبر العقوبات، وإبعاد روسيا عن نظام "سويفت"[1]، الذي يدخل حيّز التنفيذ في 12 آذار/ مارس الحالي، سلبيًّا في نفوذ روسيا في المنطقة وقدرتها على التبادل التجاري والمناورة والاستثمار، وخصوصًا بشأن إعادة إعمار سورية والتعامل التجاري مع مصر ودول الخليج. لقد بلغ التبادل التجاري بين روسيا والدول العربية نحو 18 مليار دولار فقط خلال العام الماضي[2]، في حين بلغت الصادرات الأميركية إلى العالم العربي نحو 45 مليار دولار عام 2020[3]، وقد تضطر الحكومات العربية إلى التريث في إبرام عقود حكومية أو تجارية مع روسيا في المدى المنظور نتيجة النزاع في أوكرانيا.
  • ثالثًا، أثبت الغزو الروسي لأوكرانيا أنّ تحالفات روسيا الإقليمية هي تحالفاتٌ ظرفية في أغلبيتها، وأنّها ليست بالضرورة استراتيجية، وأنّ روسيا ليس لديها - بطبيعة الحال – مستوى قدرة الولايات المتحدة نفسه على التحفيز والعقاب خلال الأزمات الدولية.

حسابات الحياد الإقليمي

تجد الحكومات العربية والإقليمية التي كانت تراهن في المرحلة الأخيرة على استرضاء كل من الولايات المتحدة وروسيا نفسها مضطرةً إلى أَخْذ موقف ما من الغزو الروسي. فعلى سبيل المثال، في 2 آذار/ مارس 2022، صوتت 15 حكومة عربية لقرار إدانة روسيا في الجمعية العامة للأمم المتحدة[4] (مصر، والبحرين، والكويت، ولبنان، وليبيا، وموريتانيا، وعمان، وقطر، والسعودية، وتونس، والإمارات، واليمن، وجزر القمر، وجيبوتي، والصومال)، وامتنعت ثلاث حكومات عربية عن التصويت لهذا القرار (الجزائر، والسودان، والعراق)، في حين اعترضت سورية على إدانة روسيا، وفضّل المغرب ألّا يتخذ أيّ موقف. أما على صعيد شركاء روسيا الإقليميين، فقد كان تصويت تركيا مع الإدانة، في حين امتنعت إيران عن التصويت. قد تبدو هذه الإدانة لروسيا بأغلبية كبيرة دليلًا على صلابة الضغوط الأميركية، لكن الحكومات العربية والإقليمية المعنيّة تنازلت للولايات المتحدة من حيث الشكل في بيانات الإدانة التي لا تأثير فعليًّا لها، وتمسكت بالمضمون؛ أي عدم تحدي روسيا، وعدم اتخاذ إجراءات ضدها. ولهذا الحياد الإقليمي حساباته وحيثياته ودوافعه.

رفضت السعودية طلبًا أميركيًّا متعلّقًا بضخ المزيد من النفط للمساعدة في الحد من ارتفاع أسعار النفط الخام. لكنْ، في الوقت نفسه، لم تَرُدّ منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك)، التي تقودها السعودية، على قرار الولايات المتحدة وحلفائها في وكالة الطاقة الدولية بشأن ضخّ 60 مليون برميل من النفط[5]، من مخزونات الطوارئ لديها، لإمداد الأسواق العالمية بالنفط الخام؛ من أجل احتواء ارتفاع الأسعار. أمّا الإمارات، التي تترأس مجلس الأمن الدولي في آذار/ مارس الحاليّ، فقد امتنعت عن التصويت، في 25 شباط/ فبراير، لمشروع قرار أميركي يندّد بغزو أوكرانيا، ويطالب روسيا بالانسحاب، مقابل دعم روسيا لمشروع قرار إماراتي يصنّف الحوثيين جماعة إرهابيةً، ويوسع الحظر على إيصال الأسلحة إلى اليمن[6]. كانت الإمارات أكثر وضوحًا في أخذ مسافة من الموقف الأميركي، وهي تتمايز في سياستها الخارجية عن الولايات المتحدة منذ انتخاب بايدن، وقد تعزز هذا المسار في ظل التقارب الأميركي - القطري في عهد بايدن، بعد التقارب الأميركي - الإماراتي في عهد سلفه دونالد ترامب. من ناحية أخرى، برزت انقسامات داخلية في تونس والعراق ولبنان؛ حيث تزداد الضغوط على هذه الحكومات لتخرج من حيادها وتدين الغزو الروسي من جهة، أو حتى لا تنحاز إلى الموقف الأميركي من جهة أخرى. وعلى سبيل المثال، كان موقف لبنان الرسمي مع إدانة الهجوم الروسي على أوكرانيا نتيجة الضغوط الأميركية في ظل اعتراضٍ خجول من حزب الله وحلفائه؛ وهكذا، كان هذا الأمر بمنزلة تذكيرٍ جديد مفاده أنّ نفوذ روسيا في لبنان يبقى محدودًا.

لقد أخذت كلّ من تركيا وإيران وإسرائيل مسافةً من روسيا، من دون تحديد هذه المسافة. ووجد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي استفاد من تأزم العلاقة بين الولايات المتحدة وروسيا خلال السنوات الأخيرة، نفسَه أمام فرصةِ استفادةٍ استراتيجيةٍ من هذا النزاع مقابل عدم الإفراط في استفزاز الرئيس بوتين، مع ما قد يعنيه ذلك من تبعات وإجراءات روسية عقابية محتملة قد تستهدف أسس الاقتصاد التركي. إنّ تركيا تؤيد أوكرانيا في خطاباتها العلنية، وتوفر طائرات مسيّرة يستخدمها الجيش الأوكراني ليصدّ بها - بفعالية - الهجومَ الروسي، لكنّ تركيا نفسها، في الوقت ذاته، ترغب في تفادي ارتدادات الحرب على حدودها الشمالية، وترفض من ناحية أخرى - مقابل دعمها الضمني والعلني لأوكرانيا - فَرْض عقوبات على روسيا مثلما رفضت سابقًا الالتزام بالعقوبات الأميركية على إيران. ومن ثمّ، يحاول أردوغان تَرْك خطوط التواصل مفتوحة مع روسيا؛ إذ قال بعد اجتماع الحكومة التركية: "نقول إننا لن نتخلى لا عن أوكرانيا ولا عن روسيا"[7]، في موقف قد يكون من الصعب ترجمته سياسيًّا على وقع المواجهات العسكرية.

كانت إيران في حيادها واضحةً أيضًا؛ لسببين رئيسَين. أوّلهما أنّ روسيا لم تَقِف معها موقفًا حاسمًا في مواجهتها لإدارة ترامب والضغوط الأميركية التي مُورست عليها. أمّا ثانيهما، فهو متمثّل بأنّ الأولوية الإيرانية فوق كل اعتبار؛ وهي في الوقت الراهن إعادة إحياء الاتفاق النووي ورفع العقوبات الأميركية عليها، وهكذا فإنها لا تحتاج إلى مواجهة "مجانية" مع إدارة بايدن في مِثل هذا التوقيت الذي قد يعكّر صفوَ مفاوضات فيينا. إنّ رفض إيران محاولات روسيا تعطيل مفاوضات فيينا يُظهر، مرةً أخرى، المصالح والأولويات المتناقضة بين الطرفين، ويُظهر انعدام الثقة أيضًا، وذلك على الرغم من الشراكة الاستراتيجية التي تجمع بينهما. لقد برز تخبّط وانقسام داخلي في الموقف الإيراني بين توجيه اللّوم بشأن الأزمة الأوكرانية إلى الولايات المتحدة ومعاييرها المزدوجة من جهة، ومطالبة رسمية بوقف الهجوم الروسي وبيانات دعمٍ لأوكرانيا، مثل تغريدة الرئيس الإيراني الأسبق، محمود أحمدي نجاد، من جهة أخرى.

ثمّ إنّ روسيا، بعد أن دعمت الحكومة الإسرائيلية في بيان "وحدة وسيادة أوكرانيا وأراضيها"[8]، أعلنت عدم اعترافها بالاحتلال الإسرائيلي لمرتفعات الجولان. وعلى الرغم من أنّ هذه المواقف العلنية من الطرفين لا قيمة فعلية لها، فإنّ إسرائيل لم تذهب بعيدًا في إجراءاتها، ورفضت طلبًا متعلّقًا بإرسال أسلحة ومعدات عسكرية إلى أوكرانيا، وهو رفضٌ يعود إلى أسباب داخلية إسرائيلية. لكن الهاجس الرسمي الإسرائيلي هو أنّ إسرائيل إنْ صارت طرفًا مع أوكرانيا فإنّ روسيا قد تَرُدّ عبر الحدِّ من تحركها الجوي فوق الأراضي السورية لردع إيران وحلفائها. [9]

انعكاسات على الحراك الإقليمي

في ظل هذه الحسابات، تبرز تأثيرات محتملة في دينامية المنطقة. فالحكومات الإقليمية ترتب أوراقها منذ انتخاب بايدن، وتبادر وحدها بحوارات ثنائية لخفض التوتر فيما بينها. أمّا تركيا، فقد فتحت قنوات اتصال مع مصر والإمارات وإسرائيل. هناك حوار بين قطر ومصر، وبين السعودية وإيران. وهكذا، فإنّ هذه الحكومات لا تريد أن يؤثّر الهجوم الروسي على أوكرانيا سلبيًّا في هذه الدينامية عبر إيجاد استقطابات جديدة. ولا يبدو أنّ بعض الحكومات العربية ترغب في رؤية هزيمة روسية في أوكرانيا؛ ما قد يكرّس نفوذ الولايات المتحدة، ويجعل من الصعب الاعتماد على غيرها لتنويع التحالفات. أبعد من ذلك أنّ الولايات المتحدة، تقُوم بردعٍ وعزلٍ لروسيا التي تتحالف معها حكومات عربية، لكنها تتجه إلى اتفاق نووي محتمل قد ينهي عزلة إيران الاقتصادية؛ ما يعني أن التركيز الأميركي لا يتوافق مع أولويات الحكومات العربية التي ترى روسيا رادعًا لإيران وأن إضعاف روسيا لا يحقق أهدافها هذه.

لقد أظهر الهجوم الروسي على أوكرانيا هشاشة تحالف "أستانة" في سورية الذي يضم روسيا وتركيا وإيران. وقد تستفيد تركيا وإيران من عزلة روسيا الاقتصادية؛ لأنّ الأخيرة ستضطر إلى الشراكة التجارية معهما، وستضطر أيضًا إلى التسوية معهما في مناطق النزاع التي تتشارك فيها هذه الدول. وسقوط حكومة الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي هو عمليًّا سيطرةٌ لروسيا على كامل الشاطئ الأوكراني؛ ما يعني إحكام سيطرتها على البحر الأسود، فضلًا عمّا في هذا الأمر من تحدٍّ لتركيا؛ وفي هذه الحال، ستكون تحت سيطرة روسيا قواعد بحرية في سيفاستوبول وشبه جزيرة القرم وطرطوس. إنّ تركيا تتعاون مع روسيا في أكثر من ملف إقليمي، لكنها تنافسها في سورية وليبيا وأذربيجان، وفي الوقت الراهن أصبحت تركيا فاعلةً في أوكرانيا أيضًا، وربّما لا يتجاوز بوتين بسهولة قرار أردوغان المتمثّل ببيع طائرات مسيّرة للجيش الأوكراني. وبعد انتهاء الهجوم العسكري على أوكرانيا، قد يكون موقفُه أقل مرونةً مع تركيا فيما يتعلق بإدلب، لكن روسيا غير قادرة حاليًّا على فتح جبهتين، وأصبحت وضعيتها الدولية أكثر هشاشة. بيد أنّ هذا لن يمنع بوتين من تحقيق أهداف تضرّ بالمصالح التركية؛ على غرار مَنْعه 16 سفينةً تركية محمّلة بزيت دوار الشمس الخام من العبور من خلال البحر الأسود[10]؛ ما قد يؤدي إلى نقصٍ من هذه السلعة في السوق التركية، وهو ما قد ينعكس حتى على المناطق السورية التي تخضع للسيطرة التركية. لكن، بشكل عامّ، أصبح بوتين يحتاج إلى أردوغان أكثر من احتياجه إليه من قبلُ، باعتبار أن تركيا لم تفرض عقوبات على روسيا، ثمّ إنّها قد تساعدها على كسر عزلتها، لا سيما مع احتمال هجرة رؤوس الأموال الروسية والسياح إلى تركيا هربًا من العقوبات. ولذلك، من المستبعد أن يؤدي التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا لإعادة تموضع تركي كامل إلى جانب الغرب.

وإذا فشلت جهود إعادة إحياء الاتفاق النووي في الفترة المقبلة، سيتعزز تقارب إيران مع روسيا. وفي حال التوصل إلى تسوية، ستأخذ إيران - على الأرجح - مسافة من روسيا. أمّا الولايات المتحدة، في هذه الحال نفسها، فقد تكون مضطرة إلى أن تردع كلًّا من روسيا وإيران على نحو متوازنٍ؛ ذلك أنهما قد يمارسان الضغوط على إدارة بايدن في مناطق النزاع في الشرق الأوسط لدفعها إلى طاولة المفاوضات. لهذا السبب، قد يعطي الهجوم الروسي على أوكرانيا إدارةَ بايدن حافزًا لإنجاز اتفاق نووي مع إيران بحدٍّ أدنى؛ على نحو لا يفتح معركةً داخلية أميركية في حالِ تنازل الولايات المتحدة لإيران "أكثر مما يلزم" ضمن معايير التفاوض الأميركي. أمّا إذا لم يحقق بوتين أهدافه في أوكرانيا، فإنّ هذا الأمر قد يدفع تركيا وإيران وإسرائيل لاختبار روسيا في سورية عند الضرورة، لا سيما في ظل الترابط المتزايد بين الساحتين السورية والأوكرانية.

سياسات الطاقة والأمن الغذائي

إنّ سياسات الطاقة والأمن الغذائي والممرات الاستراتيجية جزءٌ رئيسٌ من حسابات الغزو الروسي لأوكرانيا وتداعياته. وقد انعكس الحياد العربي في المجال النفطي أيضًا. ومن ثمّ، فإنّ أسعار النفط ستبقى مرتفعة في المدى المنظور نتيجة تمسك السعودية باتفاق "أوبك بلس" مع روسيا الذي رعته إدارة ترامب في نيسان/ أبريل 2020. وقد انعكس هذا الحياد، أيضًا، على المضائق الاستراتيجية التي لم يجرِ إغلاقها بشكل مباشر أمام حركة الملاحة الروسية. طبقت تركيا بنود "اتفاقية مونترو"، ومنعت كل السفن الحربية من عبور البوسفور والدردنيل، في حين ضمنت مصر حيادية قناة السويس وعدم إغلاقها في وجه السفن العسكرية أو سفن الشحن الروسية، المصدرة أو المستوردة، إذ ليس ثمّة حالة عداء بين روسيا ومصر.

أمّا أبرز التداعيات على المدى الطويل، فهي متعلّقة بقطاع الغاز. فمع توقّف مشروع "نورد ستريم 2"[11]، وهو مشروع يربط الغاز الروسي بألمانيا عبر أوكرانيا بسبب العقوبات الأميركية وسحب الولايات المتحدة دعمها لمشروع أنبوب "إيست ميد" الذي عارضته تركيا، وينقل غاز شرق المتوسط من إسرائيل عبر قبرص - اليونان إلى إيطاليا، قد يفتح الهجوم الروسي على أوكرانيا احتمالات جديدة لأنابيب الغاز إلى أوروبا. ثمّ إنّ من دوافع التزام تركيا الحياد بين روسيا وأوكرانيا إبقاء جسور التواصل مع الأوروبيين، ومحاولة ضمان سيناريو عبور غاز شرق المتوسط إلى أوروبا عبر تركيا بدلًا من اليونان، أمّا في حالِ كَسْب بوتين رهانه وسقوط مشروع "نورد ستريم 2" نهائيًّا فهناك أيضًا خط "تورك ستريم" الذي يربط روسيا بتركيا، والذي يمكن وصله بأوروبا.

إنّ إيران أيضًا جاهزة لملء فراغ الغاز الروسي في حال ازدياد عزلة بوتين الدولية وتحوّله إلى عبْءٍ على حلفائه. وبعد أن استفادت روسيا، على امتداد فترة طويلة، من العقوبات الأميركية والدولية على إيران، قد تنعكس الأمور؛ فتصبح إيران هي المستفيدة من عزلة روسيا المستجدة في حال إعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني. وإذا صحّت تقديرات احتياط الغاز في حقل "تشالوس" للغاز في بحر قزوين، فإنّ إيران ستكون قادرة، على المدى الطويل، على نزع أوراق ضغط قوية من أيدي روسيا في تعاملها مع تركيا والاتحاد الأوروبي، إنْ قررت التنافس مع روسيا في تصدير الغاز؛ ما قد ينعكس سلبيًّا على العلاقات الثنائية بينهما. لكن إيران تحتاج إلى ترتيبات لوجستية ودبلوماسية قد تستغرق وقتًا لنقل الغاز إلى أوروبا التي لا يمكن أن يصمد اقتصادها طويلًا في حال توقّف إمدادات الغاز الروسي. وفي المدى المنظور، لا يبدو أنّ إيران راغبة في إعلان هذا التحدي، في ذروة المعارك الروسية، أو أنها قادرة على ذلك. وحتى تركيا، ستُبقي - على الأرجح - سياسة استيراد الغاز من روسيا وإيران؛ حتى تنوّع مصادر الطاقة، وحتى لا تصبح معتمدة على أيّ طرف منهما بشكل كامل.

لقد زار وزير الخارجية الإيطالي، لويجي دي مايو، الجزائر[12]، في 28 شباط/ فبراير الماضي، في محاولة لزيادة إمدادات الغاز من شمال أفريقيا عبر أنبوب "ترانس ميد" الذي يربط إيطاليا بالجزائر عبر تونس؛ خشيةَ تراجعِ إمدادات الغاز الطبيعي الروسي، لكن الجزائر غير قادرة على مَلْء فراغ الغاز الروسي في أوروبا في المدى المنظور. إنّ الجزائر تصدّر لإيطاليا حاليًّا نحو 22 مليار متر مكعب من الغاز في أنبوب قادر على ضخّ 32 مليار مكعب كحد أقصى سنويًّا[13]، في حين استوردت أوروبا من روسيا نحو 168 مليار متر مكعب عام 2020.

من جهة أخرى، تتفاوت التداعيات الاقتصادية بين البلدان العربية. توجد آثار سلبية للنزاع في أوكرانيا متعلّقة بالأمن الغذائي في مصر وتونس ولبنان، مقابل فوائد اقتصادية لمجلس التعاون لدول الخليج العربية والعراق. وقد عطّل الهجوم الروسي على أوكرانيا إمدادات الطاقة والقمح في العالم العربي؛ ما يعني ارتفاعًا في أسعار النفط والخبز قد تؤدي إلى اضطرابات اجتماعية في بعض البلدان العربية إنْ طالت الأزمة، لا سيما في مصر؛ حيث تعتمد أغلبية المصريين على الخبز المدعوم من الحكومة. أمّا المشرق العربي فهو يتخبط في أزمات متتالية. فالحكومة اللبنانية - على سبيل المثال - ليس لديها ما يكفي من القمح المُخزَّن، ثمّ إنها اضطرت إلى رفع سعر المحروقات. وفي ظل العقوبات والاعتماد الاقتصادي على روسيا، ثمّة تأثير مباشر في سورية أيضًا. فإذا طالت الأزمة، ستنشأ حاجة ملحّة إلى إيجاد بدائل في البلدان العربية التي تستورد القمح من روسيا وأوكرانيا.

من ناحية أخرى، يبدو تأثير النزاع في أوكرانيا محدودًا بالنسبة إلى العراق؛ لأنه يستورد القمح، منذ عام 2003، من أستراليا وكندا والولايات المتحدة، في حين أنه يستورد الغاز من إيران ضِمن أسعار محددة في عقود، وضِمن استثناء أميركي من العقوبات؛ وذلك في وقت يستفيد فيه العراق من ارتفاع أسعار النفط، بالنظر إلى أنّه من الدول المصدِّرة له، مثل السعودية التي تستفيد من زيادة أسعار النفط أيضًا، وهذا الأمر سينعكس إيجابيًّا على مجمل دول مجلس التعاون، وسيعوضها عن خسائر مالية سابقة. ومن البلدان المستفيدة اقتصاديًّا أيضًا تركيا، وإيران التي قد يتعزز التبادل التجاري معها على الرغم من العقوبات الأميركية، أمّا الإمارات فقد تُعزِّز دورها بوصفها مركزًا ماليًّا وتجاريًّا للمستثمرين الروس.

خاتمة

في الحصيلة، كان الهجوم الروسي على أوكرانيا اختبارًا لنفوذ الولايات المتحدة وروسيا في الشرق الأوسط، وكان تذكيرًا، أيضًا، بأن المنطقة لا تزال ضمن الفلك الأميركي، على الرغم من الانتكاسات الأميركية في العراق وسورية وأفغانستان. وفي هذا السياق، لا يمكن الحديث عن موقف عربي مُوحّد أو حيادٍ عربيٍّ، لكن حياد الدول العربية يبدو هو العنوان في التعامل مع التوتر الأميركي - الروسي المستجد الذي لم يعُد مرتبطًا بالشرق الأوسط، بل أصبح أزمة دوليةً لا تريد الأنظمة العربية أن تكون طرفًا مباشرًا فيها؛ وهكذا، فإنّ كل حكومة تُعنى بمصالحها لتفادي الضغوط الخارجية في ذلك النزاع القائم.

ومن علامات الحياد الإقليمي وجودُ ثلاث وساطات من المنطقة لتقريب وجهات النظر بين روسيا وأوكرانيا؛ وهي وساطات إسرائيلية، وسعودية، وتركية، على الرغم من أن ظروف التسوية لم تنضج بعد. يُعدُّ هذا الحياد الإقليمي أيضًا نتيجةً لعدم معرفة مصير المعارك العسكرية، لا سيما مصير العاصمة كييف؛ ومن ثمّ، قد تتبدل المواقف الإقليمية مع التطورات الميدانية والضغوط الأميركية، مثلما برزت تعديلات خلال الأيام الأخيرة في الموقفَين السعودي والإماراتي عبر الاتصال مع زيلينسكي. إنّ العلاقات الأميركية - السعودية معقّدة منذ انتخاب بايدن. ومن دون تطبيع هذه العلاقة، لا يرجح أن تتجاوب السعودية مع الطلبات الأميركية فيما يتعلق بروسيا أو أي ملف آخر. وفي هذا السياق، تكثّف إدارة بايدن اتصالاتها مع القيادة السعودية، لكن ما تريده السعودية - فيما يبدو - هو تواصلٌ أميركي مباشر رفيع المستوى مع ولي العهد محمد بن سلمان.

إنّ الغزو الروسي لأوكرانيا لا يلغي انطباعًا عربيًّا رسميًّا مفاده أنّ الولايات المتحدة تتراجع طوعًا في المنطقة؛ فهي تنسحب من أفغانستان، وتستعد لاتفاق نووي مع إيران، ولا تدافع بشكل مباشر عن السعودية والإمارات ضد هجمات الحوثيين. وعلى الرغم من هذا الحياد العربي، لا يزال الشرق الأوسط، على نحو حاسم، ضِمن الأحادية الأميركية في كل جوانب العولمة؛ من تبادلٍ تجاري، وأنظمة مالية، وصفقات أسلحة. لكن الحياد الإقليمي لا يقتصر على الرغبة في عدم التدخل في الأزمة الأوكرانية، بل إنه يشتمل أيضًا على الرغبة في عدم رؤية أيّ طرف في النزاع الأميركي - الروسي غالبًا أو مغلوبًا.


[1] Philip Blenkinsop, “EU bars 7 Russian banks from SWIFT, but spares those in energy,” Reuters, 3/3/2022, accessed on 5/3/2022, at: https://reut.rs/35Qpf3s

[2] "حجم التبادل التجاري بين روسيا والدول العربية بلغ 18 مليار دولار عام 2021"، الاقتصاد، 27/1/2022، شوهد في 7/3/2022، في: https://bit.ly/3HSWIr7

[3] National US-Arab Chamber of Commerce, “Pandemic sinks exports to Arab world by 27 percent in 2020 to $45.66 billion,” 16/2/2021, accessed on 4/3/2022, at: https://bit.ly/3hLHlGp

[4] Emily Ferguson, “Which countries abstained from UN vote on Ukraine? Result of General Assembly’s resolution on Russia explained,” Inews, 3/3/2022, accessed on 4/3/2022, at: https://bit.ly/3hHHrif

[5] Benoit Faucon & Summer Said, “U.S., IEA Agree to Release 60 Million Barrels From Oil Stockpiles Amid Ukraine Turmoil,” The Wall Street Journal, 1/3/2022, accessed on 4/3/2022, at: https://on.wsj.com/3vKkq6P

[6] Barak Ravid, “UAE abstained from UN Security Council vote due to U.S. response to Houthi attacks,” Axios, 2/3/2022, accessed on 5/3/2022, at: https://bit.ly/35VZvm5

[7] "أردوغان: نواصل مبادراتنا الدبلوماسية لإحلال السلام بين روسيا وأوكرانيا"، وكالة الأناضول، 28/2/2022، شوهد في 7/3/2022، في: https://bit.ly/34kga2z

[8] Jonathan Lis and Sam Sokol, “In First Official Statement, Israel Says It Supports Ukraine's Territorial Integrity, Sovereignty,” Haartez, 23/2/2022, accessed on 5/3/2022, at: https://bit.ly/3MvTeyA

[9] David S. Cloud, Benoit Faucon & Summer Said, “U.S. Diplomatic Push for Ukraine Falters in a Middle East Influenced by Russia,” The Wall Street Journal, 3/3/2022, accessed on 5/3/2022, at: https://on.wsj.com/3ttmEV6

[10] "روسيا تمنع عبور 16 باخرة شحن تركية في بحر ’آزوف‘"، زمان التركية، 4/3/2022، شوهد في 7/3/2022، في: https://bit.ly/3tDjq1l

[11] Alexander Gladstone, “Nord Stream 2 Gas Pipeline Lays Off All Employees,” The Wall Street Journal, 1/3/2022, accessed on 4/3/2022, at: https://on.wsj.com/3HOhVCD

[12] Stephen Jewkes & Angelo Amante, “Italy to get more gas from Algeria, foreign minister says,” Reuters, 28/2/2022, accessed on 5/3/2022, at: https://reut.rs/35FGQLA

[13] Kelesto Moilwe, “Algeria is Prepared to Fulfil Europe’s Gas Demand,” Energy Capital & Power, 2/3/2022, accessed on 5/3/2022, at: https://bit.ly/378FlpP