العنوان هنا
تحليلات استراتيجية 26 أكتوبر ، 2020

الجدار الناري لنظام السيسي

استراتيجيات القمع السيبراني ومستقبل المساحات السيبرانية في مصر

مصطفى السيد

باحث، المركز العربي لدراسات القانون والمجتمع بباريس. متخصص في الأنثروبولوجيا البصرية ودراسات السينما والاجتماع، ومهتم بتحليل استراتيجيات القمع السيبراني وعلاقات القوة - المقاومة في مجتمعات ما بعد الحداثة، والدور الذي يؤديه تطور تكنولوجيا التواصل في تشكيل ثقافة المجتمع ومقاومة الاستبداد

مقدمة

استيقظ نظام حسني مبارك الحاكم، في 25 كانون الثاني/ يناير 2011، على أسوأ كوابيسه؛ فآلاف المواطنين في الشوارع يتظاهرون استجابةً لدعوة إلكترونية انطلقت على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك. كان من الواضح تخبّط النظام في التعامل مع المتظاهرين بسبب عدم التزامهم بأشكال التنظيم التقليدية التي تعرف الدولة كيف تكبحها. حاولت الحكومة الحجب الجزئي للإنترنت قبل أن تقطعها تمامًا، إضافة إلى قطع كل خدمات الاتصال اللاسلكية بعد ثلاثة أيام من انطلاق المظاهرات.

بعد انقضاء قرابة العقد على هذه الأحداث، وفي أيلول/ سبتمبر 2020، انطلقت دعوات للتظاهر على مواقع التواصل الاجتماعي ضد النظام الجديد، لم تلقَ هذه المرة الاستجابة نفسها. وعلى الرغم من رد الدولة الشديد في المساحات الواقعية، كالقبض الاستباقي على عدد من الناشطين وتفريق المظاهرات والقبض على عشرات المواطنين، فإنها قدّمت أداء مختلفًا جذريًا عمّا قدّمته منذ 9 سنوات على الإنترنت؛ إذ حاولت أجهزة الدولة مخاطبة المواطنين عبر منصات الدولة المختلفة على الإنترنت، التي يتابعها ملايين المواطنين. كما حاولت، بمساعدة شركة المتحدة للخدمات الإعلامية المملوكة لجهاز المخابرات العامة[1]، توجيه رأي المواطنين عبر مقاطع فيديو وإرسالها إلى المنصات الإعلامية المعارضة، ثم كشف اختلاقها بعد إذاعتها.

بيّن هذان الحدثان تطورًا واضحًا في تعامل الدولة المصرية مع المساحات السيبرانية، سنحاول في هذا التحليل الاستراتيجي تسليط الضوء على هذا التطور عبر تفكيك خمس استراتيجيات رئيسة استخدمها النظام الحاكم، تمثّل ما يمكن تسميته الجدار الناري لنظام السيسي، واستقراء مستقبل النشاط السياسي السيبراني في مصر.

الاستراتيجية الأولى: الحجب

يمكن القول إن المحرك الرئيس للأحداث إبّان ثورة يناير 2011 كان الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي. لم يكُن نظام مبارك الحاكم وقتها يعرف أن مواطنيه قد خلقوا مجالًا عامًا جديدًا بعيدًا عن المساحات الفيزيائية، ولم تدرك أجهزته حينئذ ماهية المساحات السيبرانية ومدى استطاعتها خلق قوة أو تأثير سياسي، خاصة بعدما قامت الدولة، ممثلة في نظام مبارك، باحتلال كل متر من أرض الدولة الفيزيائية عبر هيكل هرمي (هيراركي) تتوزع فيه السلطة على الأجهزة الأمنية والحزب الحاكم، وملايين من المواطنين المنتفعين أو المتعاونين معهما على نحوٍ يبدو مستقرًا.

أدت الثورة، التي بدأت الدعوة إليها على موقع فيسبوك، إلى صدمة في الدولة العميقة التي اضطرت إلى قطع الإنترنت عن كامل البلاد، وشلّ الاقتصاد تمامًا في 28 كانون الثاني/ يناير 2011 المعروف بـ "جمعة الغضب". وكان من الواضح للمراقب قلّة حيلة النظام وأدواته أمام هذا "المارد" المسمّى الإنترنت.

ولكن يمكن ملاحظة أن تعامل الدولة مع الإنترنت أخذ اتجاهًا مختلفًا منذ صعود عبد الفتاح السيسي إلى سدة الحكم؛ فالنظام الحاكم الجديد أدرك أهمية تحديث ترسانته كي يستطيع التعامل مع الإنترنت وما تسببه من مشاكل.

أبدى الرئيس المصري انزعاجه من المساحات السيبرانية المفتوحة عدّة مرات، وهدد خلال لقاء جمعه بعدد من "المثقفين" بقوله "أنا ممكن بكتيبتين أدخل على النت وأعملها دائرة مقفولة والإعلاميين ياخدوا أخبار وشغل منها"[2].

ورغم صعوبة تخمين مقصد الرئيس في هذه العبارة تحديدًا، فيبدو أنه كان يرى أن سبب مهاجمته على مواقع التواصل الاجتماعي هو الأخبار ومصادرها المختلفة، وكان يهدد بأن يكون النظام الحاكم هو المصدر الوحيد والحصري للأخبار في مصر. ويبدو أن تشخيصه للمشكلة على هذا النحو المسطح قد أثمر فشلًا خلال السنوات السابقة؛ فبنهاية عام 2015 كان السيسي قد ضمّ إلى ترسانته تكنولوجيا لحجب مواقع الويب أهدته إياها الإمارات العربية المتحدة بتعاقد مع شركة "أمسيس" الفرنسية التي كان قد تعهّد الرئيس الفرنسي السابق، فرانسوا هولاند، بأنها "لن تبيع أسلحة رقمية لحكومات دكتاتورية"، لكن الشركة الفرنسية تحايلت على هذا الوعد وقدمت للنظام المصري التكنولوجيا والأجهزة على كل حال[3].

بدأ النظام المصري في السيطرة على وسائل الإعلام المحلية عبر شركات خاصة مملوكة للمخابرات، بالتوازي مع حجب موقع "العربي الجديد" الإخباري الذي يبث من لندن، ليتبعه العديد من المواقع الإخبارية والخدمات التي قد تساعد في تجاوز الحجب على هذه المواقع. ولكن واجهت الحجب صعوباتٌ عديدة؛ فأولًا يستطيع المستخدم متوسط المهارة التقنية استخدام مئات الوسائل المختلفة لتخطّي الحجب المفروض من الدولة على المواقع الإخبارية، ولذلك يصبح الحجب غير فعال بالنسبة إلى عدد كبير من المواطنين. ثانيًا، افتقار مصر إلى البنية التحتية اللازمة لتقديم بدائل رقمية فعّالة من الخدمات العالمية التي قد تحتاج الدولة إلى حجبها ليصبح هذا الحجب فعالًا.

يقدم موقع "مدى مصر" الإخباري المستقل مثالًا جيدًا لفهم عدم فاعلية الحجب؛ إذ اتّبع الصحافيون وسائل مختلفة لمواصلة تقديم تغطيتهم للقراء، فهم يقومون بنشر المقالات كاملة عبر موقع فيسبوك، الموقع نفسه الذي يعتمد عليه ملايين المصريين للتواصل والذي يعتمد عليه آلاف البائعين والمسوقين وغيرهم لكسب عيشهم. ونظرًا إلى افتقار الدولة إلى بديل محلي يمكن السيطرة عليه، يصبح حجب فيسبوك أمرًا صعبًا قد يؤثر سلبيًا في اقتصاد البلاد. ويقوم الموقع أيضًا بتقديم نسخة أخرى يمكن المواطنين داخل مصر تصفحها ويصعب حجبها لأنها ترتبط بإحدى خدمات محرك البحث "غوغل"[4].

وبطبيعة الحال، ليس هذا إنكارًا أن الحجب قد أثر تأثيرًا كبيرًا في حجم الصحافة المستقلة على الإنترنت ومحتواها، ولكن يظلّ الحجب (وحده على الأقل) عاجزًا عن تحقيق هدف الدولة في تحييد الإنترنت عن عملية خلق الرأي العام المصري.

وبعيدًا عن فاعلية الحجب على المستوى التقني، فإن الفلسفة وراءه تظل قاصرة وعاجزة عن فهم أن المشكلة تكمن في غياب سلطة الدولة القومية في المساحات السيبرانية نفسها، حيث تقدم الإنترنت للمواطنين مساحة يستطيعون فيها التعبير على نحوٍ حر بعيدًا عن سلطة الدولة في الضبط والعقاب، وتصبح أيديولوجيا الدولة عاجزة عن التحكم في أفكار المواطنين خلال رحلتهم اليومية في المساحة السيبرانية التي يتعرضون خلالها لكمٍّ ضخم من المعلومات والأفكار العابرة للقوميات.

الاستراتيجية الثانية: التضليل والأخبار الكاذبة

يبدو أن النظام فهم أن تقنيات الحجب ربما توجّه أضرارًا للمساحات السيبرانية وتحييد بعض اللاعبين فيها، إلّا أن العديد من الجهات الفاعلة في المساحة السيبرانية ستظل فاعلة ما دامت الإنترنت متصلة بمساحات عالمية، ولذلك حاول النظام أن يكون هو من يخلق الرأي العام على الإنترنت. وتشير تقارير إعلامية عديدة، في هذا الصدد، إلى ما يسمّى "اللجان الإلكترونية"، وهي مجموعات تابعة لنظام السيسي تقوم بالترويج لوجهات نظره على الإنترنت، خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي. ولكن أود التركيز، في هذا السياق، على الشركة المصرية التي أوقف فيسبوك نشاطها مطلع آب/ أغسطس 2019 وتسمّى "نيو ويفز". ووفقًا للبيان الرسمي لفيسبوك، فإن هذه الشركة بالتعاون مع شركة تسمى "نيو وايف" في الإمارات تقومان بالترويج للأخبار الكاذبة لتشكيل الرأي العام وفقًا لأجندات سياسية بعينها في عدد من الدول العربية، من بينها الترويج لأجندة مؤيدة لنظام السيسي في مصر ومعادية لقطر وتركيا[5]. يترأس الشركة المصرية ضابط جيش سابق كان يدير عددًا من الصفحات المختلفة على موقعَي فيسبوك وتويتر تصل إلى ملايين المصريين، وتقدم عادةً الأخبار الكاذبة والآراء السياسية ضمن أنشطة أخرى مثل نشر الصور المضحكة أو غيرها[6].

وعلى الرغم من أن الشركة حاولت استئناف نشاطها، فإن فيسبوك أعاد إغلاقها في آذار/ مارس 2020. وبناءً على تحليل الباحث لبيانات الشركة التي أتاحها فيسبوك حصرًا للباحثين وصنّاع القرار السياسي، تمكّن من تحديد هوية ثلاثة من أصل خمسة أشخاص عاملين في الشركة كشفت عنهم البيانات، بينهم ضابط الجيش السابق ومدير الشركة، ويمكن ملاحظة أن هؤلاء الأشخاص قد انتقلوا سريعًا إلى العمل في جهات أخرى تابعة للدولة، كالمجلس القومي للمرأة، بوصفهم مديرين لحسابات هذه الجهات على مواقع التواصل الاجتماعي.

وإجمالًا، يمكن القول إن خطة نظام السيسي لتشكيل الرأي العام عبر الأخبار الكاذبة لم تحقق النجاح بالقدر المطلوب، إضافةً إلى الضربات المتتالية التي تلقّاها النظام من فيسبوك وتويتر تجاه هذه الأنشطة.

الاستراتيجية الثالثة: الحصار

لم تفلح هذه المجهودات الحثيثة في كبح موجات غاضبة متتالية تحولت من المساحات السيبرانية سريعًا إلى أرض الواقع. ولعل من أهمها الأحداث التي تبعت قضية التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير، إضافة إلى الحركة التي تسبّب فيها المقاول والسياسي المنشقّ محمد علي بعد نشره عددًا من الفيديوهات عرض فيها شهادته حول علاقته بالنظام المصري على فيسبوك، اندلاع موجة احتجاجية ضخمة في أيلول/ سبتمبر 2019.

أظهرت الموجة الاحتجاجية وفيديوهات محمد علي قلق نظام السيسي الذي استخدم إحدى القنوات المملوكة للمخابرات لحذف الفيديو من على الإنترنت عبر ادعاء أن حقوق ملكيته الفكرية تعود لهذه القناة، الأمر الذي جعل المواطنين يترقبون مشاهدة الفيديو ومتابعة صاحبه الذي قام بتصوير فيديوهات أخرى.

في 12 تشرين الثاني/ نوفمبر، أصدر النائب العام المصري القرار رقم 2376 لسنة 2019 بتشكيل مكتب "البيان والتوجيه والتواصل الاجتماعي" الذي سيقوم بإنشاء حسابات على مواقع التواصل، ويعمل بمنزلة برج مراقبة للمساحات السيبرانية. وتخبرنا كتابات ميشيل فوكو عن سلطة الدولة القومية في استعمال الضبط والعقاب للتحكم في أفكار المواطنين. ووفقًا لفوكو، فإن السجون ليست مكانًا معزولًا يسكنه المجرمون فقط، بل هي فكرة تقبع في عقول المواطنين، على نحوٍ يعطي الدولة القوة الكافية لتطبيع سلوكيات بعينها في المجتمع، وهو بالضبط ما تسعى إليه آخر استراتيجيات السلطة لتحييد المساحة السيبرانية من المجال العام.

وقام مكتب "البيان والتوجيه والتواصل الاجتماعي" والمجلس القومي للمرأة وغيرهما من مؤسسات الدولة المستقلة نظريًا عن السلطة التنفيذية، بتكثيف التفاعل المباشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي مع الرأي العام، وقامت بتشكيله أيضًا في بعض الأحيان.

اشتهر مكتب "البيان والتوجيه والتواصل الاجتماعي" بعد القضية التي عُرفت إعلاميًا بقضية فتيات تيك توك، حيث قامت النيابة العامة بالقبض على عدد من الفتيات المشهورات على تطبيق تيك توك الشهير بتهمة "الاعتداء على قيم ومبادئ الأسرة المصرية والمجتمع". وفي نيسان/ أبريل 2020 نشرت صفحة المكتب بيانًا من مكتب النائب العام يرسم معالم الاستراتيجية الجديدة للدولة المصرية في فرض سلطتها في الضبط والعقاب عبر المساحات السيبرانية.

ووفقًا للبيان، فإن هذه القضية قد استحدثت للدولة القومية المصرية "حدودًا سيبرانية رابعة" إلى جانب الحدود الجوية والبحرية والبرية، ورأى مكتب النائب العام أن هذه الحدود "تؤدي بنا حتمًا إلى تغييرات جذرية في سياسة التشريع والضبطيات الإدارية والقضائية، حيث أصبحنا أمام حدود جديدة سيبرانية مجالها المواقع الإلكترونية، مما يحتاج إلى ردع واحتراز تام لحراستها كغيرها من الحدود"[7].

قام المكتب بعدها بتعيين نفسه حارسًا على هذه الحدود، حيث أثارت النيابة العامة عددًا من القضايا التي استهدفت صنّاع المحتوى على مواقع التواصل الاجتماعي. واختلف شكل هذه القضايا تجاه هؤلاء الصنّاع سواء بسبب إبدائهم آراء سياسية مخالفة للنظام، أو بسبب مخالفتهم ما تراه النيابة من مبادئ وقيم للأسرة المصرية.

وأخذ المكتب أيضًا يتحرك ويتفاعل مع عدد من القضايا التي شغلت الرأي العام على هذه المواقع، كقضايا الاغتصاب والتحرش الجنسي التي نُشرت شهادات عنها على نحو مجهول على الإنترنت. وتفاعلت حسابات المجلس القومي للمرأة أيضًا معها[8].

وبعيدًا عن تقييم مدى إيجابية الحلول التي قدمتها الجهات في هذه القضايا، ما يهمّنا هو الاستراتيجية التي اتّبعتها هذه الجهات في هذه القضايا لخلق الوعي الجمعي بامتداد سلطة الضبط والعقاب للدولة لتشمل المساحات السيبرانية أيضًا، وتحاول الدولة عبر هذه الاستراتيجية تطبيع نموذج للتصرفات يجعل المواطن يفكّر قبل مشاركة ما يكتبه مشاركة عامة على الإنترنت.

يعمل مكتب النائب العام باعتباره برجَ مراقبة مركزيًا في نموذج سجن "بانوبتيكون" الشهير[9]. ولا يمكن نظريًا حجب مواقع التواصل الاجتماعي أو مراقبة كل ما يُنشر عليها، ولكن في سجن "بانوبتيكون" لا يعرف السجناء متى يخضعون للمراقبة تحديدًا، ولذلك تمثّل عشوائية الاستهداف في هذه القضايا عاملًا مهمًا لخلق هذا الشعور لدى المواطنين.

الاستراتيجية الرابعة: الرقمنة

إضافة إلى ما سبق، تحاول الدولة المصرية فرض الرقمنة عبر أجهزتها وتمويل برامج للشمول المالي، وتقدّم الآن العديد من الخدمات للمواطنين عبر الإنترنت. وأطلقت الحكومة المصرية، أيضًا، برنامج المدفوعات الحكومية عبر النقود البلاستيكية في أيار/ مايو 2020 تزامنًا مع إطلاق بطاقات الدفع المسبق للخدمات الحكومية المعروفة باسم "ميزة"، فضلًا عن تطوير بنية الإنترنت والاتصالات المصرية وتحويل الكابلات إلى نظام الفايبر العالي السرعة.

سيعطي هذا الانتشار في الرقمنة الدولة المصرية ميزة إيجابية تجعلها أكثر قدرة على مراقبة المواطنين في المساحات السيبرانية على نحو أكبر، وستعطي البنية التحتية قدرة أكبر على تقديم خدمات بديلة للمواطنين، حيث يصبح الحجب أشد فاعلية. وقد بدأت الدولة المصرية بالفعل في بناء المنصات والتطبيقات الخاصة بها في مجالات أخرى غير التطبيقات الحكومية؛ فمثلًا أُطلق تطبيق Watch it الترفيهي لمشاهدة الأفلام والبرامج عبر الإنترنت في وقت سابق.

ولا نقصد هنا أي عداء للرقمنة بقدر محاولتنا تحليل القوة السياسية التي تملكها الدولة المصرية؛ فالقوة ليست شريرة بالضرورة، وتحليلها لا يعني هدمها أيضًا كما يخبرنا فوكو[10]. ولكن التحليل يجعلنا أكثر قدرة على رؤية عملية الرقمنة من زاوية أخرى تذكرنا بالإصلاحات الاستعمارية التي قام بها الاحتلال البريطاني في مصر خلال القرن التاسع عشر، من إنشاء السكّة الحديدية وشقّ الطرق، وغير ذلك.

الاستراتيجية الخامسة: ترسانة قوانين

تحمل الدولة المصرية في جعبتها ترسانة من القوانين التي مررها البرلمان المنتخب في عام 2015، والتي تهدف إلى حصار المساحات السيبرانية، ولعل الجانب التشريعي هو الأكثر إهمالًا في استراتيجيتها لمحاصرة الإنترنت؛ إذ بدأت في حجب المواقع قبل أن تقوم بإصدار أي قوانين تشرّع لهذا الحجب، ثم تأتي القوانين لاحقًا لتبريره[11].

ولعل معاملة نظام السيسي البرلمان على أنه أداة صورية لتمرير قوانينه على النحو الواضح في قانون الحجب، تجعلنا نقلل من دور القوانين بوصفها أداة استراتيجية من أدوات النظام. لكن، على أي حال، قامت الدولة المصرية بإضافة عدد من القوانين إلى ترسانتها، أهمها قانون تنظيم الإعلام والصحافة الذي وضع عقبات هائلة أمام تأسيس موقع إلكتروني، والذي عامل أيضًا كل حساب له أكثر من خمسة آلاف متابع باعتباره جهة إعلامية، إضافة إلى قانون مكافحة الجرائم المعلوماتية الذي صُدّق عام 2018، والذي يقنّن حجب المواقع لاعتبارات الأمن القومي؛ وهي عبارة فضفاضة تُرك تأويلها لجهات التحقيق.

خاتمة: الجدار الناري المصري تعبيرًا عن علاقات القوة - المقاومة

تمتلك الصين ما يسمى الجدار الناري العظيم The Great Firewall، وهو عبارة عن ترسانة من التشريعات والتقنيات التي تسمح للحزب الشيوعي الحاكم بالتحكم في الإنترنت الصينية والسيطرة عليها بالكامل. ويمكننا تسمية الاستراتيجيات الخمس للدولة المصرية بالجدار الناري المصري للسيطرة على الإنترنت، التي ربما تتوسع على نحوٍ أكبر في المستقبل القريب.

إنّ تحليل هذا الجدار الناري تاريخيًا، وهو ما زال في طور البناء، يتيح لنا فرصةً لنفهم أنه لا يعبّر عن قوة النظام الشمولي في السيطرة وفرض الضبط والعقاب في المساحات السيبرانية، بل يعبّر عن علاقات القوة - المقاومة المستمرة بين مستخدمي الإنترنت وهذا النظام؛ ففشل النظام في تحقيق غرضه في السيطرة على الإنترنت عبر استراتيجية واحدة هو ما خلق هيكل القوة الحالي الموزع عبر نظام هيراركي بين أجهزة الدولة المختلفة، من إعلامٍ وقضاءٍ ومخابرات وغيرها، ويساعدنا أيضًا في إعادة النظر في أهمية المساحات السيبرانية بوصفها مساحات حرّة.



[1] حسام بهجت، "تفاصيل استحواذ المخابرات العامة على ’إعلام المصريين‘"، مدى مصر، 20/12/2017، شوهد في 22/10/2020، في: https://bit.ly/3dZSnp7

[2] محمود الواقع، "’فيس بوك‘ في مرمى هجوم السيسي وأعضاء البرلمان"، المصري اليوم، 17/4/2016، شوهد في 22/10/2020، في: https://bit.ly/37v3swZ

[3] Olivier Tesquet, “Amesys: Egyptian Trials and Tribulations of a French Digital Arms Dealer,” Télérama, 5/7/2017, accessed on 22/10/2020, at: https://bit.ly/3mbCoH7

[4] يُنظر أيضًا: محمد طيطة، "’مدى‘ على ’تور‘.. العب في الحجب"، مدى مصر، 25/12/2019، شوهد في 22/10/2020، في: https://bit.ly/35CT3Np

[5] Nathaniel Gleicher, “Removing Coordinated Inauthentic Behavior in UAE, Egypt and Saudi Arabia,” About Facebook, 1/8/2019, accessed on 22/10/2020, at: https://bit.ly/3jke1oQ

[6] مصطفى السيد حسين، "قصة الشركة المصرية التي أغلق ’فيسبوك‘ صفحاتها"، ساسة بوست، 5/8/2019، شوهد في 22/10/2020، في: https://bit.ly/3koRwAG

[7] "’أعمال منافية واتجار بالبشر‘.. قرار قضائي جديد بحق المصرية حنين حسام"، الحرة، 9/5/2020، شوهد في 22/10/2020، في: https://arbne.ws/31wrsfc

[8] يُنظر مثلًا: "جريمة فيرمونت.. المجلس القومي للمرأة يناشد الناجيات بالتواصل معه"، بتوقيت مصر، التلفزيون العربي، 31/7/2020، شوهد في 22/10/2020، في: https://bit.ly/2HrCbRf

[9] سجن تخيّلي من ابتكار الفيلسوف الإنكليزي والمنظّر الاجتماعي جيريمي بنثام، وهو سجن دائري في أوسطه برج يستطيع الحراس فيه مراقبة كل السجناء ولكن ليس طوال الوقت، لذا لا يحسن السجناء التصرف دائمًا لأنهم لا يعرفون ما إذا كان الحراس يراقبونهم أم لا في أي لحظة.

[10] Nickolas James, “Law and Power: Ten Lessons from Foucault,” Bond Law Review, vol. 30, no. 1 (2018), p. 31.

[11] حسن الأزهري ومحمد الطاهر، "بقرار أحيانًا.. عن حجب مواقع الوِب في مصر"، حرية الفكر والتعبير، 18/5/2018، شوهد في 22/10/2020، في: https://bit.ly/3jlIi6X