مقدمة
تبدو معركة التَّحوُّل الدِّيمقراطيِّ في مصر على قدرٍ كبيرٍ من التَّشابك والتَّعقيد، فهذا التَّحوُّل محكومٌ في تفاصيله بإرثٍ تاريخيٍّ ضخمٍ يؤطِّر ملامح الهويَّة المصريَّة. وقد تكون ثورة المصريِّين عام 2011 وتوابعها عام 2013 تقود نحو حسم صراعٍ استمرّ أكثر من قرن، بشأن صورة الدَّولة المصريَّة في العصر الحديث، ما بين ثلاثة مناهج فكريَّةٍ: الأوَّل منحاز للخلافة الإسلاميَّة بنماذج متنوِّعة وبتجلِّياتٍ فكريَّة مختلفة، بدءًا بالأفغاني ومحمَّد عبده، وصولًا إلى رشيد رضا وحسن البنَّا. أمَّا المنهج الثَّاني فينحاز إلى نموذج الحداثة الأوروبي ببطليه طه حسين وتوفيق الحكيم، في حين أنّ النموذج الثالث يتحدَّث عن خلطةٍ مصريَّة منفردة، تحدّث عنها أحمد لطفي السيّد، وبطلها الحقيقي والمؤسِّس لمصطلح "شخصيّة مصر" هو جمال حمدان.
وفي هذا السياق تحوز التَّطوُّرات السياسية المصريَّة بعد 30 حزيران / يونيو 2013 جدلًا هائلًا، داخليًّا وخارجيًّا، تميِّزه حالة الاستقطاب بين الفرقاء التاريخيّين، ولكن بفارق اصطفاف فريقَي الهويَّة المصريَّة والحداثة الأوروبيَّة في خندقٍ واحد ضدّ معسكر الخلافة الإسلاميَّة بتنوُّعاته الحزبيّة والفكريَّة. وفي هذه المعركة يتخندق المعسكر الإسلامي ليؤطِّر توابع ثورة 2011 بوصفها انقلابًا على الشّرعية، ومعركةً ضدَّ الإسلام، بينما يراها الخليط الثّاني إرادةً شعبيَّةً، استخدمت آليَّاتٍ ديمقراطيَّةً، وساندتها القوَّات المسلَّحة بوصفها أحد أعمدة الوطنيّة المصريّة.
في هذا الصراع يؤدّي الإعلام القديم والجديد دورًا رئيسًا فى تحريك الرّأي العامّ، وصناعة السّياسات. ومن هنا جرى تحييد هذا العامل من جانبنا، في ضوء ما يبدو لنا من أنَّ التَّحليل الاجتماعيَّ لحالة التَّغيير في مصر ربّما يكون الأداة الأكثر أمانًا لتحقيق حالتَي الموضوعيَّة والحياد، والوصول إلى تقييمٍ واقعي لدوافع التَّغيير وآليَّاته، ثمَّ استشراف مستقبله، ومدى قدرته على تحقيق استقرارٍ يقود إلى تحوُّلٍ ديمقراطي، يكون بطبيعته قاطرة التَّقدُّم بمصر في كلِّ المجالات.
وسيتضمَّن هذا التَّقييم محورين رئيسين: الأوَّل يعنى بالإجابة عن السؤال: لماذا خسر الإخوان حكم مصر خلال عامٍ واحد؟ والثَّاني يبين فرص مصر في تحوُّلٍ ديمقراطيٍّ حقيقيٍّ.
*هذه الورقة منشورة في العدد الرابع من دورية "سياسات عربيّة" (أيلول/ سبتمبر 2013)، الصفحات: 24-30، وهي دورية محكّمة تعنى بالعلوم السياسيّة والعلاقات الدوليّة والسياسات العامّة، يصدرها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كل شهرين.