العنوان هنا
تحليل سياسات 12 يناير ، 2011

هل يشكل العرب داخل إسرائيل حالة سياسية؟

الكلمات المفتاحية

عزمي بشارة

المدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ورئيس مجلس أمناء معهد الدوحة للدراسات العليا. مُفَكِّر وباحث عربي. نُشر له العديد من الكتب والدراسات والبحوث بلغات مختلفة في الفكر السياسي، والنظرية الاجتماعية، والفلسفة. ومن أبرز مؤلفاته باللغة العربية: المجتمع المدني: دراسة نقدية (1996)؛ من يهودية الدولة حتى شارون (2004)؛ في المسألة العربية: مقدمة لبيان ديمقراطي عربي (2007)؛ أن تكون عربيًّا في أيامنا (2009)؛ في الثورة والقابلية للثورة (2012)؛ الدين والعلمانية في سياق تاريخي (جزآن في ثلاثة مجلدات 2013، 2015)؛ الجيش والسياسة: إشكاليات نظرية ونماذج عربية (2017)؛ تنظيم الدولة المكنى 'داعش': إطار عام ومساهمة نقدية في فهم الظاهرة (2018)؛ في الإجابة عن سؤال ما الشعبوية؟ (2019)؛ الانتقال الديمقراطي وإشكالياته: دراسة نظرية وتطبيقية مقارنة (2020)، ومنها كتبٌ أصبحت مرجعيةً في مجالها. وصدر له مؤخرًا كتاب بعنوان مسألة الدولة: أطروحة في الفلسفة والنظرية والسياقات (2023).

نُشر له العديد من المؤلفات باللغة الإنكليزية، آخرها كتاب Palestine: Matters of Truth and Justice (2022) عن دار Hurst للنشر؛ وكتاب On Salafism: Concepts and Contexts (2022) عن دار نشر جامعة ستانفورد؛ وكتاب Sectarianism without Sects (2021) عن دار نشر جامعة أوكسفورد. كما نُشرت له ثلاثية الثورات العربية باللغة الإنكليزية عن دار نشر I.B. Tauris، والتي تُعدّ مُساهمة تحليليّة نظريّة إضافة إلى كونها تأريخًا وتوثيقًا للثورات العربية التي اندلعت عام 2011 في ثلاث دول عربية: تونس، ومصر، وسورية، وهي: Understanding Revolutions: Opening Acts in Tunisia (2021)؛ Egypt: Revolution, Failed Transition and Counter-Revolution (2022)؛ Syria 2011-2013: Revolution and Tyranny before the Mayhem (2023).

خلفية تاريخية قصيرة

كما هو معروف بقي بعد النكبة في داخل حدود الهدنة عام 1949 حوالي مائة وخمسين الف عربي من الفلسطينين أبناء المكان. وقد بقوا لأسباب مختلفة تتفاوت بتفاوت زمان ومكان الاحتلال الذي تعرضت له القرى والبلدات العربية خلال حرب 1948

ويمكن القول بقدر من اليقين أن الأشلاء التي بقيت لم تشكل شعباً متماسكاً، بل تجمعات سكانية متناثرة بقية من شعب شرد الى جهات الأرض الأربع. ما تبقى هو قرى وبلدات صغيرة ضعيفة اقتصادياً ومعزولة عن شعبها وأمتها، منشغلة بالبقاء غير قادرة سياسياً وحضارياً على إستيعاب التحولات الوجودية الكبرى التي عصفت بها. وغابت القيادة السياسية، لأن قيادة الشعب الفلسطيني التقليدية وغير التقليدية انتقلت الى المنافي بعد الشتات.

وخلت فلسطين داخل خطوط الهدنة من الفئات المدينية والبرجوازية الصاعدة والطبقة الوسطى وكبار ملاك الارض. ما بقي هو ريف زراعي متناثر مشتت غير قادر على التواصل في غياب تكنولوجيا وسائل الاتصال وفي غياب سوق عربي واقتصاد عربي، ولأنه مقيّد الحركة وخاضع لحكام عسكريين على مستوى البلدة والناحية والمنطقة.

منح العرب الباقون في الداخل المواطنة الإسرائيلية بعد انتهاء الحرب. جرى هذا لأسباب مختلفة لا مجال للخوض فيها في هذا المقال. وشكلوا في تلك الأيام 12.4% من المواطنين . وقد شاركوا في الاقتراع لانتخابات الكنيست الاولى عام 1949 بنسب عالية ازدادت اكثر طبعا في انتخابات العام 1951 مع استقرر الأوضاع اكثر قليلا.

من الواضح أنهم اعتبروا التصويت شكلا من أشكال الولاء، أو للدقة التظاهر بالولاء للكيان السياسي الجديد الذي قام على أنقاض الشعب الفلسطيني. ومن نافل القول أنه لم تنشأ أحزاب عربية، ولم يسمح بقيام أحزاب من هذا النوع. وقد توطّد نهج المشاركة والتصويت مع الزمن، خاصة وان الانتخابات كانت تجري مع انتخابات البلديات في اليوم ذاته. ثم بدأ الهبوط في النسب منذ الثمانينات.

وقد شكّلت البنية الاجتماعية التقليدية التي تؤكد على الانتماء للعائلة الممتدة (العشيرة) والقرية والناحية والتي يمثّلها زعماء محليين وسيطا بين السكان المحليين من جهة، والدولة متمثلة في الحاكم العسكري وبالدائرة العربية في نقابة العمال العامة ال"هستدروت" (التي كانت أكثر من نقابة وشكلت جزء رئيسيا من المؤسسة الحاكمة كقطاع اقتصادي واسع وكذراع استيطاني) ولاحقاً مؤسسات الدولة المركزية من جهة أخرى. وتحوّل بعض هؤلاء الزعماء المحليين إلى نواب في الكنيست بعد أن استخلص مستعربو حزب العمل وأجهزة الأمن الإسرائيلية من هذه البنى الاجتماعية قوائم عربية مرتبطة بحزب العمل تخوض الانتخابات للبرلمان.

 ففي حينه لم تسمح الاحزاب الاسرائيلية بعضوية العرب فيها ( وربما لم تتوقع أن يقبل العربي أن يكون عضواً فيها) ولذلك أقامت قوائم عربية مرتبطةً بها تألفت من زعماء ريفيين تقليديين، وقام مستشرقو "الدوائر العربية" في الحزب الحاكم والهستدورت بتوزيع تلك القوائم على اساس المناطق: جليل، مثلث، (ولاحقا النقب)، وعلى اساس طائفي ايضا.

لقد انجب هذا النوع من الاتصال بين القيادات التقليدية والدولة الوليدة مطلب "قيادة الطائفة الدرزية" أن يخدم ابناؤها في الجيش. وقد طالبت قيادة الطائفة بتجنيد الدروز عام 1954، ولبى بن غوريون الطلب عام 1956. ومنذ ذلك العام وضعت السكة للمسار الخاص بتطور هذه الفئة من العرب في الداخل بنتائجه الاجتماعية والسياسية الكارثية.

في تلك الفترة كان التصويت لتلك القوائم يعني التصويت للأحزاب الصهيونية التي رعتها، وبالأساس حزب "مباي" الحاكم الذي تحول فيما بعد الى حزب العمل. ولكن لم يكن غريباً أن نجد عرباً يصوتون بنسب مرتفعة للأحزاب الصهيونية مباشرةً، وحتى للحزب القومي الديني المتطرف "المفدال"، وذلك بموجب الوزارات التي يديرها الحزب الصهيوني، والخدمات التي يعد بها الزعماء المحلييون ومقاولو الأصوات مواطنيهم في حالة التصويت لذلك الحزب.

في تلك الأيام كان الحزب الإسرائيلي الوحيد الذي يعلن عن نفسه أنه غير صهيوني هو الحزب الشيوعي الإسرائيلي الذي قام بعد الإحتلال مباشرةً من دمج الشيوعيين العرب الذين بقوا داخل الخط الأخضر مع الحزب الشيوعي الفلسطيني PKP الذي كان مؤلفاً من مهاجرين يهود. لقد اعترف هذا الحزب بدولة إسرائيل فور قيامها، وساهم أعضاءه في ما يسمى ب"حرب الاستقلال"، أي حرب احتلال فلسطين. ووقَّع ممثله (مئير فلنر) على وثيقة استقلال اسرائيل.

 ومع ذلك، وكجزء من الحركة الشيوعية العالمية، ظل هذا الحزب يعلن عن نفسه إيديولوجياً، أنه غير صهيوني، بل معاد للصهونية. هذا مع أن تعريف الحزب في البند الثاني من دستوره كان أن الحزب الشيوعي الإسرائيلي هو حزب الأممية البروليتارية والوطنية الإسرائيلية. حصل هذا الحزب على 22% من أصوات العرب عام 1949 في مقابل 27% حصلت عليها الأحزاب الصهيونية و51% حصلت عليها القوائم العربية المرتبطة بحزب العمل. وكان هذا بحد ذاته دليلا على أن عملية التصويت جاءت خوفاً أو قبولاً بالهزيمة. فمن يصوت لهذا السبب يفضل أن يعلن ولاءه للسلطة الحاكمة مباشرة وليس لمعارضيها.

وقد اختفت القوائم العربية المرتبطة بالدولة نهائيا بعد نهوض الوعي الوطني، اي بعد يوم الارض، ولم تتمثل في البرلمان في انتخابات 1981ولم تخض الانتخابات عام 1984. كانت الأحزاب الوحيدة التي تسمح بعضوية العرب فيها هي الحزب الشيوعي الاسرائيلي وحزب العمال الإشتراكي الموحد، "مبام" الذي مثل اليسار الصهيوني وكان شريكاً في الائتلافات الحاكم منذ اليوم الأول. أما الحزب الشيوعي الإسرائيلي فقد ظل معارضاً مثابراً موالياً بشكل كامل للإتحاد السوفيتي. وقد نجح الحزبان باجتذاب أعداد من الشباب العربي المثقف.

وقد فرغت صفوف "مبام" بالتدريج من الشباب ذوي الحس الوطني. أما الحزب الشيوعي الإسرائيلي فقد إزدات جاذبيته لهؤلاء الشباب أولا لأنه لم يُسمح بقيام أي حزب عربي وطني، وثانياً لأن الهوة في المواقف بين الاتحاد السوفيتي وقيادة الحركة الصهيونية اتسعت بالتدريج، ولأنه حصل تقارب بين الاتحاد السوفيتي والتيار القومي العربي في مرحلة من الخمسينات وفي الستينات.

 وقد أثر ذلك في النهاية مباشرة على الحزب الشيوعي الاسرائيلي بإنشقاقه عام 1965 بين من انحازوا للوطنية الصهيونية وناقشوا الموقف السوفيتي، واولئك الذين انحازو للموقف السوفيتي الجديد خاصة في مرحلة التحالف مع عبدالناصر. لقد حظي هذا الشق من الحزب الذي سمي بداية "راكح" ( اختصار القائمة الشيوعية الجديدة) بتأيد أوسع من المواطنين العرب وإزداد عدد العرب بصفوفه حتى شكلوا أغلبية اعضاء الحزب، ولا شك أن هذه الموجه دفعت بإعداد كبيرة في صفوفهم في ظروف غياب حزبهم.

ولكن الحزب لم يحز الحزب على أغلبية اصوات العرب وظلت الأغلبية تذهب للأحزاب الصهيونية وازداد في أوساطها عنصر البراغماتية والنفعية على عنصر الخوف، حتى نهاية السبعينات. (عام 77 خاض الحزب الانتخابات في إطار تحالف واسع وحاز على نصف اصوات العرب) .

جرت في تلك المرحلة المبكرة قبل عام 1967 محاولات عديدة لإقامة تنظيمات عربية. وكانت أهمها محاولة إقامة حركة الأرض التي، خلافاً لما يعتقد، طلبت خوض إنتخابات الكنيست. ولكنها مُنعت من ذلك، ثم حُلت كتنظيم، ومنعت حتى من تسجيل نفسها كشركة. وجرت محاولات أخرى لإقامة مؤسسات تحالفية تشمل حزبيين وغير حزبيين ومُنعت هي الأخرى.