العنوان هنا
تقييم حالة 30 مارس ، 2022

خلفيات رفض إرتيريا إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا

عبد القادر محمد علي

باحث ومحلل في الشؤون الأفريقية ومرشح لدرجة الدكتوراه في جامعة يالوفا التركية. تتركز أبحاثه على سياسات دول القرن الأفريقي، وينشر بانتظام في العديد من المراكز البحثية والمؤسسات الإعلامية.

بدا تصويت إرتيريا المتمثّل برفض قرار إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا في الجمعية العامة التابعة للأمم المتحدة في 2 آذار/ مارس 2022 مفاجئًا لبعض المراقبين لأسباب عدّة؛ من أهمها التشابهات بين الحالتَين الأوكرانية والإرتيرية؛ ذلك أن إرتيريا نالت استقلالها من جارتها إثيوبيا منذ ثلاثة عقود، ولا تزال بعض النخب الإثيوبية تطالب بإعادة ضمّها من جديد. وقد انقسمت الدول الأفريقية في التصويت بشأن القرار؛ فصوّتت خمس وعشرون دولة بالموافقة عليه، وامتنعت ثلاث وعشرون دولة عن التصويت، في حين كانت إرتيريا هي الدولة الوحيدة أفريقيًّا الرافضة للقرار.

وقد شاركت كوريا الشمالية وبلاروسيا وسورية موقف إرتيريا في الجمعية العامة، وكانت إرتيريا هي الوحيدة التي رفضت المقترح الذي تقدّمت به أوكرانيا لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف؛ القاضي بإجراء تحقيق دولي في الغزو الروسي لأوكرانيا، وصوّتت دولتان فحسب ضد هذا القرار، هما: روسيا وإرتيريا[1].

ورغم أن البعثة الإرتيرية في منظمة الأمم المتحدة أكّدت، في بيان متعلق بالتصويت، معارضة إرتيريا المبدئية والمبنية على تجربة طويلة مع العقوبات الدولية[2] "لجميع أشكال العقوبات الانفرادية بوصفها غير قانونية وتؤدي إلى نتائج عكسية"[3]، فإن هذا التوضيح وحده لا يكفي لفهم الدوافع الإرتيرية من غير وضعها في إطار العلاقات الاستراتيجية بين روسيا وإرتيريا، التي استمرت في التطور طوال عقد ونصف العقد الماضيين، والتي تحكمها دائرتان متشابكتان من الدوافع؛ إحداهما مرتبطة بالرؤى المشتركة بين البلدين حول بعض التحديات الخارجية، والأخرى متعلقة بدوافع خاصة بالنظام الإرتيري في علاقته بروسيا.

أولًا: رؤى مشتركة

على مستوى السياسة الخارجية، تتبنى روسيا وإرتيريا مقاربة مشتركة تجاه العديد من القضايا، وأهمها استهداف المنظومة الغربية كلًّا منهما. وشكّلت هذه المقاربة أرضية لتنسيق وثيق بين الطرفين في استجابتهما للتحديات الخارجية. فقد أكد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف تطابق مواقف بلاده مع مواقف إرتيريا دوليًّا في الأمم المتحدة وغيرها[4].

ومن هذا المنطلق، فإن الاستهداف من المنظومة الغربية عاملٌ أساسي في صياغة السياسة الخارجية لكل من إرتيريا وروسيا، بل إن التهديد للكيان الإرتيري من القوى الكبرى، وتحديدًا الولايات المتحدة الأميركية[5]، جزء مهم من السرديات التأسيسية للدولة؛ إذ يتكرر في لقاءات الرئيس الإرتيري أسياس أفورقي التلفزيونية اتهامها بالحيلولة دون حصول الإرتيريين على استقلالهم؛ فـ "قرار أن تظل إريتريا إلى الأبد تحت احتلال القوى الخارجية في المنطقة، أي إثيوبيا، قرار خارجي"[6]. وبهذا، تشترك إرتيريا وروسيا في مهاجمة الهيمنة الغربية، والمناداة بعالم متعدد الأقطاب. وفي هذا السياق، يبرز أفورقي بوصفه أهم منتقدي الغرب في القارة الأفريقية، فقد كرر انتقاداته للسعي الأميركي بعد الحرب الباردة "نحو استغلال الوضع الجديد كمناسبة تاريخية مواتية لفرض الهيمنة على الآخرين"[7]. ومن ناحية أخرى، أكد وزير خارجية إرتيريا ضرورة التنسيق على المستوى الدولي لـ "مواجهة الاتجاه التراجعي من قبل القوى التي لا تستطيع قبول حقيقة وجود نظام دولي متعدد الأقطاب أكثر توازنًا ومتبادل المنفعة"[8].

ووفقًا لفهم طبيعة التحديات الخارجية التي يواجهها البلدان، أخرج بيان وزارة الخارجية الإرتيرية، المتعلق بالتصويت في الجمعية العامة، الصراعَ من بُعده الثنائي بين روسيا وأوكرانيا إلى معركة دولية تقف خلفها "قوى الهيمنة التي تتوق إلى إقامة نظام عالمي أحادي القطب"، بهدف "تطويق روسيا" و"احتوائها"، فقد كان يُنظَر إليها على أنها "العقبة الأساسية أمام أهدافها"[9].

وتبدو الخطوة الإرتيرية استمرارًا لموقفها من تدخّل روسيا في شبه جزيرة القرم عام 2014؛ ففي حزيران/ يونيو من العام نفسه، ترأّس وزير خارجية إرتيريا، عثمان صالح محمد، والمستشار السياسي للرئيس الإرتيري، يماني قبرآب، أول وفد أجنبيّ يزور "جمهورية القرم" بعد أن ضمّتها روسيا إليها بالقوة في آذار/ مارس[10]، وهو ما استدعى ردًّا أوكرانيًّا ندد بـ "التجاهل الإرتيري الصارخ للقانون الدولي"[11]. وفضلًا عن ذلك، زار وفد إرتيري آخر أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية[12]؛ الإقليمين الانفصاليين عن جورجيا بعد حرب روسيا عليها عام 2008.

ثانيًا: محددات رؤية إرتيريا في علاقتها بروسيا

شهد عام 2021 ملامح استراتيجية إرتيرية تستند في علاقاتها الخارجية إلى توثيق روابطها مع روسيا والصين[13]. إذ انضمت إرتيريا، في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، إلى "مبادرة الحزام والطريق" الصينية[14]، إثر توقيعها مذكرة تفاهم مع الصين بعد سنوات من الامتناع عن ذلك. وتدلُّ هذه الخطوات وغيرها، بوضوح، على شعور النظام الإرتيري بحاجته المتزايدة إلى الانخراط في تحالفات دولية في سياق تصاعد العقوبات الغربية على إرتيريا، على خلفية دورها في الحرب في إقليم تيغراي. وبناءً على هذا، يمكن الحديث عن أربعة محددات رئيسة لرؤية إرتيريا في علاقتها بروسيا.

1. الحاجة للتحالف مع قوة كبرى

بالنظر إلى أن إرتيريا دولة صغيرة محدودة الموارد يتمتّع رئيسها بطموحات إقليمية، فقد تولَّد لديها منذ استقلالها عن إثيوبيا، في عام 1991، إدراك مفاده أن أفضل طرائق تحقيق أهدافها إنما يكون عبر العمل على مواءمتها مع أهداف القوى الدولية الكبرى. وفي ضوء ذلك، عملت إرتيريا على أن تكون جزءًا من الاستراتيجيات الأميركية[15]، لكن الموقف الأميركي المؤيد لإثيوبيا خلال الحرب الحدودية بين إثيوبيا وإرتيريا حول مثلث بادمي بين عامَي 1998- 2000[16]، أثّر تأثيرًا جوهريًّا في بناء تحالفات إرتيريا الدولية، ودفعها للتقارب مع روسيا والصين.

ورغم الانفتاح النسبي في العلاقات بين إرتيريا ودول المنظومة الغربية، على إثر توقيع اتفاقيات السلام بين إرتيريا وإثيوبيا عام 2018، فقد شكَّل اندلاع الحرب في تيغراي، ومشاركة إرتيريا فيها، منعطفًا جديدًا في العلاقة بين إرتيريا وعواصم القرار الغربي؛ إذ تكررت دعوات الغرب إلى سحب قوات إرتيريا من إثيوبيا[17]، واتهمت الولايات المتحدة إرتيريا بأنها أحد الأطراف المؤدية إلى تصاعد الحرب في إثيوبيا، وأحد العوائق أمام التوصل إلى حل تفاوضي[18] بين الأطراف الإثيوبية على نحو ينهي الصراع الذي وصفه قرار صادر عن الرئيس الأميركي، جو بايدن، بأنه "يشكل تهديدًا غير عادي للأمن القومي والسياسة الخارجية للولايات المتحدة"[19].

ولم تكتفِ الإدارة الأميركية بهذا، بل فرضت سلسلة عقوبات متدرجة على إرتيريا بلغت ذروتها بالقرار الصادر في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021؛ القاضي بفرض عقوبات على مجموعة من الأشخاص والكيانات الإرتيرية؛ منها الجيش الإرتيري والحزب الحاكم في البلاد. وذكر القرار، أيضًا، أن الرئيس أسياس أفورقي "يشرف شخصيًّا على القيادة والسيطرة على قوة الدفاع الإريترية، ويصدر الأوامر مباشرة إلى جنرالاتها؛ ما يجعله في النهاية مسؤولًا عن دور الجيش الإريتري في الأزمة الإثيوبية"[20]، وهذا يدلّ على إمكانية استهدافه بالعقوبات أو الملاحقة شخصيًّا في المستقبل.

لقد عمّقت هذه الخطوات مخاوف إرتيريا من العودة إلى حالة الحصار، وحالة "الدولة المنبوذة"[21] التي عاشتها في الفترة 2009-2018، أو حتى محاولة تغيير النظام الحاكم[22]. علاوة على ذلك، فإن صدور قرار أوروبي بفرض عقوبات غير مسبوقة على إرتيريا، على خلفية الحرب في تيغراي[23]، يزيد من احتمالات ازدياد الضغوط المستقبلية على إرتيريا.

وفي ظلّ هذه التطورات، تبدو حاجة النظام الإرتيري إلى توثيق تحالفاته مع الصين وروسيا ملحّة، مستفيدًا في ذلك من أهمية موقع إرتيريا الاستراتيجي على كل من شاطئ البحر الأحمر والقرن الأفريقي اللذين تحوَّلا، في السنوات الأخيرة، إلى ساحة صراع محتدم بين القوى الدولية المتنافسة، ولا سيما بين الصين والولايات المتحدة.

2. الحاجة إلى الدعم الدولي

تكررت في أشهر الحرب الإثيوبية الأخيرة اتهامات للجيش الإرتيري بارتكاب انتهاكات مروعة في حق المدنيين؛ تضمنت مجازر وأعمال نهب واعتداءات جنسية[24]. ورغم رفض إرتيريا لهذه الاتهامات، فإنها تتخوف من أن تُحمَّل القسط الأكبر من جرائم الحرب ضمن أي مصالحة إثيوبية؛ إذ تنشط وساطات وتمارَس ضغوط كبيرة على كل من الحكومة الإثيوبية والجبهة الشعبية لتحرير تيغراي؛ لدفع الطرفَين إلى حلول تفاوضية تُنهي الصراع داخل إثيوبيا. في حين تبدي إرتيريا رفضها التام لأي حل تفاوضي مع الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي يعيدها كقوة سياسية فاعلة في المشهد الإثيوبي؛ إذ يعدّها أفورقي خطرًا وجوديًّا على بلاده بسبب العداوة العميقة بين الطرفين.

فإذا ما أخذنا في الحسبان، إلى جانب ذلك، سِجلَّ النظام الإرتيري الحقوقي المروع؛ إذ اتهمه تقرير للأمم المتحدة بارتكاب انتهاكات ممنهجة لحقوق الإنسان داخل البلاد[25]، ومن ثمّ يكون ثمة احتمال متعلق بمعاقبته على ذلك من خلال قرارات تصدر من الأمم المتحدة، فإنّ الحاجة الإرتيرية تبرز إلى الدعم دوليًّا، ولا سيما من جهة مجلس الأمن؛ إذ تراهن إرتيريا على حق النقض (الفيتو) الروسي للحيلولة دون اتخاذ أي إجراءات عقابية ضدها. وباستثناء الفيتو، وفّرت روسيا في السابق هذا النوع من الدعم؛ إذ إنها حالت دون عقد جلسات لمناقشة الوضع في تيغراي في مجلس الأمن، وعارضت بشدة فَرْض حظر السلاح على إرتيريا وإثيوبيا عام 2000.

وقد تقاطعت انتقادات روسيا لتقارير الأمم المتحدة التي تتّهم إرتيريا بزعزعة استقرار الصومال مع رؤية إرتيرية على صعيد قضايا القرن الأفريقي الكبير؛ إذ اعترضت روسيا على نشر تقرير مجموعة المراقبة التابعة للأمم المتحدة بشأن الصومال وإرتيريا، المُقدَّم إلى مجلس الأمن عام 2013، واصفةً الاستنتاجات والتوصيات بأنها "منحازة ولا أساس لها"[26].

وانعكس ذلك على تصويت روسيا في مجلس الأمن؛ فقد أبدت تحفّظها من قرار توسيع العقوبات على إرتيريا في عام 2011، من خلال الامتناع عن التصويت[27]، وهو ما تكرر في عام 2014[28]. وكانت روسيا، إضافة إلى ذلك، أول عضو دائم في مجلس الأمن يطالب برفع العقوبات عن إرتيريا في آب/ أغسطس 2018.

3. التعاون الأمني والعسكري بين إرتيريا وروسيا

في سياق شعورها بالتهديد، يبدو إيلاء الاهتمام للجانبَين العسكري والأمني محددًا مهمًّا لطبيعة العلاقة بين إرتيريا وروسيا؛ إذ كانت روسيا أولى الدول التي دخلت سوق السلاح الإرتيري بعد رفع عقوبات الأمم المتحدة عن إرتيريا في عام 2018. ففي تشرين الأول/ أكتوبر 2019، أعلن نائب مدير الخدمة الفدرالية الروسية للتعاون العسكري التقني، أناتولي بانشوك، أن إرتيريا أعربت عن "اهتمامها الشديد باستئناف التعاون الدفاعي الكامل مع روسيا"، واهتمامها بشراء "زوارق وصواريخ وطائرات هليكوبتر وأسلحة صغيرة" من بلاده[29]. وفي كانون الثاني/ يناير 2020، أعلنت روسيا أنها ستُسلّم إرتيريا مروحيّتين من طراز "أنسات" Ansat في نهاية العام نفسه[30].

وفي سياق تصاعد الضغوط الغربية على إرتيريا، أعلن السفير الإرتيري بروسيا، بيتروس تسيغاي، لوكالة سبوتنيك الروسية، في 10 شباط/ فبراير 2021، ترحيب بلاده ببناء روسيا مركزًا لوجستيًّا على أراضيها، واصفًا الفكرة بـ "أنها جيدة"[31]. وقد طرح هذه الفكرة أول مرة وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، عام 2018، في إطار رغبة روسيا في توسيع وجودها العسكري في أفريقيا، غير أن المفاوضات حول هذا الملف تجمّدت بين الطرفين، ووُصِف العرض بأنه كان "خطوة لعلاقات عامة روسية"[32].

إنّ استضافة قواعد عسكرية في إرتيريا هو "تكتيك" استخدمته إرتيريا سابقًا لنسج علاقات تحالف مع قوى دولية، أو إقليمية، تتجاوز الدور الوظيفي للقاعدة إلى تأمين نوع من الحماية في بيئة القرن الأفريقي المضطربة، ولا سيما من الجارة الكبرى إثيوبيا في مرحلة ما قبل توقيع اتفاقيات السلام عام 2018. فبعد الحرب الحدودية 1998-2000 بين إرتيريا وإثيوبيا، عرضت إرتيريا على الولايات المتحدة إقامة قاعدة على أراضيها في إطار "الحرب على الإرهاب"[33]. لكن المحاولة لم تنجح - على عكس اتفاق 2015 مع الإمارات بشأن استضافة قاعدة عسكرية قرب ميناء عصب الإرتيري؛ وذلك لانطلاق طائرات التحالف العربي لقصف اليمن - بعد الإنهاك الاقتصادي والعزلة السياسية اللذين عانتهما إرتيريا إثر سنوات من العقوبات الدولية، ويمكن تفسير اتفاقها مع الإمارات جزئيًا في ضوء ما يصفه البروفيسور أليكس دي وال بأنه تحوّل للقرن الأفريقي إلى "سوق سياسية" Political Market[34].

ورغم اتفاق السودان وروسيا على إقامة قاعدة عسكرية روسية على الساحل السوداني، فإن إرتيريا تعتمد في إعادة إحياء العرض الروسي على هشاشة المرحلة الانتقالية في السودان وحالة السيولة الأمنية في البلاد، ولا سيما في ولاية البحر الأحمر، إضافةً إلى الهواجس الروسية من حدة المنافسة الأميركية في السودان، فضلًا عن الموقع الاستراتيجي للشواطئ الإرتيرية القريبة من باب المندب، والمحيط الهندي، ومنابع البترول في الخليج العربي، وقواعد الولايات المتحدة في جيبوتي والجزيرة العربية. وتنبع أهمية هذا المركز اللوجستي من إسهامه في دعم العمليات الروسية في أماكن أخرى من المنطقة، وبناء منصة لجمع المعلومات الاستخباراتية من أجل مراقبة أنشطة القوات الأميركية، أو الصينية، أو الفرنسية، أو اليابانية، وكذلك السعودية والإماراتية، في البحر الأحمر وشبه الجزيرة العربية وما حولها، ومراقبة الوضع الأمني في جميع أنحاء القرن الأفريقي أيضًا[35].

  1. دور إرتيريا إقليميًّا

لطالما امتلك الرئيس أفورقي طموحات للقيام بدور في القرن الأفريقي الكبير، وهو ما بدأ في الظهور مجددًا في السنوات الأخيرة[36]، مدفوعًا في ذلك برؤية النظام الإرتيري للتحولات في جواره الإقليمي، وفرص الإمساك بزمام المبادرة وقيادة هذه المنطقة بدعم روسي، وذلك لعوامل عدة، منها ما يلي:

  • التغييرات السياسية التي قادت إلى سقوط كل من نظام الإنقاذ في الخرطوم، ونظام الجبهة الثورية الديمقراطية للشعوب الإثيوبية (الإهودق) بقيادة الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي في إثيوبيا، اللذين ظلَّا معاديَين، بدرجات متفاوتة، للنظام الإرتيري، وهو ما صبَّ في مصلحة إرتيريا بعد قيام أنظمة هشة ومضطربة داخليًا.
  • قارة أفريقيا التي غدت ساحة للصراع والتنافس بين القوى الغربية من جهة، والقوى الصاعدة مثل روسيا والصين، من جهة أخرى. ويوفر ذلك بالنسبة إلى النظام الإرتيري فرصًا للمناورة والتأثير الإقليمي مع هاتين القوتين، ومن ثم إجبار القوى الغربية على عدّ إرتيريا فاعلًا إقليميًّا، أو تغيير المقاربات السائدة تجاهه.
  • مراهنة النظام الإرتيري على الفيتو الروسي والصيني لحمايته من أي إجراء عقابي من جهة الأمم المتحدة في المستقبل، فقد كانت العقوبات التي اتُّخِذَت ضده سابقًا مستندة إلى تدخلاته الإقليمية[37].

خلاصة
يُعدّ التصويت الإرتيري في الجمعية العامة ضد قرار إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا انعكاسًا للتحالف القائم بين إرتيريا وروسيا على صعيد السياسة الخارجية، وهو تحالف ينطلق من رؤى مشتركة متعلقة بالبيئة الدولية وتهديداتها، وحاجة إرتيريا إلى دعم قوة دولية كبرى بأشكال مختلفة من أجل مقاومة الضغوط المتزايدة عليها.

إلى جانب ذلك، تراهن إرتيريا على عالم جديد قد تكون روسيا أحد أقطابه. وتسعى إرتيريا من خلال التحالف مع روسيا إلى تثبيت دورها بوصفها طرفًا مهمًا ضمن القرن الأفريقي الكبير وبيئة البحر الأحمر.

وفيما يتعلّق بروسيا، تُقدّم إرتيريا فرصة على أكثر من صعيد من حيث موقعها الجغرافي الحساس، وانفتاحها على الاستثمارات الروسية[38]، ودورها الفاعل ضمن جوارها الإقليمي، وعداؤها العميق للغرب، وإمساك رئيسها لكل السلطات، في غياب فاعلية أي مؤسسات في الدولة[39]. ويتناغم هذا كله مع الاستراتيجية الروسية القائمة على نسج علاقات تعاون وثيقة مع "الدول المحاصَرة"، في رسالة تقول: "إذا تعرضت لانتقادات بسبب سجلك في مجال حقوق الإنسان، وإذا تعرضت للنقد بسبب أي قضية من القضايا التي يتمسك بها الغرب، فهناك دائمًا خيار آخر"[40].

بالنظر إلى ما سبق، من المرجح أن تستمر العلاقة الروسية - الإرتيرية في التطور مستقبلًا. وإذا كان لهذا الأمر أنْ يوفر مجالَ مناورةٍ لإرتيريا، فإنه في المقابل سيزيد من تأزم العلاقة بينها وبين المنظومة الغربية، بسبب الصراع المحتدم الذي يخوضه هذا الطرف الأخير مع روسيا بسبب الحرب في أوكرانيا، وهي حربٌ قد تمتد تداعياتها إلى خارج أوروبا ضمن محاولات تقويض النفوذ الروسي في أفريقيا وغيرها.


[1] "عزلة روسية غير مسبوقة خلال تصويت تاريخي جديد في الأمم المتحدة"، فرانس 24، 4/3/2022، شوهد في 16/3/2022، في: https://cutt.us/AvCCv

[2] فُرِضت عقوبات دولية على إرتيريا وفق قرار لمجلس الأمن رقم 1862، في 14 كانون الثاني/ يناير 2009، تلته سلسلة قرارات تضمنت عقوبات اقتصادية وحظرًا على تصدير السلاح، على خلفية اتهامها بدعم "حركة الشباب الصومالية" الإرهابية، وتهديد الاستقرار الإقليمي بعد نزاعها الحدودي مع جيبوتي، وهي تُهمٌ تنفيها إرتيريا.

[3] Ministry of Information of Eritrea, “Explanation of Vote after the Vote by the Delegation of Eritrea,” Shabait, 3/3/2022, accessed on 16/3/2022, at: https://cutt.us/UqFN1

[4] The Ministry of Foreign Affairs of Russian Federation, “Foreign Minister Sergey Lavrov’s Opening Remarks During Talks with Foreign Minister of the State of Eritrea Osman Saleh, Sochi, August 31, 2018,” 31/8/2018, accessed on 16/3/2022, at: https://cutt.us/lzjpf

[5] اللافت للانتباه أن الثورة الإرتيرية قاتلت إثيوبيا بنسختيها؛ الإمبراطورية المدعومة من الولايات المتحدة بين عامَي 1961 و1975، والشيوعية المدعومة من المنظومة الشرقية بين عامَي 1975 و1991، لكن في الخطاب الرسمي عادة ما يجري التركيز على استهداف الولايات المتحدة لإرتيريا.

[6] Ministry of Information of Eritrea, “Interview with President Isaias Afwerki on Regional and Domestic Issues, 17 February 2021 (Excerpts),” Shabait, 26/2/2021, accessed on 16/3/2022, at: https://cutt.us/dhqfX

[7] "كلمة فخامة الرئيس أسياس أفورقي بمناسبة العيد الفضي الوطني للحرية"، المركز الإرتري للدراسات الاستراتيجية، 28/5/2016، شوهد في 16/3/2022، في: https://cutt.us/4Og9F

[8] Ministry of Information of Eritrea, “Statement by H.E. Osman Saleh at the 8th Ministerial Conference of FOCAC,” Shabait, 1/12/2021, accessed on 16/3/2022, at: https://bit.ly/3wJ2DNR; “Putin Calls for Strengthening Emerging Multipolar World Order in Address to BRICS Summit,” Tass, 9/9/2021, accessed on 16/3/2022, at: https://bit.ly/3uvhSap

[9] Ministry of Foreign Affairs, “Ukraine as Sacrificial Lamb,” Shabait, 4/3/2022, accessed on 16/3/2022, at: https://cutt.us/1f7i3

[10] Ministry of Information of Eritrea, “High-level Eritrean Delegation Headed by Foreign Minister Osman Saleh Conducting Visit in Crimea,” Shabait, 4/3/2022, accessed on 16/3/2022, at: https://cutt.us/fzW7B

[11] “Eritrean Delegation Visited Abkhazia, South Ossetia and Crimea,” Tesfa News, 12/6/2014, accessed on 16/3/2022, at: https://cutt.us/VwU3a

[12] “First Visit of the Eritrean Delegation to Abkhazia,” Abkhaz World, 10/6/2014, accessed on 16/3/2022, at: https://cutt.us/BBGcB

[13] عبد القادر محمد علي، "أمن البحر الأحمر: السياسة الخارجية الإريترية في بيئة متغيرة"، مركز الجزيرة للدراسات، 21/4/2021، شوهد في 18/3/2022، في: https://bit.ly/3IQ8inn

[14] Chris Devonshire-Ellis, “Eritrea Joins the Belt and Road Initiative,” Silk Road Briefing, 28/11/2021, accessed on 18/3/2022, at: https://cutt.us/SRF7e

[15] على سبيل المثال، أعلنت إرتيريا الحرب على نظام الإنقاذ الإسلامي في السودان في تسعينيات القرن الماضي، وعرضت استضافة قاعدة عسكرية أميركية في إطار ما سُمِّي بـ "الحرب على الإرهاب"، وأيّدت أيضًا الغزو الأميركي للعراق.

[16] عبد القادر محمد علي، "هل كان صراعًا على قرية؟ أصل الصراع بين إثيوبيا وإريتريا"، إضاءات، 18/8/2018، شوهد في 19/3/2022، في: https://cutt.us/FRjFP

[17] عبد القادر محمد علي، "انسحاب القوات الإريترية والأمهرية: الرؤية الأميركية لحل أزمة منطقة التيغراي"، مركز الجزيرة للدراسات، 14/3/2021، شوهد في 18/3/2022، في: https://cutt.us/jrecW

[18] “Imposing Sanctions in Connection with the Conflict in Ethiopia,” U.S. Department of State, 12/11/2021, accessed on 16/3/2022, at: https://cutt.us/QjQIY

[19] The White House, “Executive Order on Imposing Sanctions on Certain Persons with Respect to the Humanitarian and Human Rights Crisis in Ethiopia,” 17/9/2021, accessed on 16/3/2022, at: https://cutt.us/vtv61

[20] U.S. Department of The Treasury, “Treasury Sanctions Four Entities and Two Individuals in Connection with the Crisis in Ethiopia,” 12/11/2021, accessed on 16/3/2022, at: https://cutt.us/5Cow8

[21] Mary Harper, “Could Pariah State Eritrea Come in from the Cold?” BBC, 28/6/2016, accessed on 18/3/2022, at: https://cutt.us/zRERc

[22] في بيان صادر عن وزارة الإعلام الإرتيرية، رفضت إرتيريا هذه العقوبات، وأكدت أن "هدفها الأساسي" هو "غرس المعاناة والمجاعة في نفوس السكان لإثارة الاضطرابات السياسية"، ما يشي بشعور الحكومة الإرتيرية بأن من أهداف القرار التأثير في الداخل الإرتيري من أجل استهداف استمرارية سلطة النظام السياسي الحاكم حاليًا في أسمرة على نحو مباشر. ينظر:

Ministry of Information of Eritrea, “Press Statement: Eritrea Deplores Illicit and Immoral US Sanctions,” Shabait, 13/11/2021, accessed on 16/3/2022, at: https://cutt.us/iEWKl

[23] European Council, “Eu Imposes Further Sanctions over Serious Violations of Human Rights Around the World,” 22/3/2021, accessed on 16/3/2022, at: https://cutt.us/NBGdz

[24] "عقوبات أميركية على رئيس الأركان الإريتري على خلفية انتهاكات في تيغراي الإثيوبية"، العربي الجديد، 23/8/2021، شوهد في 16/3/2022، في: https://cutt.us/QYlyu

[25] United Nations, Human Rights Council, Report of the Commission of Inquiry on Human Rights in Eritrea (June 4, 2015), accessed on 16/3/2022, at: https://cutt.us/sJXxS

[26] “Russia, Italy and China Scoff at U.N. Monitoring Report on Eritrea,” Tesfa News, 17/7/2013, accessed on 16/3/2022, at: https://n9.cl/yf4i8

[27] Daniel Berhane, “US Dismisses Russia’s Concern over New Eritrea Sanction,” Tesfa News, 8/12/2011, accessed on 16/3/2022, at: https://n9.cl/l265f

[28] “Why Russia Abstained on a Draft Security Council Resolution on Somalia and Eritrea,” Tesfa News, 28/10/2014, accessed on 16/3/2022, at: https://cutt.us/fkzRe

[29] Fahad Shabbir, “Eritrea Interested in Russia's Missile Boats, Helicopters, Small Arms- Russia Gov't Agency,” UrduPoint, 23/10/2019, accessed on 16/3/2022, at: https://cutt.us/lZErB

[30] “Russia to Deliver Two Ansat Helicopters to Eritrea,” Tesfa News, 20/1/2020, accessed on 16/3/2022, at: https://cutt.us/Qhiaf

[31] "سفير إريتريا في موسكو: لا نعارض بناء مركز لوجيستي روسي في بلادنا"، سبوتنيك عربي، 10/2/2021، شوهد في 14/4/2022، في: https://sptnkne.ws/FrsV

[32] Paul Stronski, Late to the Party: Russia’s Return to Africa (Washington: Carnegie Endowment for International Peace, 2019), p. 22.

[33] “Tiny Desert Nation Bids to Host Troops,” The Washington Times, 12/12/2002, accessed on 18/3/2022, at: https://cutt.us/GO8UD 

[34] وفقًا للبروفيسور أليكس دي وال، فإن المقصود بالسوق السياسية هو: "نظام حكم معاصر تُدار فيه السياسة على أنها تبادل للخدمات السياسية، أو الولاء مقابل الدفع"، فهو يتميز بـ "انتشار البحث عن الريع والمحسوبية النقدية، مع استخدام العنف بشكل روتيني بوصفه أداة لجني الريع. وهو مُدمج في الدوائر الإقليمية والعالمية للتمويل السياسي"، ويصلح جزئيًا لفهم سياسة إرتيريا الخارجية عمومًا. ينظر:

Alex De Waal, The Real Politics of the Horn of Africa: Money, War and the Business of Power (United Kingdom: Polity, 2015), p. 28.

[35] Stronski, p. 22.

[36] كان التدخل الإرتيري في الحرب الإثيوبية حاسمًا. ويُعتقد أن أفورقي يقف خلف تشكيل التحالف الثلاثي بين إرتيريا وإثيوبيا والصومال عام 2018. ينظر: عبد القادر محمد علي، "التحالف الثلاثي بين إثيوبيا وإريتريا والصومال.. الطموحات والنتائج"، المعهد المصري للدراسات، 10/8/2021، شوهد في 18/3/2022، في: https://cutt.us/GYmkx

[37] "مجلس الأمن يستعد لفرض عقوبات على إريتريا"، رويترز، 23/12/2009، شوهد في 20/3/2022، في: https://cutt.us/tzO0E

[38] رغم السيطرة الحكومية على الاقتصاد الإرتيري، فقد رحّبت أسمرة بدخول الروس في المجال الاستثماري في البلاد، وأهم المشاريع المشتركة حاليًّا ما أعلنته شركة "يوروكيم" EuroChem الروسية العملاقة؛ إذ إنها ستشتري البوتاس من منجم كولولي الإرتيري، وتسوّقه. ويُتوقَّع لهذا المشروع أن يجعل إرتيريا ضمن أكبر عشرة منتجين للبوتاس عالميًّا، وأن يُحدث نقلة في اقتصاد البلاد، ينظر:

Jason Mitchell, “Could Potash Bring Eritrea in from the Cold?” Investment Monitor, 14/1/2022, accessed on 16/3/2022, at: https://cutt.us/K5nEu; Andy Hemphill, “Russia’s EuroChem Strengthens Potash Prospects with Deal in Eritrea,” Independent Commodity Intelligence Services, 12/6/2018, accessed on 16/3/2022, at: https://cutt.us/KpOtf

[39] Human Rights Watch, Eritrea Events of 2020, World Report 2021, accessed on 18/3/2022, at: https://cutt.us/PqOAK

[40] Salem Solomon, “From the CAR to Eritrea, Russia’s African Ambitions Unfold,” Voice of America, 10/11/2018, accessed on 14/4/2021, at: https://cutt.us/JdiMK