شهد العقد الأخير تحوّل القرن الأفريقي إلى ساحة تنافس جيوستراتيجي لمجموعة من الفاعلين الدوليين والإقليميين، حيث برز في هذا السياق دورُ قوى شرق أوسطية مختلفة تحاول إيجاد، أو ترسيخ، مواطئ أقدام لها في ذلك المكان الحيوي من العالم.
بالنظر إلى طبيعة التحالفات التي جرت صياغتها بين هذه القوى الخارجية ودول المنطقة، فقد كان من المتوقع أن تمسّ الأزمة الناتجة من الحرب الدائرة في إثيوبيا ذات الدور المركزي في القرن الأفريقي مصالح الفاعلين الناشطين في الإقليم، وأن تؤثر في طريقة استجابتهم للتحديات التي أفرزتها تلك الحرب.
غير أن المفارقة التي تهدف الورقة إلى توضيح دوافعها تتمثل في وقوف كل من الإمارات وتركيا وإيران إلى جانب الحكومة الإثيوبية، رغم المنافسة المعروفة بين أضلُع هذا المثلث، والتي امتدت ساحاتها خارج منطقة الشرق الأوسط. واللافت أن هذا الدعم لأديس أبابا سابق لمجريات المصالحة الأخيرة بين أبوظبي وأنقرة.
أولًا: الإمارات والمقاربة العابرة للبحر الأحمر
تردد اسم الإمارات العربية المتحدة بوصفها طرفًا فاعلًا في الحرب الإثيوبية في وقت مبكر بعد اندلاعها في 4 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، فقد تتابعت اتهامات قادة سياسيين وعسكريين من الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي لأبوظبي بالمشاركة إلى جانب الحكومة الإثيوبية، من خلال استخدام طائراتها المسيّرة المنطلقة من قاعدتها العسكرية قرب مدينة عصب الإرتيرية[1]، حيث أدت هذه الهجمات إلى كسر العمود الفقري للقوة المقاتلة للجبهة[2] وكانت عاملًا مهمًا في هزيمتها الأولى التي توّجت بدخول الجيش الإثيوبي إلى مقلي عاصمة إقليم تيغراي بعد قرابة ثلاثة أسابيع من بداية الحرب.
لوحظ هذا الدعم العسكري مرة أخرى بعد انقلاب الكفة العسكرية لمصلحة التيغراي في صيف عام 2021، حيث رُصد جسر جوي إماراتي لدعم الحكومة الإثيوبية قام بأكثر من 90 رحلة جوية بين البلدين في المدة أيلول/ سبتمبر - تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، ووثّقت صور أقمار صناعية طائرات مسيرة إماراتية في مطار هرار ميدا في إثيوبيا، وفي قاعدة عسكرية في مدينة دير داوا شرق البلاد[3].
يعدّ موقف الإمارات الداعم للحكومة الفدرالية امتدادًا لاستراتيجيتها الرامية إلى بناء منظومة سياسية أمنية حليفة عابرة للبحر الأحمر، والتي بدأت تتضح ملامحها خلال العقد الماضي الذي شهد اندفاعة أبوظبي نحو القرن الأفريقي، بفعل عوامل متشابكة على رأسها تداعيات أزمة انخفاض أسعار الطاقة بعد عام 2014 وما أفرزته من توجه خليجي نحو توسيع القاعدة الاقتصادية من خلال الاستثمار في الأسواق الأفريقية[4]، إضافة إلى ثورات الربيع العربي وصعود تيارات الإسلام السياسي التي دفعت الإمارات إلى إنشاء تحالفات عبر الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والقرن الأفريقي لوقف انتشار ما رأته تهديدًا لها[5]، فضلًا عن احتدام الصراع مع إيران الذي بلغ ذروته في حرب اليمن، وتمكُّن المتمردين الحوثيين من السيطرة على مناطق قريبة من باب المندب، وتصاعد الاحتمالات باستيلاء المجموعة الحليفة لإيران عليه[6]. دفعت هذه العوامل أبوظبي إلى زيادة اهتمامها بتوسيع حضورها بأشكال مختلفة في جنوب البحر الأحمر، لتضمن وجودًا عسكريًا في اليمن وقاعدة عسكرية في إرتيريا وحضورًا سياسيًا واقتصاديًا في الصومال وإثيوبيا.
مثّلت إثيوبيا سوقًا اقتصادية واعدة بعدد سكانها الذي يزيد على مئة مليون نسمة أغلبهم من فئة الشباب، وتحوّلت إلى أحد أسرع الاقتصادات نموًا في العالم بعد أن حققت خلال سنوات متتابعة معدل نمو سنوي بلغ متوسطه 10 في المئة[7]، كما أنّ ثقلها الجيوستراتيجي يعتبر إحدى الدعائم المحورية في منطقة القرن الأفريقي، حيث طورت أبوظبي استراتيجيتها لتعزيز نفوذها في بلاد الحبشة من خلال الدعم السياسي والاستثمارات الاقتصادية[8].
تمثلت أبرز خطوات هذه الاستراتيجية في رعاية أبوظبي عملية السلام الإرتيرية - الإثيوبية التي أنهت حالة اللاحرب واللاسلم المستمرة بين الجارتين طوال 18 عامًا بعد جولات حرب حدودية دامية في المدة 1998-2000، وقد أعقب انطلاقُ هذه العملية صعود آبي أحمد إلى سدة رئاسة الوزراء في إثيوبيا، حيث رأت فيه أبوظبي "زعيمًا لديه رؤية في إجراء تحول على اقتصاد إثيوبيا ومكانتها الإقليمية"[9]، وشدّت الإمارات فرصٌ محتملة في القطاع العقاري والبنية التحتية واللوجستيات والطاقة والاتصالات، التي يرتبط بعضها بخطط الخصخصة التي وعد بها آبي[10].
من منظور جيوستراتيجي، كانت الاستراتيجية الإماراتية تقوم على تشكيل محور قرن أفريقي حليف نواته إثيوبيا وإرتيريا، يكون ثقلًا جيوسياسيًا موازيًا للثقل التركي في الصومال والسودان، وهذا ما يفسر جزئيًا الاتهامات الإرتيرية المتكررة لأنقرة بدعم جهات معارضة للنظام[11]، واتهام الرئيس الإرتيري أسياس أفورقي أنقرة بـ "تعقيد المشاكل الداخلية في المنطقة"[12]، في رد فعل على زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان السودان في كانون الأول/ديسمبر 2017 وتوقيع اتفاقيات تضمنت تأجير الخرطوم جزيرة سواكن السودانية لأنقرة.
في هذا السياق كان التخلص من الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي مصلحة مشتركة لآبي أحمد وأبوظبي، حيث مثّلت أخطر منافسي رئيس الوزراء السياسيين على الإطلاق حتى قبل أن يتولى منصبه. ومن منظور الإمارات فقد كان من الحتمي إزالة العوائق أمام استمرارية أحمد في السلطة في إثيوبيا، وهو ما يُعدّ ركنًا أساسيًا في استراتيجيتها لإعادة صياغة موازين القوى في منطقة القرن الأفريقي.
وقفت أبوظبي إلى جانب الحكومة الإثيوبية بعد اندلاع الحرب في تيغراي، حيث أصبحت عودة الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي إلى السلطة تمثّل تهديدًا جديًا لمنظومة الاستثمارات السياسية والاقتصادية الإماراتية التي كرّستها خلال السنوات الماضية، ولا سيما أن التيغراي كانوا ينظرون إلى أبوظبي بعين الريبة نتيجة دعمها لرئيس الوزراء آبي أحمد ورعايتها اتفاقية السلام مع إرتيريا قبل الحرب، وينظرون إليها أيضًا بعين العداوة بعد أن كانت طائراتها المسيّرة العامل الحاسم في هزيمتهم الأولى في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020.
ثانيًا: المسيّرات التركية ومصالح أنقرة في إثيوبيا
مثّلت زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد أنقرة في 18 آب/ أغسطس 2021 نقطة انعطاف في العلاقة بين البلدين التي أصابها الفتور مقارنة بالتطور اللافت، سابقًا، لعلاقات أديس أبابا بمحور أبوظبي - الرياض بعد أن تولى أحمد رئاسة الوزراء في آذار/ مارس 2018.
يمكن إرجاع هذه الخطوة، أساسًا، إلى الضغوط العسكرية على أديس أبابا بعد تقهقر قواتها أمام تقدّم قوات دفاع تيغراي الصيف الماضي، وخسارتها السيطرة على الإقليم وتمدد الحرب إلى أقاليم أخرى مهددةً العاصمة خريف العام 2021[13]. ويبدو هذا الدافع واضحًا في تصريح أحمد حول زيارته أنقرة حيث ذكر أنه "من المهم للغاية بالنسبة إلينا أن تُظهر تركيا صداقتها الحقيقية عندما تحتاج إليها إثيوبيا"[14].
خلال هذه الزيارة، جرى توقيع حزمة من الاتفاقيات شملت القطاع العسكري[15]، وهو ما انعكس على قيمة الصادرات العسكرية التركية إلى إثيوبيا، التي ذكرت مؤسسة الصناعات الدفاعية التركية أنها ارتفعت من 234 ألف دولار عام 2020 إلى 94.6 مليون دولار بحلول تشرين الثاني/ نوفمبر 2021
[16].
قبل هذه الزيارة، ذكرت مصادر من التيغراي تزويد أنقرة الجيش الإثيوبي بطائرات مسيّرة ضمن برنامج يشرف عليه المدير العام للمخابرات الإثيوبية تمسقن تيرونه[17]، وهو ما نفته السفارة التركية في أديس أبابا حينها[18]. وتكثفت لاحقًا التقارير حول دور المسيّرات التركية التي استخدمها الجيش الفدرالي الإثيوبي في هجومه المضاد على قوات التيغراي، وفي المقابل، لم يصدر أي رد فعل تركي رسمي ينفيها هذه المرة. يمكن تفسير هذا التطور في العلاقات العسكرية بين الطرفين بأنه امتدادٌ لمقاربة تركية جديدة حيال التدخل في الأزمات الإقليمية لإعادة "التوازن بين القوة الناعمة والقوة الصلبة لصالح الأخيرة"[19].
وفقًا لاستراتيجية تركيا الأفريقية اكتست إثيوبيا أهمية بارزة؛ حيث تتمتع أديس أبابا بثقل جيوسياسي كبير في القرن الأفريقي وشرق أفريقيا عمومًا، ومن المتوقع أن يتزايد مع اكتمال سد النهضة وتحوّلها إلى مركز إقليمي للطاقة[20]، إضافة إلى أهميتها في التوازنات داخل حوض النيل في إطار الصراع بين القوى الإقليمية في الشرق الأوسط، ما يمكّن أنقرة، على سبيل المثال، من امتلاك أوراق ضغط على القاهرة بعد استبعادها تركيا من منتدى غاز شرق المتوسط بسبب وقوف هذه الأخيرة إلى جانب إثيوبيا، ولذا فقد شهدت العلاقات التركية - الإثيوبية نقلة كبيرة بالتوازي مع التوتر الذي طبع العلاقة بين القاهرة وأنقرة خصوصًا بعد وصول الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى السلطة في مصر[21]. وقد دعم هذه العلاقات حاجة كل من البلدين إلى الآخر في ملفات حساسة، كحاجة تركيا إلى داعم أفريقي قوي في موقفها من الصراع الدائر في ليبيا، وحاجة إثيوبيا إلى حليف مسلم وشرق أوسطي قوي في مقابل التكتل العربي الداعم للقاهرة[22].
في هذا الإطار، اختارت أنقرة دعم الحكومة الإثيوبية مستفيدةً من الفرصة المتمثلة في لجوء آبي أحمد إليها لبناء تحالف سياسي استراتيجي بين الطرفين، حيث شدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على "أهمية سلام واستقرار ووحدة إثيوبيا"[23].
اقتصاديًا، تسعى تركيا إلى حماية استثماراتها في إثيوبيا[24]، كما أن دعم الحكومة الإثيوبية بالطائرات المسيّرة يمنَح السلاح التركي سمعة ممتازة في السوق العسكرية الأمنية الأفريقية بعد أن أثبت نجاحه في ساحة حرب أخرى في أفريقيا[25]. وسيتيح هذا لأنقرة فرصة المساهمة في عملية إعادة تأهيل الجيش الإثيوبي تسليحًا وتدريبًا بعد الحرب - وهو أكبر جيش في أفريقيا - ما يعني نفوذًا أكبر لأنقرة مستقبلًا، وشراكاتٍ أمنيةً في مجالات مختلفة. وتدل مساهمة الدعم التركي في تحقيق انتصارات الحكومة الإثيوبية مؤخرًا على أن شركات الإنشاء والبناء التركية ستكون لها مساهمة معتبرة في عمليات إعادة بناء البنى التحتية وإعمار المناطق التي دمرتها المعارك.
ومن الناحية الجيوسياسية، فإن منع سيناريو انهيار إثيوبيا يجنب جارتها الصومال تداعياته الخطيرة، حيث تمثل الأخيرة نقطة ارتكاز النفوذ التركي في القرن الأفريقي والبحر الأحمر، ولا سيما بالنظر إلى عاملين مهمين: الأول أن أديس أبابا هي أهم المساهمين في قوات مكافحة الإرهاب في الصومال منفردة أو ضمن بعثة الاتحاد الأفريقي في الصومال (أميصوم)، والثاني الحرب المعلنة من "حركة الشباب" على المصالح التركية في البلاد نتيجة دعم أنقرة حكومة مقديشو[26].
يبدو التنافس المصري التركي في الشرق الأوسط عاملًا مهمًا في تحديد اصطفاف أنقرة إلى جانب إثيوبيا، بالنظر إلى التردي المستمر في علاقة القاهرة بأديس أبابا في عهد آبي أحمد على خلفية الموقف من ملف سد النهضة وترتيباته، في المقابل ربما تمثّل الارتباطات التي كوّنتها الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي مع قوى خارجية، ولا سيما مصر، عامل قلق لأنقرة في حال تمكُّنها من الوصول إلى الحكم في أديس أبابا، وهي علاقة تؤكّدها الحكومة الإثيوبية وينفيها التيغراي.
ثالثًا: إيران والعودة إلى القرن الأفريقي
يحتل القرن الأفريقي مكانة متقدمة في سياسة إيران تجاه أفريقيا[27]، نتيجة لموقعه الاستراتيجي المطلّ على باب المندب والبحر الأحمر واعتباره المدخل الشرقي لأفريقيا، وتزايدت هذه الأهمية بعد استيلاء جماعة "أنصار الله" الحوثية على السلطة في اليمن.
مع تصاعد الحرب في تيغراي، تحدثت العديد من المصادر عن دعم عسكري إيراني للحكومة الإثيوبية، حيث اتهم دبرصيون جبريمكايل، قائد الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، طهران بدعم الجيش الفدرالي الإثيوبي بأسلحة تضمنت طائرات من دون طيار، وذلك في رسالته إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في 7 كانون الأول/ ديسمبر 2021
[28].
نفى مسؤولون إثيوبيون استيراد سلاح من إيران[29] إلا أن تحليل موقع بلينكات الاستقصائي نشر صورًا لأقمار صناعية تؤكّد وجود مسيّرات إيرانية من نوع "مهاجر6" في إثيوبيا، ورصد متتبع الطائرات "غيرجون" Gerjon، في المدة آب/ أغسطس - كانون الأول/ ديسمبر، 15 رحلة من إيران إلى مطار أديس أبابا الدولي وقاعدة هرار ميدا العسكرية، قامت بها شركتا الطيران "فارس إير قشم" وشركة "طيران بويا"Pouya Air، وهما شركتان مرتبطتان بالحرس الثوري الإيراني وخاضعتان لعقوبات مكتب مراقبة الأصول الأجنبية الأميركي منذ عام 2018
[30].
ويرجِّح صحة هذا الاتهام العقوبات التي فرضتها وزارة الخزانة الأميركية في 29 تشرين الأول/ أكتوبر 2021، على كيانات وأشخاص قدّموا دعمًا حاسمًا لبرنامج الطائرات المسيّرة التابعة للحرس الثوري الإيراني، حيث ورد في حيثيات القرار أنّ هذا النوع من الأسلحة صُدّر إلى إثيوبيا[31].
كانت إيران منفتحة على توسيع علاقاتها مع إثيوبيا، رغم العلاقات المتينة التي ربطت أديس أبابا بواشنطن وتل أبيب، حيث شهد التعاون بين الطرفين تطورًا لافتًا في مجالات مختلفة اقتصادية وثقافية وتعليمية، ومثّلت طهران سوق التصدير الثالثة لأديس أبابا على مستوى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا[32].
سياسيًا، يقول السفير الإيراني السابق في إثيوبيا بهزاد خاكبور "للبلدين مواقف متشابهة تجاه العديد من القضايا العالمية"، ويبرز في هذا السياق موقف إثيوبيا الداعم للاتفاق النووي بين إيران ومجموعة 5+1، والذي كررته أكثر من مرة[33]. وقد تفاءلت طهران بوصول آبي أحمد إلى السلطة في أديس أبابا[34]، فالخطاب السياسي الذي تبناه، في سياق مواجهة الضغوطات الغربية عليه بعد اندلاع حرب تيغراي، مثّل عاملًا مؤثرًا في تمهيد الأرضية للتقارب مع إيران، حيث تبنّت أديس أبابا سردية مناهضة لما تصفه بتدخّل القوى الاستعمارية، ولا سيما الولايات المتحدة، الهادف إلى الهيمنة على القرار الإثيوبي[35]، وهو ما يتفق إلى حد بعيد مع خطاب طهران المعادي للولايات المتحدة.
يُعرف عن استراتيجية إيران دعم حلفائها بالطائرات المسيّرة، ما يشي بالأهمية التي توليها طهران للتعاون مع إثيوبيا من جهة، وبرغبتها في دخول سوق السلاح الأفريقية من جهة أخرى، بما في ذلك ترويجها لقدرتها في مجال محاربة "التنظيمات المتطرفة" التي تتمدد في مناطق مختلفة من القارة الأفريقية.
وترى إيران في شراكتها مع إثيوبيا اختراقًا جيوستراتيجيًا جديًا، حيث مثّلت أديس أبابا، تاريخيًا، حليفًا مهمًا لكل من الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة، والإمارات وتركيا، ووجودهما المتزايد في الساحة الإثيوبية من جهة أخرى. إضافة إلى قرب إثيوبيا من اليمن وحلفاء الولايات المتحدة في شبه الجزيرة العربية، وكذلك البحر الأحمر الذي بدأ في التحول إلى ساحة مواجهة إيرانية - إسرائيلية مؤخرًا[36]، فإن طهران ستسعى من خلال العلاقة بإثيوبيا إلى تعزيز حضورها في القرن الأفريقي، بعد أن فقدت أهم حلفائها فيه، وهما إرتيريا والسودان؛ نتيجة الضغوطات السعودية - الإماراتية وسقوط نظام الإنقاذ في أعقاب الثورة السودانية.
أما اقتصاديًا فقد شهدت التبادلات التجارية بين إثيوبيا وإيران طفرة بعد توقيع الاتفاق النووي بين طهران ومجموعة 5+1 ورفع القيود والعقوبات عام 2015[37]، فطهران ترى أن تطوير التعاون مع إثيوبيا سيمكّنها من توسيع نشاطها الاقتصادي في بلاد الحبشة، في حال نجاح المحادثات الجارية في جنيف لإحياء الاتفاق من جديد، ليس بالنظر إلى الميزات الاقتصادية للسوق الإثيوبية فقط بل بالنظر أيضًا إلى حاجة أديس أبابا الماسّة إلى الدعم الاقتصادي والاستثمارات لمعالجة آثار الحرب المدمرة.
خلاصة
ساهم دعم الدول الثلاث للحكومة الإثيوبية على نحو جوهري في تغيير مجرى الحرب في البلاد، وهزيمة قوات دفاع تيغراي ودفعها إلى داخل حدود إقليمها بعد أن كانت تهدد بدخول العاصمة الإثيوبية. ويعبر هذا التدخل الحاسم من جهة عن زيادة نفوذ القوى الإقليمية الصاعدة في دولة تعدّ تاريخيًا مجالًا للنفوذ الأميركي، ويعبر من جهة أخرى عن تراجع القدرة الأميركية على فرض رؤاها الاستراتيجية لحل النزاع الإثيوبي على حليفتيها تركيا والإمارات؛ حيث كانت مقاربة واشنطن في عهد مبعوثها السابق للقرن الأفريقي جيفري فيلتمان ترتكز على الضغط المستمر على الحكومة الإثيوبية لدفعها إلى التفاوض، في حين اختارت أنقرة وأبوظبي الوقوف إلى جانب الحكومة الإثيوبية، وهو سلوك في السياسة الخارجية قائم على المحافظة على المصالح الخاصة للدولة، اتضح أكثر في مواقف الإمارات وتركيا من الحرب في أوكرانيا.
كشفت هذه الحرب، عسكريًا، عن وجود بدائل مختلفة للتسليح في وجه الحصار الغربي المضروب على أديس أبابا، وعن دور المسيّرات المنخفضة التكلفة والقابلة للتصنيع خارج المنظومة الغربية بوصفها عاملًا جوهريًا في تحديد مسار النزاعات، وهو ما يُتوقّع رؤية آثاره مستقبلًا في النقاط الأفريقية الملتهبة.
يكشف تعيين واشنطن مبعوثها الجديد للقرن الأفريقي ديفيد ساترفيلد عن سعيها لتبنِّي نهج تعاوني متعدد الأطراف يقوم على التواصل وإعادة الارتباط مع الفاعلين الإقليميين في المنطقة، والاعتراف بمصالحهم في إطار تشجيعهم على أن يكونوا جزءًا من المقاربات الدولية المتعددة الأطراف التي تقودها واشنطن من أجل إنهاء بعض صراعات المنطقة، والتأكيد على شراكة واشنطن الاستراتيجية لدول المنطقة المتجهة بعضها صوب الصين وروسيا في مواجهة الضغوط الغربية عليها[38]. ويؤمل أن يصب هذا التوجه في مصلحة القرن الأفريقي، حيث ساهمت الاستراتيجيات التنافسية في المرحلة الماضية في تأزيم الأوضاع السياسية في المنطقة.
أما التطور في العلاقات الإيرانية - الإثيوبية فسوف يتوقف على العديد من العوامل المرتبطة بقدرة أديس أبابا على مقاومة الضغوطات الأميركية الإسرائيلية المتعلقة بهذا الملف تحديدًا من جهة، وتصاعد الحرب في إقليم تيغراي مرة أخرى وحاجة إثيوبيا إلى التسليح من جديد من جهة أخرى.
[1] Paravicini Giulia, “In Escalation of Ethiopia War ,Tigray Leader Says His Forces Fired Rockets at Eritrea,”
Reuters, 15/11/2021, accessed on, 30/3/2022, at:
https://reut.rs/3jG9QXb
[2] “General Tsadekan Gebretensae Exclusive Interview with Dimtsi Weyane Tigray ,Broadcast on May 2021, 29,”
TGHAT, 7/6/2021, accessed on 30/3/2022, at:
https://bit.ly/3xwaFtE
[3] عباس محمد صالح عباس، "الأبعاد الاستراتيجية لدخول الطائرات المسيّرة ’درونز‘ في نزاع تيغراي"،
ورقة تحليلية، مركز الجزيرة للدراسات، 16/1/2022، شوهد في 30/3/2022، في:https://bit.ly/3uE9u9O
[4] Will Todman, “The Gulf Scramble for Africa: GCC States’ Foreign Policy Laboratory,” CSIS (November 2018), pp. 1-2, 20.
[5] Jessica Larsen & Finn Steppuant, “Gulf State Rivalries in the Horn of Africa: Time for a Red Sea Policy?” Danish Institute for International Studies (2019), p. 2.
[6] “The United Arab Emirates in the Horn of Africa,”
InternationalCrisisGroupMiddle East Briefing, no. 65, 6/11/2018, p. 7.
[7] David Lawrence, “Ethiopian Reforms Attract Investor Interest,”
IFC, February 2020, accessed on 30/3/2022, at:
https://bit.ly/3uI94zk
[8] “UAE Injects $3B into Ethiopia’s Cash-strapped Economy,” Anadolu Agency, 16/6/2018, accessed on 30/3/2022, at:
https://bit.ly/3EbsXBV
[9] مجموعة الأزمات الدولية،
التنافس بين دول الخليج في القرن الإفريقي: تخفيف الأثر، تقرير الشرق الأوسط رقم 206 (بروكسل 2019)، ص 12.
[10] المرجع نفسه.
[11] "إريتريا تتهم تركيا وقطر رسميًا بدعم المعارضة لزعزعة استقرارها"،
العين الإخبارية، 4/4/2019، شوهد في 30/3/2022، في: https://bit.ly/36daoAB
[12] “Interview with President Isaias Afwerki (Part II),”
TesfaNews, 24/1/2018, accessed on 30/3/2022, at:
https://bit.ly/36bF19A
[13] عبد القادر محمد علي، "هل يتكرر سيناريو سقوط كابول في إثيوبيا؟"،
تي آر تيعربي، 18/11/2021، شوهد في 31/3/2022، في:https://bit.ly/3vfmDoJ
[14] “Etiyopya: Türkiye Küresel İlişkilere Şekil Veren Bir Ülke,”
M5SavunmaStrateji, 19/8/2021, accessed on 31/3/2021, at:
https://bit.ly/36bo27g
[15] عبد القادر محمد علي، "تركيا وإثيوبيا.. من الشراكة الاقتصادية إلى التحالف الاستراتيجي"، المعهد المصري للدراسات الاستراتيجية، 14/9/2021، شوهد في 31/3/2022، في:https://bit.ly/38QkFUp
[16] “KUŞ, Hakan, Savunmada ABD'ye ihracat 1 milyar doları aştı,”
Dunya, 7/12/2021, accessed on 31/3/2022, at:
https://bit.ly/3vhKvIp
[17] Martin Plaut, “Breaking: Turkish Drones Reportedly Being Constructed in Addis,”
EritreaHub, 14/7/2021, accessed on 31/3/2022, at:
https://bit.ly/3uFbVZy
[18] حساب السفارة التركية في أديس أبابا على تويتر، شوهد في 31/3/2022، في:
https://bit.ly/3EfQSQp
[19] Jason Mosley, “Turkey and The Gulf States in The Horn of Africa: Fluctuating Dynamics of Engagement, Investment and Influence,” Rift Valley Institute (2021), p. 31.
[20] عبد القادر محمد علي، "توليد الطاقة الكهربائية: خلفيات القرار الإثيوبي وخيارات دولتي المصب"،
ورقة تحليلية، مركز الجزيرة للدراسات، 15/3/2022، شوهد في 31/3/2022، في:https://bit.ly/3OavlNP
[21] Fehim Tastekin, “Turkey Views Ties with Ethiopia as Key to Influence in Africa,”
Al-Monitor, 18/8/2021, accessed on 6/9/2021, at:
https://bit.ly/3OafUoM
[22] إسماعيل سلمان، "الوساطة التركية.. إثيوبيا تبحث عن حل ’غير عربي‘ في الخلاف مع السودان"،
الرؤية، 18/2/2021، شوهد في 31/3/2022، في:
https://bit.ly/3uEL7IW
[23] "خلال استقباله آبي أحمد.. أردوغان يؤكد استعداد بلاده لحل النزاع بين السودان وإثيوبيا"، الجزيرة، 18/8/2021، شوهد في 31/3/2022، في:
https://bit.ly/3JEVNvl
[24] تعدّ أنقرة ثاني أكبر مستثمر في الاقتصاد الإثيوبي بعد الصين، ينظر: "تركيا ثاني أكبر مستثمر في إثيوبيا بعد الصين"،
ترك برس، 15/2/2021، شوهد في 31/3/2022، في:
https://bit.ly/36bTimD
[25] ثمة تزايد في وتيرة التعاون العسكري الأمني للدول الأفريقية مع تركيا، ينظر: عبد القادر محمد علي، "الحضور العسكري التركي في إفريقيا.. الدوافع والتحديات"،
ورقة تحليلية، مركز الجزيرة للدراسات، 4/1/2022، شوهد في 31/3/2022، في:https://bit.ly/3rpjCkM
[26] عبد القادر محمد علي، "تصاعد الصراع في إثيوبيا وعواقبه على قوى الشرق الأوسط"،
ورقة تحليلية، مركز الجزيرة للدراسات، 24/8/2021، شوهد في 31/3/2022، في:
https://bit.ly/3EftiDm
[27] Jeffrey Lefebvre, “Iran’s Scramble for Sub-Saharan Africa Author,”
InsightTurkey, vol. 21, no. 1 (Winter 2019), p. 148.
[28] “TPLF Accuses Iran, Turkey, UAE of Arming Ethiopian Government,”
Statecraft, 7/12/2021, accessed on 1/4/2022, at:
https://bit.ly/3rpvX8x
[29] “Post Falsely Claims that Iran Sent Modern Russian-made Missile Defence Systems to Ethiopia,”
AFP, 5/7/2021, accessed on 1/4/2022, at:
https://bit.ly/37gvgHC
[30] عباس.
[31] “Treasury Sanctions Network and Individuals in Connection with Iran’s Unmanned Aerial Vehicle Program,”
U.SDepartmentofTheTreasury, 29/10/2021, accessed on 1/4/2022, at:
https://bit.ly/37OuscR
[32] Banafsheh Keynoush, “Iran to Remain a Key Partner for Ethiopia in the Tigray Conflict,”
MEI, 26/1/2022, accessed on 1/4/2022, at:
https://bit.ly/3vhPo4d
[33] Yonas Abiye, “Ethio-Iranian Relations: Old Kingdoms in the New Era,”
The Reporter, 23/2/2019, accessed on 1/4/2022, at:
https://bit.ly/3EbyVCC
[34] Ibid.
[35] ينظر مثلًا:
“Ethiopia’s Prime Minister Says He Will Lead Troops Battling Tigrayan,”
PRESSTV, 23/11/2021, accessed on 1/4/2022, at:
https://bit.ly/3KHD2sN; Tesfa-Alem Tekle, “Ethiopia Threatens to ‘Review’ US Relations in the Wake of Sanctions,”
The East African, 26/5/2021, accessed on 2/4/2022, at:
https://bit.ly/3xsNf8H
[36] Farzin Nadimi, “Iran and Israel’s Undeclared War at Sea (Part 2): The Potential for Military Escalation,” The Washington Institute, 13/4/2021, accessed on 2/4/2022, at:
https://bit.ly/3M5Unfi
[37] Abiye.
[38] عباس محمد صالح، "القرن الإفريقي.. ما وراء جولة المبعوث الأمريكي الجديد"،
تي آر تيعربي، 1/2/2022، شوهد في 2/4/2022، في:
https://cutt.us/mXxBT