العنوان هنا
تقارير 04 أغسطس ، 2022

تونس: من انقلاب 25 تموز/ يوليو إلى الاستفتاء على تغيير الدستور

وحدة الدراسات السياسية

هي الوحدة المكلفة في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بدراسة القضايا الراهنة في المنطقة العربية وتحليلها. تقوم الوحدة بإصدار منشورات تلتزم معايير علميةً رصينةً ضمن ثلاث سلسلات هي؛ تقدير موقف، وتحليل سياسات، وتقييم حالة. تهدف الوحدة إلى إنجاز تحليلات تلبي حاجة القراء من أكاديميين، وصنّاع قرار، ومن الجمهور العامّ في البلاد العربية وغيرها. يساهم في رفد الإنتاج العلمي لهذه الوحدة باحثون متخصصون من داخل المركز العربي وخارجه، وفقًا للقضية المطروحة للنقاش..

مقدمة

عقد الرئيس التونسي، قيس سعيّد، مساء الأحد 25 تموز/ يوليو 2021، اجتماعًا طارئًا مع قيادات أمنية وعسكرية، أعلن بعده عن "اتخاذ تدابير يقتضيها الوضع لإنقاذ الدولة والمجتمع بعد التشاور مع رئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب". وتمثّلت القرارات المعلَنة في "تجميد كل اختصاصات المجلس النيابي، ورفع الحصانة عن جميع أعضائه"، و"تولي رئاسة النيابة العمومية"، و"تولي السلطة التنفيذية بمساعدة حكومة يرأسها رئيس حكومة يعيّنه رئيس الجمهورية". كما أعلن عن قراره "إعفاء رئيس الحكومة، هشام المشيشي، فورًا ودعوة شخص آخر ليتولى رئاسة الحكومة، على أن يكون مسؤولًا أمام رئيس الجمهورية الذي يتولّى بنفسه تعيين أعضاء الحكومة ورئاسة مجلس الوزراء". وتوعّد سعيّد "أي شخص يتطاول على الدولة وعلى رموزها ومن يطلق رصاصة واحدة"، بـ "مجابهته بوابل من الرصاص"، متّهمًا خصومه بـ "النفاق والغدر والسطو"[1].

وفي إثر الكلمة التي ألقاها سعيّد في الاجتماع، نشرت رئاسة الجمهورية جملة القرارات المعلَنة باستثناء تولي رئيس الجمهورية رئاسة النيابة العمومية، كما تمّ تحديد مدة تجميد اختصاصات مجلس النواب بثلاثين يومًا. وفي اليوم التالي، أصدر سعيّد أوامر رئاسية بعزل وزير الدفاع ووزيرة العدل بالنيابة، فضلًا عن رئيس الحكومة، وتعطيل العمل في الإدارات العمومية مدة يومين قابلين للتمديد، وحظر التجوال الليلي مدة شهر، ومنع كل تجمّع يفوق ثلاثة أشخاص[2].

أعلن سعيّد أن القرارات المتخذة تستند إلى الفصل 80 من الدستور، الذي ينص على أن "لرئيس الجمهورية في حالة خطر داهم مهدِّد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذّر معه السير العادي لشؤون الدولة، أن يتخذ التدابير التي تحتّمها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية"[3]، كما ينص على أن مجلس نواب الشعب "يُعتبر في حالة انعقاد دائم طيلة هذه الفترة"، وعلى أنه "في هذه الحالة لا يجوز لرئيس الجمهورية حل مجلس نواب الشعب، كما لا يجوز تقديم لائحة لوم ضد الحكومة". لكن سعيّد خالف بوضوح نص هذه المادة؛ فبدلًا من أن يقوم باستشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب، أقال الأولَ وجمّد عملَ الثاني. ثمّ إنّ المادة المذكورة لا تنصّ على تولّي رئيس الجمهورية رئاسة النيابة العمومية؛ ما يعني وضع السلطة القضائية تحت سلطته[4].

وفي ظل غياب المحكمة الدستورية التي تبتّ في استمرار الحالة الاستثنائية من عدمه في غضون ثلاثين يومًا من إعلانها، بحسب الفصل 80 من الدستور، قرر سعيّد، في 23 آب/ أغسطس 2021، تمديد سريان العمل بالإجراءات الاستثنائية إلى إشعار آخر[5]. وعلى الرغم من أنّه كان قد وعد في 25 تموز/ يوليو بأنّه سيعيّن رئيس حكومة بنفسه خلفًا لرئيس الحكومة المُقال، فإنه لم يَفِ بوعده واختار اللجوء إلى تمديد الحالة الاستثنائية، بدلًا من التعجيل بتقديم خريطة طريق تنسجم مع الشروط الواردة في الفصل 80، من أجل العودة إلى الحالة الطبيعية بحسب ما يتفق مع روح الدستور، بل إنه ذهب إلى حد التأكيد، مرة تلو الأخرى، على نيّته تغيير الدستور التونسي، أي إنه اعترف بأن ما يقوم به هو انقلاب على الدستور، وأن استخدام مادة فيه هو مجرد غطاء؛ فقد أشار، في 9 كانون الأول/ ديسمبر 2021، على سبيل المثال، إلى أن "المشكل في تونس اليوم دستوري، نتيجة دستور سنة 2014 الذي ثبت أنه لم يعد صالحًا ولا يمكن أن يتواصل العمل به، لأنه لا مشروعية له"[6]، ولم يكن لديه أي حجة لإثبات عدم مشروعية الدستور، في حين أن خطواته افتقرت إلى أي مشروعية.

يأتي توصيف إجراءات 25 تموز/ يوليو بالانقلاب، سواء سُمي انقلابًا رئاسيًا أم انقلابًا دستوريًا أم انقلابًا على الديمقراطية، من تقليد راسخ في أدبيات الديمقراطية والانتقال الديمقراطي؛ إذ يُعرف اصطلاحًا بالانقلاب الذاتي self-coup/ autocoup، ويستعمل للدلالة على نمط من الانقلابات يسعى من خلاله الرئيس، بعد وصوله إلى السلطة ديمقراطيًا، ليتنكر للآليات القانونية التي أوصلته إلى السلطة، فيعلّق العمل بالدستور، ويستولي على السلطتين التشريعية والقضائية، ويستمر في الحكم بمراسيم رئاسية إلى حين إجراء استفتاء وانتخابات تشريعية جديدة لإقرار سلطات تنفيذية أوسع[7]. وتعدّ الإجراءات التي اتخذها رئيس بيرو، ألبرتو فوجيموري، في 5 نيسان/ أبريل 1992، نموذجًا للانقلابات الذاتية؛ إذ بعد أقل من عامين من وصوله إلى السلطة عبر انتخابات ديمقراطية[8]، عمد إلى تعليق العمل بدستور عام 1979 وحلّ الكونغرس واستمر في الحكم بمرسوم رئاسي حتى تشرين الثاني/ نوفمبر 1992، حيث انتُخب ما عُرف بـ "الكونغرس التأسيسي الديمقراطي" الذي أشرف على استفتاء على دستور جديد، في تشرين الأول/ أكتوبر 1993. في نهاية المطاف، شهدت السياسة البيروفية في أثناء الفترة التي أعقبت انقلاب عام 1992 تركيزًا خطرًا للسلطة في أيدي الرئيس والقوات المسلحة وجهاز الاستخبارات؛ و"حوّل الثلاثةُ السلطة التنفيذية إلى مُشرّع موازٍ، وقاضٍ للقضاة، وسلطةٍ فوق القانون"[9]. وفي سياق آخر، شهدت الولايات المتحدة الأميركية سجالًا بشأن ما إذا كان الرئيس السابق دونالد ترامب (2017-2021)، خاصة مع أحداث اقتحام الكونغرس في كانون الثاني/ يناير 2021، قد قام بمحاولة انقلاب ذاتي انتهت بالإخفاق[10].

إذًا، لا يمثّل انقلاب سعيّد على الديمقراطية الناشئة ودستورها في تونس حالة فريدة[11]؛ فبعد أقل من ثلاثة أعوام من وصوله إلى سدة الحكم في انتخابات ديمقراطية، وبعد سنة من إعلانه عن حزمة الإجراءات الاستثنائية، بما فيها إجراءات تمنعه من القيام بها المادة 80 نفسها في الدستور التي استند إليها، عمد إلى تغيير دستور البلاد وتحويل نظام الحكم فيها إلى نظام رئاسي، تتركز فيه سلطات مطلقة بيد الرئيس من دون ضوابط دستورية، عبر استفتاء شعبي؛ وذلك على الرغم من أن خيار انتخابات برلمانية مبكرة ينتج منها برلمان يناقش مسودة الدستور الجديد كان متاحًا ومطروحًا من جانب فاعلين في المشهد السياسي التونسي، مثل الاتحاد العام التونسي للشغل[12].

يتناول هذا التقرير انقلاب سعيّد على الدستور، منذ إعلانه حالة الاستثناء في 25 تموز/ يوليو 2021 حتى الاستفتاء الشعبي على دستور جديد في 25 تموز/ يوليو 2022، وفيه ستة مباحث. يناقش الأول الأزمات السياسية (الاستقطاب السياسي واستفحال النزعة الرئاسوية) والاقتصادية (الانكماش والديون وتراجع الدعم الخارجي) والصحية (تفشّي جائحة كورونا) التي شهدتها تونس قبل تموز/ يوليو 2022 باعتبارها الخلفية التي أوجدت المزاج الشعبي الذي يمكن أي سياسي شعبوي استغلاله. ويعرض المبحثان الثاني والثالث مواقف الفاعلين المحليين والإقليميين والدوليين من الانقلاب. أما الرابع، فيتناول الخطوات التي اتخذها سعيّد لترسيخ الانقلاب، تمهيدًا للاستفتاء على دستور جديد للبلاد (إصدار الأمر الرئاسي 117 الذي يركز السلطتين التشريعية والتنفيذية في يدي الرئيس، وتعيين حكومة بصلاحيات محدودة، وحل مجلس النواب ليتحوّل الرئيس إلى مشرّع ومنفّذ في الوقت نفسه، وحلّ المجلس الأعلى للقضاء وعزل القضاة المعارضين، وتنظيم الاستشارة الإلكترونية بشأن الدستور الجديد). ويلقي المبحث الخامس الضوء على السياق الذي جرى فيه التحضير للاستفتاء (عزل أعضاء الهيئة المستقلة للانتخابات واستبدالهم بآخرين معيَّنين، والدعوة إلى حوار وطني مشروط تقتصر المشاركة فيه على مؤيدي الانقلاب)، كما يتناول هذا الاحتجاجات التي شهدها الشارع التونسي ضد إجراءات سعيّد والقمع الذي تعرضت له. وأخيرًا، يناقش المبحث السادس ظروف الاستفتاء على الدستور الجديد ونتائجه.


[1] "رئيس الجمهورية يترأس اجتماعًا طارئًا للقيادات العسكرية والأمنية"، صفحة رئاسة الجمهورية التونسية على فيسبوك، 25/7/2021، شوهد في 27/7/2021، في: https://bit.ly/3zht1yW

[2] ينظر: "الانقلاب الرئاسي على الدستور في تونس: ظروفه وحيثياته ومآلاته"، تقدير موقف، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 28/7/2021، شوهد في 25/7/2022، في: https://bit.ly/3OnliDQ

[3] ينظر: "دستور تونس الصادر عام 2014"، موقع constituteproject.org، 27/4/2022، شوهد في 2/8/2022، في:

https://bit.ly/3RKXM6M

[4] للمزيد، ينظر: "هل خرق قيس سعيد دستور تونس؟ ... إليك المادة 80 التي بنى عليها قراراته"، الجزيرة نت، 26/7/2021، شوهد في 25/7/2022، في: https://bit.ly/3aWhr2V

[5] "رئيس الجمهورية يصدر أمرًا رئاسيًا يقضي بالتمديد في التدابير الاستثنائية المتخذة بمقتضى الأمر الرئاسي عدد 80"، رئاسة الجمهورية التونسية، 23/8/2021، شوهد في 25/7/2022، في: https://bit.ly/3n14Xed

[6] "الرئيس التونسي قيس سعيد: دستور 2014 لم يعد صالحًا"، العربي الجديد، 9/12/2021، شوهد في 25/7/2022، في:

https://bit.ly/3PTucKs

[7] Maxwell A. Cameron, “Self-Coups: Peru, Guatemala, and Russia,” Journal of Democracy, vol. 9, no. 1 (January 1998), pp. 125-139.

[8] على غرار قيس سعيّد، كان فوجيموري أستاذًا جامعيًا غير معروف سياسيًا، ومثّل فوزه في انتخابات تموز/ يوليو 1990 مفاجأة، بعد أن استغل في حملته الانتخابية سخط الرأي العام البيروفي على الأحزاب السياسية التقليدية والأوضاع الاقتصادية العصيبة التي كانت البلاد تشهدها حينها.

[9] Cameron, p. 125.

[10] ينظر على سبيل المثال:

David Pion-Berlin, Thomas Bruneau & Richard B. Goetze Jr., “The Trump Self-Coup Attempt: Comparisons and Civil–Military Relations,” Cambridge University Press, 7/4/2022, pp. 1-18, accessed on 25/7/2022, at: https://bit.ly/3Oy7Hdd

[11] تشير بيانات أعدّها معهد السياسة والاستراتيجيا Institute for Politics and Strategy إلى أن العالم شهد 148 محاولة انقلاب ذاتي منذ عام 1946، منها 110 حدثت في أنظمة استبدادية و38 في الديمقراطيات. ينظر:

David Nakamura, “With Brazen Assault on Election, Trump Prompts Critics to warn of a Coup,” The Washington Post, 5/1/2021, accessed on 25/7/2022, at: https://wapo.st/3OtysiJ

[12] "قيس سعيد يريد تعديلًا دستوريًا رغم أنف البرلمان، فلماذا يسعى لذلك عبر استفتاء وليس انتخابات جديدة؟"، عربي بوست، 12/9/2021، شوهد في 25/7/2022، في: https://bit.ly/3OxAhes