العنوان هنا
دراسات 20 يونيو ، 2019

نقد المفاهيم في المشروع الفكري العربي: عزمي بشارة أنموذجًا

يوسف بن عدي

أستاذ التعليم العالي بقسم الفلسفة في جامعة محمد الخامس بالرباط . له مساهمات منشورة في مجلات عربيّة عدة. ومن مؤلفاته أيضًا "مدخل إلى فلسفة ابن رشد: آفاق الدراسات الرشديّة العربيّة المعاصرة" (2019)، و"أطروحات الفكر العربي المعاصر" (2020)، و"العبارة لأرسطو في شروح الفلاسفة المسلمين" (2017)، و"محمد عزيز الحبابي وتأسيس الفلسفة الشخصانية الواقعية" (2016)، و"قراءات في التجارب الفكريّة العربيّة: رهانات وآفاق" (2011).

ملخص

تنطلق هذه الدراسة من بيان النزعة النقدية التي يتمتع بها المفكر العربي عزمي بشارة في تفكيره وتأملاته النظرية ورؤيته السياسية والمجتمعية، والتي تتجلّى في القدرة البحثية على توظيف مُعطيات نظرية ومنهجية ومعرفية ضمن السياق العربي المعاصر. وأحسب أنَّ التأريخ النقدي للمفاهيم (الحرية، العدالة ... إلخ)، باعتباره منهجيةً في القراءة والتأويل في أعمال هذا المفكر، يشكّل لبنةً حقيقية للفكر النقدي العربي بفضل التركيب التحليلي بين المعالجة الفلسفية ومنطق التاريخ الفعلي، بعيدًا عن منطق التاريخانية الذي يعتبر أنّ "المفهوم" في التراث العربي الإسلامي غير مكتمل (اللامطابقة). وبناء عليه، يصيرُ الحلّ لهذا المأزق النظري والتاريخي هو اللحاق بالحداثة من دون شرط أو قيد.

مقدمة

لعلّ الكتابة عن مشروع عزمي بشارة الفكري، تتطلّب الكثير من التأنّي البحثي، لأنّ لغته مركبة من مُعطيات نظرية ومنهجية، تتشابك فيها الفلسفة السياسية ومقدّمات النقد الفلسفي وسوسيولوجيا المعرفة وتاريخ الأيديولوجيات والتاريخ السياسي - الاجتماعي، بل حتى الأنثروبولوجي في بعض اللحظات التي يتطلّبها التحليل. وقد منح هذا التصورُ بشارةَ قدرةً بحثية على دراسة الظواهر والأحداث بروح نقدية وتاريخية متميزة بالنسبة إلى الإنتاج الفكري العربي الراهن.

من المعلوم أنّ دارسي الفكر العربي الحديث والمعاصر اختلفوا أيّما اختلاف في مقاربتهم الحرية والعدالة والدولة والتاريخ والفرد ... إلخ، فمنهم من انتصر للطرح التاريخاني الذي يأخذ بمنجزات الحداثة من حيث هي النمط الحضاري الكوني، ومنهم من تحمّس لضرورة تحديث العقل العربي من داخل التراث والانتظام فيه، ومنهم من زعم أن العودة إلى القدامة والتراث هي الطريق "الملكية" لإنقاذ هذه الأمة وبناء الحضارة. وبهذا الاعتبار، تفرّعت أطروحات ودعاوى مختلفة في الألوان والأشكال الفكرية، لكنها كلها ترتدّ، في نهاية القول، إلى ذلك الثالوث الفكري والأيديولوجي المومئ والمومأ إليه. لكن، أين نضع مشروع بشارة ضمن هذه الدعاوى العربية التي ما فتئت تؤثر في أجيال ستينيات القرن الماضي وسبعينياته؟

يعود تميز عمل بشارة الفكري إلى قدرته الهائلة على فهم سياقات المفاهيم والقضايا العربية والأوضاع التاريخية بروح نقدية، إذ ساجل هذه الرؤى والمواقف في ذاتها، وفي بيان حدود المرجعيات الفلسفية والعلمية أيضًا التي تستند إليها. وفي الحاصل بالتبعية، كشفه عن رؤية بحثية فكرية تقوم على الانتماء إلى التاريخ ومنطقه من دون أن نكون تاريخانيين، ونفخر بالتراث وأمجاده من دون أن نكون قوميين، وأن نفكر في الدين والتدين وشواكله من دون أن نكون أيديولوجيين متعصبين، وأن نكون ليبراليين، كما ذكر عبد الله العروي، من دون أن نعيش مراحل الفكر الليبرالي؛ إنها عملية منهجية وفلسفية مركّبة من الحداثة والفكر التاريخي على أساس التأريخ النقدي للأفكار والمفاهيم. ومن ثم، ينطلق هذا المفكر في رؤيته النقدية من الواقع العربي ومشكلاته، شريطة التسلح بالوعي بالنظريات ومدى مشروعية توظيفها، وهذا ما يقوله في الكثير من المؤلفات، نذكر على سبيل المثال لا الحصر، يقول في طروحات عن النهضة المعاقة: "ورغم أنّ الأطروحات التي قدمها هذا الكتاب لا تتجنب الخوض في النظرية، إلا أنها تنطلق من الواقع الاجتماعي الملموس، تنطلق إليه من أجل تغييره باتجاه واضح ومحسوم بالنسبة للكاتب وهو النهضة والتنوير والعقلانية والتحديث والديمقراطية". ويستفاد من هذا، أنّ تفسير الأحداث والوقائع، سواء كانت فكرية أم سياسية أم اجتماعية، تفسيرًا أُحاديًا، يكاد يؤدي إلى نتائج مغلوطة ومنقوصة. والأخطر هو أنْ لا تستطيع نقد تلك الأحداث والمجريات التاريخية القديمة والحديثة والمعاصرة وتقويمها؛ وبذلك يكون الأمر الحقيقي هو تفسير الأحداث والظواهر من زوايا مختلفة، ومن خلال علوم إنسانية منوّعة. وهنا نفهم قوة الفكر الذي يحكم إنتاجه نصوصه. إنه نص يخفي وراءه ترسانة من خلاصات في الفيلولوجيا وعلوم الألسن، ومقدمات النظرية النقدية وأصولها ومفاهيم الفلسفة السياسية والاجتماعية والقانونية المعاصرة.

سأركز، في ضوء ذلك، على مفهوم المجتمع المدني والحرية والعدالة، والأرضية الفلسفية التي تحكم تساؤلاته واستفهاماته المفتوحة على المُمكن والمُتاح.

مثلما كان عبد الله العروي يُصرّ أيّما إصرار على أن المفهوم في الثقافة العربية لا يُطابق المجتمع، مثل الحرية والأيديولوجيا والتاريخ والعقل والدولة، يعمل بشارة على تعقب تحولات المفهوم وميلاده ونشأته وتحولاته في الماضي والحاضر من أجل الوقوف عند الشروط التاريخية والثقافية، لا للقطيعة مع التراث والارتماء في أحضان فكر الحداثة، بل لتوفير الشروط المعرفية المعقولة لبناء المفهوم من خلال نقد مزدوج. يقول بشارة في هذا المجال: "إذا أصرّ المرء على تعريفات اختزالية للظواهر الاجتماعية بدلًا من تطوير مفاهيمه تاريخيًا، تكون التعريفات الدائرية أفضل في هذه الحالة، لأنها تحاول التعامل مع الظاهرة ذاتها وليس مع ظاهرة أخرى يجري الادّعاء أنها أصل أو جوهر للظاهرة موضوع المناقشة". وبهذا الاعتبار، يكون مبرر تقديم رؤيته النظرية والعملية في نقد مفاهيم دون غيرها من موضوعات النهضة والعروبة والثورة والمثقف والدين والعلمنة ... إلخ، الحيوية والمتشعّبة، هو بيان نقده سرديات المفاهيم المتداولة في التراث والحداثة، نقدًا متعدد المرجعيات والمستندات النظرية والفلسفية.

قد لا نبالغُ إذا قلنا إن هذا الفكر النقدي Critical Thinking لم يمارس القيمة التحليلية للمفهوم ومعياريته إلا في السياق التاريخي والثقافي والخلفيات المستحكمة في ميلاده وانتشاره واستعماله. ولا نعدم دليلًا على ذلك، فقد استطاع بشارة لفت القارئ إلى أنّ جلَّ مفكري النهوض العربي والإصلاحي مع رفاعة الطهطاوي (ت. 1873) والإمام محمد عبده (ت. 1905) وعلي عبد الرازق (ت. 1966) وخير الدين التونسي (ت. 1890)، واللائحة طويلة، لم ينتبهوا إلى أنّ النقد الذي اشتغلوا وانشغلوا به هو نقد أيديولوجي أكثر منه نقدًا معرفيًا وفلسفيًا، ولعل تقلّبات هؤلاء المفكرين العرب في مواقفهم واختياراتهم لم يحركها إلّا النقد الأيديولوجي للأوضاع التاريخية والثقافية والسياسية. لهذا السبب لا نستغرب عند قراءة بعض النصوص النهضوية والإصلاحية والإحيائية اليوم أن تدافع عن فكرة الارتداد إلى الوراء بعد الدفاع عن التمدن والتنوير!

ثمة، إذًا، ممارسة عربية حديثة، على الرغم من جرأتها في ذلك السياق الملتهب، فإن هذا النقد أضحى، على الرغم من أهميته وقيمته، أي النقد الاجتماعي والسياسي الذي هو رهين التحوّلات، على أهبة التغير، أو على الأقل يرغب في اللحاق بالغرب. ومن ثمة، ظهر قصور هذا النقد جليًّا في عدم العناية بنقد العقل المنتج الخطاب، أي كشف الآليات التي تتحكم في تفكيرنا الذي ننتمي إليه. فهذه النزعة التاريخية النقدية هي المحرك الأول لمشروعه عمومًا، وموقفه من نقد المفاهيم خصوصًا. ومن ثمة، فإن نقد المفاهيم، سواء في السياق العربي أم الغربي، لا يتحقق إلّا بوساطة كشف البنيات الفكرية والحقوقية والثقافية والسياسية والاقتصادية في الوطن العربي؛ وذلك حتى لا ينتهي هذا النقد في منأى عن المقدمات والأصول الفلسفية، وإلّا صار نقدًا انتقائيًا. وفي ذلك يشير بشارة إلى أن: "فالخطوتان، أي المعالجة الفلسفية ونقدها وكشف حدودها، ضروريتان لفهم الموضوع". وهذا الإعلان هو بخلاف موقف العروي من البحث الفلسفي الذي يُقرّ "إن البحث الفلسفي في الحرية تافه جدًا، لأنه لا يبرهن، ولا يمكن أن يبرهن بحال، على الحرية الواقعية، يحس القارئ العربي في الظروف القاسية الراهنة أن التحليلات الفلسفية لا تساوي شيئًا. كل من ظن أنه رسخ قواعد الحرية في العالم الملموس بمجرد أنه تصوّرها وحددها يستحق بالفعل السخرية والاستهزاء". ويستفاد من هذا، أن النص النقدي الذي أنتجه بشارة هو نص لا يرتهن بنزعات اعتقادية ليبرالية أو ماركسية أو أنطولوجية أو سياسية حقوقية معيّنة، بل يعمل على نقد هذه التصورات والتيارات؛ إذ إنّ تبنّي نظرية معيّنة ومحاولة إسقاطها على الواقع العربي، يُساهم في آفتين: أولاهما الإساءة السلبية، أي النظرية ذاتها، وثانيتهما ضرب الأستار والحجب عن الواقع العربي وبنياته.

ما معنى أن يحرر بشارة المفهوم من التجريد والمثال؟ ما معنى أنّ المفاهيم هي تراكمات اجتماعية وثقافية وسياسية ونظرية كثيفة؟ كيف نفهم أن المفهوم هو تطور تاريخي تكويني، وهو في الوقت ذاته موسوم بخصائص الكلية والشمولية والتجريد؟ إلى أيّ حدود تمكّن بشارة من الجمع بين نقد المفهوم وإعادة موقعته في الفكر والاجتماع العربي؟