مقدمة
فيما عدا الصراعات السياسية والأيديولوجية، يثير توحش الحرب والقتل بالجملة العديد من التأملات الوجودية. وعلى الرغم من احتجاب النقاش الأخلاقي حرجًا بين وحشية العدوان الذي يرفع تحقيق الهدف فوق الخير والشر، فيبيح ويستبيح كل شيء، من جهة، وبين تشبُّث الناجين بأشلاء الحياة العارية بين جثث
موتاهم بعد فقدان كل شيء، من جهة أخرى، وعلى الرغم من تلاشي حدود الأخلاق، أي ما يميّزها، في غمرة الاستقطاب السياسي وحتى الهويّاتي في زمن الحرب، فإن هدف هذه المقالة – وهي غير موجهة إلى مجرمي الحرب ولا إلى ضحاياهم الذين تكفيهم همومهم – هو تمييز القضايا الأخلاقيّة التي أثارتها وتثيرها الحرب الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، ومعالجتها على حدة. والمقصود هو المعضلات الأخلاقية التي تواجه الإنسانية نتيجة للأعمال الوحشية التي تُرتكب خلال العدوان، والآليات (ميكانيزم) التي استخدمها لتحييد الحكم الأخلاقي على ما يُرتكب من جرائم.
وللتذكير، ليست الأخلاق محرك الفعل البشري أصلًا، لا في الحروب ولا في غيرها، إلا إذا أثّرت في البنية الشعورية الانفعالية للإنسان، بحيث يصبح فعل الخير مثلًا، أو رفض الكذب، أو رفع الظلم وتحقيق العدل، دافعًا شعوريًا حقيقيًا لدى الإنسان الأخلاقي يدفعه إلى الفعل. ولكن دوافع البشر غالبًا ما تكون متعلقة بدفع الأذى الجسدي أو النفسي، وفقدان القدرة على التحمل، أو الشهوة وحب التملك، ورفض الإذلال والدفاع عن الكرامة، أو الرغبة في تحصيل الاعتراف والتقدير من الآخرين، أو حب السيطرة، أو الرغبة في التحرر من قيود ما، وغير ذلك. وغالبًا ما تقيِّد القيم الأخلاقية الفردية و/ أو السائدة اجتماعيًا هذا الفعل وتضبطه أو تمنعه، أو تبرره بعد وقوعه.
وغالبًا ما تتقاطع القيم مع المشاعر الأساسية لدى الإنسان. خذ مثلًا قيمة الكرامة؛ إنها تتقاطع مع المشاعر القوية لدى الإنسان الذي يتحلى بها ضد الإذلال إلى درجة الانتفاض على من يمارسه، كما أنها قد تؤدي إلى الشعور بالذنب عند ممارسة الإذلال ضد الآخرين إذا كانت قيمة أخلاقية فعلًا وليست مجرد مشاعر ذاتيه بالكبرياء.
ولكن، يمكن الحكم على أفعال البشر أخلاقيًا وإن لم تكن دوافعهم أخلاقية، سواء أكانت معايير الحكم أخلاقية فردية أو من منطلق القيم الأخلاقية السائدة في المجتمع. وهذه الأحكام الأخلاقية، أيًا كانت معاييرها، هي شرط من شروط تشكل العلاقات الاجتماعية. والافتراض أن ما تقوم به الدول (المقصود سلطاتها الحاكمة ومؤسساتها) ليس مدفوعًا بالأخلاق غالبًا، بل بالمصالح والسيطرة وغيرها، معروف ومنتشر وقلَّما يثير الشك. ومع ذلك لا يحكم الناس على سياسات الدول وأفعالها بمعايير تحقيق المصالح (مع الاختلاف في تعريفها) ودفع الأذى فحسب، بل بمعايير أخلاقية أيضًا. ومن دون ذلك، لا تقوم مدنية ولا حضارة.
ليست الحقيقة ضحية الحرب الأولى كما يقال، بل تسقط الأخلاق قبلها. فحين تنطلق حملات الدعاية والكذب الأولى تكون الأخلاق قد وُضِعت جانبًا، وطُلِب منها أن تلتزم الصمت، وأُخرِست الأصوات التي تتكلم باسمها، فالخيط الرفيع الفاصل بين الحياة والموت لا يتحمل إلحاحها. ولكن لا عذر لنا في عدم إثارتها.