العنوان هنا
مراجعات 30 سبتمبر ، 2020

مراجعة كتاب: نظرة على الاقتصاد السياسي في إيران

مهران كامرافا

يرأس وحدة الدراسات الإيرانية في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. وهو أستاذ في جامعة جورجتاون، قطر. نشر عددًا من الدراسات المحكّمة والكتب بما في ذلك كتابيه الصادرين حديثًا: تاريخ موجز للثورة (2020) وداخل الدولة العربية (2018).

عنوان الكتاب: نظرة على الاقتصاد السياسي في إيران.

عنوان الكتاب في لغته الأصلية: نگاهی به اقتصاد سیاسی ایران

الكاتب: محمد رحمان زاده هروى.

الناشر: اختران، طهران.

تاريخ النشر: 1396/2017.

عدد الصفحات: 568 صفحة.



شهدت السنوات التي أعقبت مباشرة ثورة إيران في 1978-1979 صدورَ عدد من الدراسات المتعمقة، تناولت الاقتصاد السياسي في البلاد، والقوى التي عزّزت انهيار الدولة البهلوية وتأسيس الجمهورية الإسلامية. بعدها، بقي هذا الموضوع منسیًا لسنوات عديدة؛ إذ أولى الباحثون في إيران العلاقات الدولية للبلاد اهتمامهم بدلًا من ذلك، وخاصة القضية النووية، أو تداعيات الانتخابات الرئاسية المتنازع عليها في عام 2009.

ولحُسن الحظّ، شهدت السنوات القليلة الماضية اتجاهًا معاكسًا في هذا المجال؛ فقد استعرض عدد من الكتب الممتازة الصادرة باللغتين الفارسية والإنكليزية جوانب الاقتصاد السياسي الإيراني. ويوفّر كتاب [الباحثة الأميركية] سوزان مالوني الاقتصاد السياسي لإيران منذ الثورة (Iran’s Political Economy Since the Revolution) الصادر عام 2015، نظرة شاملة ومطّلعة على الموضوع، بدءًا من السنوات الأولى للحكم البهلوي حتى يومنا هذا. ولأسباب واضحة، فإن قائمة الكتب المنشورة في إيران أوسع نطاقًا بكثير. فعلى سبيل المثال، يقدّم كتاب بهمن أحمدى أمويى الاقتصاد السياسي للجمهورية الإسلامية (اقتصاد سیاسی جمهوری اسلامی) الصادر عام 2004، روايات شهود عيان بشأن القرارات السياسية الأولى التي صدرت في بداية الثورات، والتي لا تزال تداعياتها الاقتصادية والسياسية تؤثر حتى يومنا هذا. ويقدّم أبو الحسن فقيهى وحسن دانايى فرد (2011) دراسة غنية تاريخيًا عن دور البيروقراطية في صنع السياسيات الاقتصادية في إيران وتنفيذها في فترة البدايات، في كتاب البيروقراطية والتنمية في إيران: نظرة تاريخية مقارنة (بوروکراسی وتوسعه در ایران: نگاهی تاریخی-تطبیقی)، على الرغم من أن فصلًا واحدًا فحسب من هذا الكتاب مكرّس للجمهورية الإسلامية.

وحديثًا، في عام 2018، تناول عليرضا خيراللهي طبيعة الطبقة العاملة في الجمهورية الإسلامية ومكوّناتها في كتاب العمال من دون طبقة: قدرة العمال على المساومة في إيران بعد الثورة (کارگران بی طبقه: توان چانه زنی در ایران پس از انقلاب)، وهي دراسة تعتمد أسسًا نظرية صحيحة وغنية بالتجارب. وكتاب خيراللهي خير قرين لكتاب فرهاد نومانى وسهراب بهداد الطبقة والعمل في إيران: هل أثرت الثورة فيهما؟ (Class and Labor in Iran: Did the Revolution Matter?) الصادر عام 2006. وتجدر الإشارة أيضًا إلى مساهمات فرشاد مؤمنى في هذا الموضوع، وهي تشكّل في نواح كثيرة قراءات أساسية للمهتمين بفهم الاقتصاد السياسي للجمهورية الإسلامية. وأبرز مساهمات مؤمنى كتاباه الاقتصاد السياسي للتنمية في إيران (اقتصاد سیاسی توسعه در ایران امروز) الصادر عام 2016، والعدالة الاجتماعية، والحرية والتنمية في إيران المعاصرة (عدالت اجتماعی، آزادی و توسعه در ایران امروز) الصادر عام 2017.

أما الكتاب الأخير الذي يجب تسليط الضوء عليه هنا فهو كتاب باثولوجيا التنمية الاقتصادية في إيران (آسيب شناسى توسعه اقتصادى ايران) لـعباس مصلى نجاد الصادر عام 2018. يبحث كتاب مصلى نجاد بدقة، كما يشير العنوان، في أهداف خطط التنمية الأربع الأولى ونجاحاتها وإخفاقاتها، والتي جرى صوغها في ظل الجمهورية الإسلامية. وكان من المقرّر تنفيذ خطة التنمية الرابعة بين عامي 2005 و2009. ولكن موقف الرئيس محمود أحمدي نجاد المناوئ للتكنوقراط دفعه في عام 2007 إلى تجاهل مشورة الخبراء، وحلّ منظمة التخطيط والموازنة المسؤولة عن وضع خطط التنمية. ولم يتم تنفيذ الكثير من الخطة التي رفضها أحمدي نجاد؛ باعتبارها مستوحاة من الغرب.

يُعدّ كتاب محمد رحمان زاده هروى نظرة على الاقتصاد السياسي في إيران (نگاهی به اقتصاد سیاسی ایران)، كتابًا متميّزًا من ضمن هذه المجموعة من الكتب البارزة التي تتناول الاقتصاد السياسي المعاصر في إيران؛ وذلك لعمقه الإمبريقي الموسوعي وبعده التاريخي. يبدأ الكتاب بشرح الإرهاصات الأولى لظهور الصناعة في إيران في عهد ناصر الدين شاه قاجار، والتي استمرت حتى حكم المَلَكَيْن من سلالة البهلوي، وصولًا إلى الجمهورية الإسلامية. يسرد المؤلف، في جميع أجزاء الكتاب، قصة نشوء المؤسسات الصناعية وعملياتها وصعودها وهبوطها، بدءًا من مصانع النسيج الأولى في البلاد، ومصانع الكريستال المختلفة في القرن التاسع عشر، إلى ظهور طبقات تجارية جديدة في العقدين الثاني والثالث من عمر الجمهورية الإسلامية.

ويعتمد الكتاب الترتيب الزمني في طريقة تنظيمه، بدءًا من العقود الأخيرة من سلالة القاجار. فيتناول هروى قطاعات الاقتصاد الرئيسة التي شهدتها كل فترة، إضافة إلى الصناعات الرئيسة التي كانت فاعلة في كل قطاع. حتى أوائل الستينيات، كانت الصناعات المهمة تشمل تلك المعنية بالمنسوجات، والجلود، والمواد الغذائية، والمستحضرات الصيدلانية، والخشب، والورق. يبحث الكتاب في المصانع الرئيسة لجميع تلك القطاعات، والتي شاركت في إنتاج السلع وتوزيعها؛ بما في ذلك، وفي حالات عدّة، كيفية تأسيس المصنع وهوية مالكيه ومشغّليه الرئيسيين. وفي ستينيات القرن العشرين، بدأت تظهر الصناعات الثقيلة بأعداد ملحوظة، بما في ذلك المصانع الكبيرة المعنية بالفولاذ والمعادن الأخرى، والإسمنت، وأنواع مختلفة من الآلات. وفي العقد نفسه، قدم صنّاع السياسات إعانات مالية ومرافق ميسورة التكلفة للصناعات الصغيرة والمتوسطة، في ما أصبح مدنًا صناعية، خاصة في الأهواز (1967)، وقزوين (1967)، وكرمانشاه (1971)، ورشت (1974). وفي عام 1985، قررت الجمهورية الإسلامية مواصلة بناء المدن الصناعية. وبحلول عام 2017، كان في البلاد ما لا يقل عن 945 مدينة من هذا النوع، تضم نحو 36000 مؤسسة صناعية، يعمل فيها نحو 737000 عامل. إلا أنه في السنوات الأخيرة، أقفلت نسبة من هذه المؤسسات أبوابها كليًا، أو باتت تعمل بأقل من طاقتها بكثير؛ ويرجع ذلك في معظمه إلى عدم كفاية رأس المال والموارد.

ويعتبر الفصل الذي تناول صناعة السيارات في إيران أحد أهم المساهمات القيّمة والمبتكرة؛ إذ لا يركز على المنتجيْن الرئيسيْن للسيارات في البلاد، سايبا وإيران خودرو فحسب، بل يتطرّق أيضًا إلى الصناعات التابعة التي تصنع محرّكات الديزل، والشاحنات، والحافلات، والجرارات، وشبكات تدفئة الهواء وتبريده، وقطع الغيار والإطارات. تتألف الشركتان القابضتان معًا من نحو 200 شركة صغيرة، وتوظّفان نحو 90000 عامل. وتبوّأت إيران في عام 2017 المرتبة الثامنة عشرة بين أكبر مصنعي السيارات في العالم؛ وهي الأكبر في الشرق الأوسط، إذ تنتج 1.5 مليون سيارة سنويًا. وبالطبع، لا تعني الكمية الجودةَ بالضرورة؛ إذ لم تستحوذ السيارات الإيرانية المصنّعة بعد على قلوب المستهلكين المستهدفين ومخيلاتهم.

تركّز فصول الكتاب الأخرى على قطاع التعدين، والمنتجات النفطية والمنتجات ذات الصلة، والزراعة والخدمات. يتطرّق هروى في دراسته إلى الصناعات الزراعية وتربية الحيوانات، ويرى أن كلا القطاعين متطوّر على نحو جيد، ويمكنهما أن يقطعا شوطًا طويلًا في تلبية المطالب المحلية. وفي الواقع، تملك إيران القدرة على أن تصبح مصدرًا رئيسًا للحوم الحلال لدول إسلامية أخرى. ومع ذلك، تعاني صناعات الزراعة واللحوم، مثل أغلبية الصناعات الأخرى، نشاطات المضاربين والمستوردين الذين ترتبط مصالحهم المالية بالتضحية بالصناعات المحلية لصالح الواردات. وتُمنح تصاريح الاستيراد بصفتها شكلًا من أشكال الإيجار للمقاولين الذين ينعمون بصلات مع الدولة، في حين لا يحصل المزارعون ومنتجو اللحوم على ما يحتاجونه من المواد والدعم. وبيّن هروى أن هذه النشاطات، التي يقوم بها المستوردون المضاربون، ممنهجة ومتفاقمة ومؤذية للغاية لكل قطاعات الاقتصاد الإيراني. إن الصناعة المحلية والتنمية الاقتصادية ككل في إيران ضحية السياسة بعامة، وسياسات الدولة بخاصة.

تحولت الجمهورية الإسلامية، على مدى أربعة عقود من تأسيسها وصولًا إلى يومنا هذا، من اقتصاد سياسي تسيطر عليه الدولة على نحو واضح إلى ما بات اليوم منظومة ملتبسة من السياسات غير المنسّقة، وغالبًا ما تكون متناقضة. وفي عام 1980، كانت أغلبية واضعي دستور الجمهورية الإسلامية تتمتع بخلفيات حضرية وريفية منخفضة الدخل، وعبّرت عن عدائها للرأسمالية واسعة النطاق في الاقتصاد السياسي الناجم عن النظام الناشئ. وكما يوضّح هروى، فقد تم تأميم أكثر من 30 في المئة من رأس مال القطاع الخاص، واستولت عليه الدولة مباشرة بعد الثورة. وشهدت القطاعات الاقتصادية والصناعية تباعًا استملاك صنّاع السياسات الثوريين للمصانع، والمنافذ الصناعية؛ إذ أمّموها باسم المحرومين والمظلومين. وتحوّل بعض المصانع إلى مقرّات للوزارت والمؤسسات المنشأة حديثًا، والتي تسمى بنياد، وتُركت صناعات أخرى على طريق الزوال. وأصبحت المؤسسات شبه الحكومية، وتلك التي تملكها الدولة والمؤسسات الحكومية الضخمة، موجودة في كل مكان، حتى باتت سمة تميّز الاقتصاد الإيراني.

وعلى الرغم من خطط التنمية المختلفة، لم يضع صناع السياسات الإيرانيون حتى الآن استراتيجية اقتصادية متماسكة ومتسقة، ترتكز على أسس مؤسسية وسليمة نظريًا. وفي الواقع، فإن كل إدارة جديدة تغيّر سياسات الحكومة السابقة، وتتبنى استراتيجيتها الخاصة. ويتألف الاقتصاد في إيران من مزيج مرتبك من مؤسسات تملكها الدولة، ومؤسسات شبه حكومية، ومؤسسات خاصة شبه منتجة تلبي احتياجات الرأسماليين الذين يعتمدون المحاباة في أسوأ الحالات، وتجار البازارات وعمّالها في أحسنها.

ما إن وصلت الحرب مع العراق إلى خواتيمها في عام 1988، أي بعد مرور عقد على نجاح الثورة، حتى قام صناع السياسات أنفسهم بخصخصة ما أمّموه سابقًا، بعد أن أدركوا أن الدولة المترهّلة لا يمكن أن تدير اقتصادًا معقدًا بكفاءة. ولا تزال عملية الخصخصة مستمرّة حتى يومنا هذا، سواء من خلال إقامة شراكات بين القطاع الخاص والدولة، أو من خلال بيع الأسهم في بورصة طهران. وفي الواقع، وفق هروى، كانت الخصخصة واسعة النطاق لأصول الدولة، وبخاصة خلال سنوات حكم أحمدي نجاد من عام 2005 إلى 2013، هي التغيير الاقتصادي الأهم في حياة الجمهورية الإسلامية. أما المستفيدون الرئيسون من هذه الخصخصة، فهم النخب الاقتصادية اليوم، والثوار أنفسهم منذ عقدين من الزمن. وفي الوقت الذي تتنامى فيه ثروات التجار المقاولين، يتابع القطاع الصناعي عمله في البلاد بأقل من قدرته وطاقته.

من الواضح أن هروى ليس منظّرًا؛ فالكتاب خالٍ من المصطلحات أو المحاولات القسرية لشرح طبيعة الاقتصاد السياسي وتطوّره وأدائه من خلال أطر نظرية مستوردة، والتي نادرًا ما تكون قابلة للتطبيق. إلا أن هذا الافتقار إلى التأطير النظري لا يقلّل من أهمية الكتاب، فما يقدمه هروى من توصيفات غنية للقطاعات الاقتصادية للبلاد يوفر مجالًا خصبًا لاستنتاجات نظرية مهمة.

يُظهر هروى في كتابه القيّم بأن الانخراط في الإنتاج، زراعيًا أكان هذا الإنتاج أم صناعيًا، يفتقر إلى أي مردود. واللافت أن العقوبات الشاملة المنهِكة التي تعانيها إيران، منذ أربعة عقود، غائبة تمامًا عن طروحاته. وهذه في حد ذاتها نقطة مهمة، ففي الوقت الذي يعاني فيه الاقتصاد في إيران حكمًا وطأة العقوبات الدولية وعدم قدرته على الوصول إلى العالم الخارجي، يعاني مشكلات بنيوية أخرى، توازي العقوبات أهمية، وهي التي تُبقي حاليًا على قدرته في الأداء منخفضة. بدايةً، تفتقر الدولة إلى استراتيجية تنمية متماسكة وهادفة، كما تفتقر إلى رؤية اقتصادية تحدّد مسار البلاد في العقد أو العقدين المقبلين. ومن المهم بالقدر نفسه، غياب مؤسسة أو مؤسسات تنسيقية لديها القدرة والسلطة على إنفاذ السياسات، والتنسيق بين مختلف أجهزة الدولة والقطاعات الاقتصادية والمصانع والمؤسسات الصناعية. وتجدر الإشارة إلى أن الرئيس أحمدي نجاد ألغى الوكالة التي لطالما شكّلت مصدرًا للفخر لدى التكنوقراط الإيرانيين، وهي منظمة التخطيط والموازنة. وعلى الرغم من إعادة تشكيل هذه المنظمة في إثر مغادرة الرئيس الشعبوي منصبه، فإنها لم تجد مكانتها في النظام الإيراني بعد.

ولم يولِ هروى في كتابه هذه الأبعاد السياسية للاقتصاد الإيراني الاهتمام الكافي، وخاصة التضارب بين الخطاب والعقيدة والسياسة من جهة، والواقع والأهداف الاقتصادية من جهة أخرى. وقد تزامنت سنوات حكم أحمدي نجاد وبلوغ أسعار النفط أعلى مستوياتها في التاريخ المدوّن. فكيف بدّدت الحكومة الإيرانية مثل هذه الفرصة؟ هل استنزفت مشاريع الرئيس الشعبوي المختلفة، والتي شكّل مشروع "مهر" السكني مثالًا رئيسًا لها، الاقتصادَ وأوصلته إلى حالته اليائسة اليوم؟ ولماذا تفاقمت رأسمالية المحاباة بشدّة خلال الفترة نفسها؟ ومؤخرًا، ما مدى نجاح الرئيس روحاني في النأي عن شعبوية أحمدي نجاد وتفضيله حرية النشاط الاقتصادي؟ وفي كل هذا، أين يقف الحَكَم النهائي في السياسة الإيرانية، المرشد آية الله خامنئي؟

ولا يمكن مؤاخذة هروى على إغفال هذه الأمور. فهو، في النهاية، يكتب في نظام سياسي تراقب فيه الحكومة كل كلمة يتم طباعتها، والكلمات التي قد تفلت من هنا يمكن أن تعود وتطارد المؤلف أو المحلّل فيما بعد. إلى جانب ذلك، يتجاوز عدد صفحات الكتاب فعليًا الـ 560 صفحة، ولا شك في أن التفصيلات من النوع المقترح هنا، من شأنها أن تجعل حجمه كبيرًا للغاية وعملية نشره باهظة الثمن. ومع ذلك، وعلاوة على الاستنتاجات النظرية التي تنجم عن التوصيفات الكثيفة للكتاب، فإنه يفتح آفاقًا إضافية لدراسة الاقتصاد السياسي في إيران.