العنوان هنا
مراجعات 20 سبتمبر ، 2020

مراجعة كتاب: فهم التيارات السياسية في ايران

مهران كامرافا

يرأس وحدة الدراسات الإيرانية في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. وهو أستاذ في جامعة جورجتاون، قطر. نشر عددًا من الدراسات المحكّمة والكتب بما في ذلك كتابيه الصادرين حديثًا: تاريخ موجز للثورة (2020) وداخل الدولة العربية (2018).

العنوان: فهم التيارات السياسية في ايران

العنوان في اللغة الأصل: جريان شناسى سياسى در ايران

المؤلف: علي دارابي

الناشر: سازمان انتشارات پژوهشگاه فرهنگ و اندیشه اسلامی (هيئة النشر التابعة لمعهد الثقافة والفكر الإسلامي)

سنة النشر: 1397/2018 (طهران )

عدد الصفحات: 632


صدر في إيران، منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي، العديد من الكتب التي تقدّم تحليلًا نقديًا دقيقًا وتفصيليًا للتطورات السياسية الجارية في البلاد. وفي الواقع، شهدت صناعة النشر في البلاد نهضة كبيرة في أواخر التسعينيات وفي العقد الأول للقرن الحادي والعشرين، عندما استنهض الحماس الشعبي الناجم عن انتخاب محمد خاتمي رئيسًا للجمهورية نشاطًا فكريًا كبيرًا جرى التعبير عنه على صفحات الصحف والمجلات والكتب. وكان لدى أغلبية بائعي الكتب في شارع "انقلاب" الشهير في طهران، أقسام مخصّصة لما عُرف بالكتب "الإصلاحية". ولكن على غرار رئاسة خاتمي، ومع وصول سياسة الحركة الإصلاحية إلى أفق مسدود، تبدّد سريعًا ذلك الحماس الفكري والاندفاع للنشر. وقد جرى إغلاق العديد من الصحف، حتى قبل أن يغادر خاتمي منصبه، وتم تغريم محرّريهم أو سجنهم، واعتقال العديد من الكتّاب والصحافيين أو مضايقتهم. وفي العقد الأول من القرن الحالي أيضًا، فقدت صناعة النشر الإيرانية بعضًا من بريقها بسبب ارتفاع أسعار الورق وقواعد الرقابة التي باتت أكثر تشدّدًا.

ومع ذلك، تتمتع إيران بثقافة قراءة قوية، ولا يزال العديد من النشطاء والصحافيين والأكاديميين يتمكّنون من التعبير والوصول إلى قرائهم. ولا يزال العديد من الناشرين في البلاد ينشرون دراسات أكاديمية جدية ومتعمقة، التي تباع بسرعة وتنفد طبعاتها المتتالية سريعًا، وإن لم يعد ذلك بالوتيرة والغزارة نفسها كما كان في السابق. ومن الأمثلة القليلة للأعمال التحليلية الثاقبة التي لا تزال تنشر في إيران اليوم كتاب رسول أفضلي الحكومة الحديثة في إيران (2016)، وكتاب محمد حسين حسين بحراني الطبقة الوسطى والتغيراتالسياسية في إيران المعاصرة (2009)، وكتاب علي سرعزیم الشعبوية الإيرانية (2016)، وكتاب أحمد سيف أزمة تعزيز الاستبداد في إيران (2011).

وكتاب فهم التيارات السياسية في ايران هو أحد هذه الأعمال. وعلى عكس أغلبية الكتب التي تنتمي إلى هذا الصنف، كان مؤلف هذا الكتاب، علي دارابي، والذي يحمل دكتوراه في العلوم السياسية، عضوًا في المؤسسة السياسية الإيرانية لفترة طويلة. ولم يقتصر الأمر على توليه العديد من المناصب الحكومية الرئيسة على مر السنين فحسب، بل إنه ينتمي في الواقع إلى أحد أكثر التيارات الإيرانية محافظة، "الفدائيون"؛ وهم حرفيًا أولئك الذين يستعدّون للتضحية بأنفسهم لمصلحة النظام. صحيح أن دارابي تبوّأ لفترة طويلة مناصب داخل مؤسسات الدولة المختلفة، وعلى الرغم من انتماءاته السياسية، فإن كتابه فهم التيارات السياسية في إيران يُعدّ أحد أهم الأعمال التي تصف بالتفصيل ظاهرة نشوء الأحزاب السياسية والتيارات في إيران، وتحكي عن صعودها وسقوطها المتكرّر بدءًا من أوائل الأربعينيات.

ينقسم الكتاب إلى خمسة فصول، إضافة إلى مقدّمة وخلاصة. تبدأ الفصول بمناقشة متماسكة ومطّلعة لبعض السمات الأوسع للتيارات ضمن السياسة الإيرانية، بدءًا بصورة خاصة بالانقسامات الاجتماعية السياسية المهمة التي حشدت المجموعات السياسية حول القضايا الرئيسة. وعلى نطاق أوسع، يزعم دارابي أنه يمكن تحديد خمسة تيارات أيديولوجية سياسية رئيسة في إيران وهي: التيار الديني أو الإسلامي، التيار اليساري أو الماركسي، والتيار القومي، وتيار يجمع بين الديني واليساري، والتيار الملكي.

لذلك من غير المستغرب أن يخضع كل تيار من هذه التيارات للسياق السياسي الأوسع الذي وجد نفسه فيه، كما يشرح بشكل واضح مصير التيار الملكي الذي انتقل من الهيمنة في الماضي إلى المعارضة وبات غير مهم عمليًا. يذكرنا دارابي في دراسته التيار الملكي بأن التاريخ الحديث للحكم الملكي في إيران لم يكن تاريخًا سعيدًا. فمنذ تأسيس سلالة قاجار في ثمانينيات القرن الثامن عشر، توفي ثلاثة فقط وهم في سدّة الحكم لأسباب طبيعية من أصل ملوك إيران التسعة، وقُتل اثنان أثناء تولّيهما الحكم، في حين أُقيل أربعة منهم قسرًا من مناصبهم أو أُجبروا على التنازل عن العرش. أما الأنظمة الملكية الإيرانية الأخيرة فقد كانت ميّالة للتسبّب بحركات احتجاجية جماهيرية، من الاحتجاجات ضد [بيع] امتياز التبغ في عام 1892 [لبريطانيا]، إلى الثورة الدستورية في عام 1906، وتأميم النفط في عام 1951، والاحتجاجات التي قادها العلماء في عام 1963، وثورة 1978-1979. وقد اعتمد التيار الملكي من الناحية الأيديولوجية على القومية العلمانية التي تمجد ماضي إيران؛ إذ رأت في سلالة بهلوي استمرارًا لأنظمة ملكية للأسرة نفسها ويعود تاريخها إلى 2500 عام. ويرى دارابي أن هذا التيار لا يستطيع أن يثبت قدرته على الصمود في إيران، لا سياسيًا ولا أيديولوجيًا.

من جهته، يظهر التيار الإسلامي، الذي سيطر على إيران سياسيًا منذ نجاح الثورة، إيمانًا عميقًا بأحكام الدين، حيث يعزو المركزية الاجتماعية والسياسية إلى المبادئ الشيعية، ويؤمن بالعودة النهائية للمهدي، ويرى روابط قطعية بين الإسلام والسياسة والمؤسسة الدينية، وهو يقبل، منذ أواخر السبعينيات، بمبادئ الولاية والمرجعية بصفتها سلطة دينية عليا.

وفي حين ظلت سمات التيار الديني هذه ثابتة نسبيًا منذ نجاح الثورة، فإن التيار اليساري، وبخاصة اليسار الديني، تعرّض لتغيرات حادّة منذ أوائل الثمانينيات. فمنذ الأيام الأولى للثورة، كانت الجماعات اليسارية الإسلامية في إيران تميل إلى التطرّف الشديد ورفضت بنية النظام الدولي، متبنية مبادئ معادية للولايات المتحدة، ومشكّكة في العلاقات الدولية، في حين كانت تدعو إلى تصدير الثورة إلى الخارج، وفضّلت السياسات الاقتصادية التي تعتمد على دور الدولة. ولكن ظهر "يسار جديد" دعم المزيد من الحريات الشخصية والاجتماعية والسياسية مع تولي علي أكبر هاشمي رفسنجاني الرئاسة في عام 1989. وصعدت هذه المجموعة بخاصة في ظل رئاسة محمد خاتمي وأصبحت تعرف بـ "الإصلاحيين" بشكل جمعي. وشددت على أهمية العدالة الاجتماعية، ودعت إلى إيلاء اهتمام مستمر للتنمية الاقتصادية. ومن المفارقات، أن المجموعة ذاتها التي كانت تدعو إلى تصدير الثورة، باتت تؤيد اليوم موقفًا أكثر ليونة تجاه العلاقات الدولية، بما فيها إمكانية إجراء حوار ومفاوضات مع الولايات المتحدة.

ولم يكن التفكير بما يعرف باليسار الجديد بعيدًا جدًا عما يسميه دارابي بـ "اليمين الحديث". وتشكّلت هذه المجموعة بأغلبيتها من تكنوقراط، وكان العديد منهم متحالفين بشكل وثيق مع الرئيس هاشمي رفسنجاني. وشكلوا في عام 1996 حزب منفذي البناء (حزب کارگزاران سازندگی إیران). وفي السياسة الداخلية، يدعو الحزب إلى التنمية الاقتصادية السريعة من خلال تعزيز الإنتاج الصناعي. أما موقف الحزب في المجالين الاجتماعي والثقافي فليس واضحًا تمامًا، إذ يعتريه الغموض المتعمّد تفاديًا للتسبّب بالإساءة، نظرًا إلى حساسيات كبار المسؤولين الدينيين. وفي الوقت نفسه، وفي مجال السياسة الخارجية، يطالب هذا الحزب تمامًا مثل الإصلاحيين، بتخفيف التوترات الدولية من خلال الحوار. وفي السنوات الأخيرة، تماهى هذا التيار بسهولة أكبر مع رئاسة حسن روحاني.

ويفصّل دارابي خصائص "اليمين التقليدي" وثروته، الذي يتبع العديد من أتباعه سياسيًا وأيديولوجيًا للمؤسسة الدينية المحافظة التي تعتمد مدينة قم قاعدة لها. إضافة إلى تبني هذا التيار القيم الثقافية والمعتقدات السياسية المحافظة للغاية، مثل الإيمان بالسلطة المطلقة لولاية الفقيه، يدعم أعضاء هذا التيار السياسي الرأسمالية التجارية المعتمدة في البازار. وهكذا، فإنهم لا يشجعون الاستثمارات الأجنبية، ولكنهم، بدلًا من ذلك، يفضلون المعاملات المالية القائمة على المضاربة والتي تدعمها الكيانات والمؤسسات الحكومية. وفي السنوات الأخيرة، تحوّل اليمين التقليدي إلى ما يُطلق عليه في إيران معسكر الأصوليين؛ أي الجماعة التي ترى نفسها الأقرب إلى المبادئ الأصلية للثورة الإسلامية. وكان الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد أبرز ممثل لهذه المجموعة.

يقدّم دارابي طوال الكتاب تحليلات تفصيلية لتيارات الإسلاميين اليمينيين، ورجال الدين والمفكرين ذوي الميول اليسارية، والقوميين العلمانيين والمتديّنين، والمفكرين الدينيين. وكمية المعلومات المتوافرة في الكتاب لافتة في عمقها واتساعها، كما أن النطاق الشامل للمواضيع التي يتناولها الكتاب لافت أيضًا. تلخص الجداول المتكررة بشكل مفيد الحجج الرئيسة للكتاب وتقدم لقطات عن المواقف الأيديولوجية أو تفصيلات أخرى ذات صلة عن المجموعات المختلفة التي تتم مناقشتها. وتتبع الفصول ببليوغرافيا تشمل أكثر من 320 مصدرًا. والأهم من ذلك، يتضمّن الكتاب في صفحاته الأخيرة، قائمة مفيدة للغاية، تشمل 235 حزبًا وتجمعًا سياسيًا، ومنظمات المجتمع المدني، إلى جانب أسماء مؤسسيهم أو الناشطين الرئيسين فيها.

بالطبع لا يخلو كتاب دارابي من بعض القيود. فعلى الرغم من أن المؤلف لا يميل إلى التمييز في تحليله للمجموعات؛ إذ لا يفضل بعضها على الآخر، فإن بعض تحليلاته في الأجزاء الأولى من الكتاب تبدو أكثر دقةً وشمولًا، مقارنة بما يرد في الفصول اللاحقة. وتجدر الإشارة إلى أن بعض أجزاء الكتاب وصفية أكثر منها تحليلية، حيث تحدّد ببساطة المواقف أو التوجهات الأيديولوجية للمجموعات أو الأفراد، بدلًا من وضعها في سياق وإطار اجتماعي وسياسي أوسع، ودراسة أسباب الأفعال وعواقبها.

لا يمكن إجراء تحليل ذي مغزى للتيارات السياسية في بلدٍ ما خارج السياق المؤسسي للنظام السياسي. ففي إيران، أدّت البنية المؤسسية للجمهورية الإسلامية المعقّدة للغاية - والمتشابكة في الواقع – دورًا حاسمًا في تحديد شكل مختلف التيارات السياسية وتوجهها بصورة خاصة، وفي النهاية الثروات التي راكمتها. وكانت تلك التيارات ظهرت من وقت إلى آخر. يجسد صعود آية الله حسين علي منتظري وسقوطه غير الرسمي هذه المسألة. فقد كان تلميذًا مخلصًا وتابعًا لآية الله الخميني في أيام شبابه، وكان منتظري أحد المؤيدين الرئيسين لتضمين فكرة ولاية الفقيه في دستور الجمهورية الجديدة في عام 1980. وفي عام 1985، جرى تعيين منتظري رسميًا نائبًا للخميني وخليفة له.

ولكن سرعان ما بدأ منتظري في التعبير عن اعتراضات متكّررة على سياسات الدولة، وخاصة على سلوك المقربين من الخميني، وبشكل خاص ابنه أحمد. وبحلول عام 1989، وصلت التوترات بين مؤسس الجمهورية الإسلامية وتلميذه السابق درجة لم تعد فيها علاقتهما قابلة للاستمرار. فعزل الخميني منتظري عن منصبه في آذار/ مارس من ذلك العام، أي قبل أقل من ثلاثة أشهر من وفاته. واتجه منتظري، الذي كان يومًا ما يمينيًا محافظًا أصيلًا، بعيدًا منتقلًا إلى اليسار إلى درجة لم تعد فيها المؤسسة قادرة على تحمل ما رأت فيه عنادًا وتصلبًا. ومن وجهة نظر ولاية الفقيه، كان على النظام أن يصحّح مساره، حتى لو كان ذلك يعني ترك الخميني الضعيف والمحتضر من دون خليفة كان قد جرى تعيينها.

ولم تُحذف بعدُ الفترة المشؤومة التي شغل فيها منتظري منصب نائب الخميني من التاريخ الرسمي للجمهورية الإسلامية. وما يُحسَب لدارابي أنه مخلص للقصة إلى حد ما، على الرغم من أن سرديته لها موجزة وخالية من التفصيلات الغنية التي تميز أغلبية التحليلات الأخرى الواردة في الكتاب. ولكن تحليل المؤلف يقصّر بشكل واضح لدى تناول التحوّل الذي طرأ على مكتب ولاية الفقيه خلال ولاية شاغله الحالي آية الله علي خامنئي، وما يعنيه ذلك لمختلف التجمّعات السياسية في البلاد. فقد كان خامنئي في البداية قائدًا ضعيفًا للغاية، وكانت ترقيته إلى رتبة آية الله ذريعة سياسية من أجل تسهيل ارتقائه إلى أعلى منصب في البلاد. وقد تم التشكيك علنًا في مؤهلاته بصفته المرجعية في مجلس خبراء القيادة الذي انتخبه لمنصبه، فاقترح خامنئي، تفاديًا لمزيد من الإحراج، بأنه لن يكون مرجعًا داخل البلاد، وسيكتفي بأن يكون مرجعًا للشيعة خارج إيران فحسب.

تنامى تدريجًا شعور خامنئي بالراحة في مكتب ولاية الفقيه، ليغادر سريعًا ظلال الرئيس القوي رفسنجاني، وبرز منذ ذلك الحين بصفته الرئيس الأول لجمهورية إسلامية مركزية وأمنية بشكل متزايد. في هذه العملية، كان خامنئي محافظًا بلا خجل في نظرته اللاهوتية والاجتماعية والسياسية، حيث فضّل باستمرار المواقف اليمينية التي عبّر عنها أعضاء المؤسسة الدينية والأصوليون على مواقف الآخرين. ونظرًا إلى ازدواجية السلطة التنفيذية في إيران؛ إذ تشمل رئيسًا من ناحية وولاية الفقيه من ناحية أخرى، كان لسلوك خامنئي في منصبه عواقب تتجاوز صنع السياسات. فقد تأثرت المؤسسات، ومعها التيارات السياسية والأيديولوجية، مباشرة بالتغيير الذي طرأ على مكتب ولاية الفقيه. وفي الواقع، أصبح خامنئي ملكًا وصانعًا للملوك في آن واحد.

ربما لم يخطئ دارابي في إغفاله تداعيات تطور مكتب المرشد وسلوكه وآثارها على بقية النظام السياسي. ففي النهاية، حتى العالم ببواطن الأمور، يجب أن ينال موافقة وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي على نشر مخطوطته. وحتى في حال حصل عليها، لا يمكنه المجازفة بأن يصبح مغضوبًا عليه أو أسوأ من ذلك. ومع ذلك، كان من الممكن إثراء الكتاب وتحليله أكثر لو أخضع الكاتب مكتب ولاية الفقيه أيضًا لتحليل دقيق.

على الرغم من هذه الملاحظات، يبقى كتاب دارابي فهم التيارات السياسية في إيران قيّمًا لما يحويه من بيانات إمبريقية تفصيلية إضافة إلى التحليل الثاقب. نُشرت الطبعة الأولى للكتاب في عام 2012، وصدرت الطبعة العشرون في عام 2018، وباعت أكثر من 36000 نسخة. سيكون من المستغرب إن لم تتم إعادة طباعة الكتاب في السنوات القادمة.