العنوان هنا
مراجعات 17 ديسمبر ، 2013

مئة مجزرة منظمة بحق الفلسطينيين: مراجعة كتاب "الكارثة والنهضة والنكبة"

الكلمات المفتاحية

محمود محارب

باحث مشارك في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، أستاذ جامعي فلسطيني له العديد من الكتب والأبحاث المتعلّقة بالصهيونية وإسرائيل، والقضية الفلسطينية، والصراع العربي الإسرائيلي. حصل على شهادة البكالوريوس في العلوم السياسية من "الجامعة العبرية" في القدس. وفي عام 1986 حصل على الدكتوراه في العلوم السياسية من قسم العلوم السياسية في جامعة ريدينغ في إنكلترا. ومنذ عام 1987 حتى عام 1990، عمل مديرًا لمركز الأبحاث التابع لجمعية الدراسات العربية في القدس المحتلة. 

 العنوان: الكارثة والنهضة والنكبة

 المؤلف: يئير أورون

الناشر: ريسلينغ - تل أبيب

السنة: 2013

عدد الصفحات: 374

 
رفضت الرواية التاريخية الرسمية الإسرائيلية للصراع العربي–الإسرائيلي وحرب 1948 الاعتراف بجريمة قيام المنظمات العسكرية الإسرائيلية والجيش الإسرائيلي بطرد الشعب العربي الفلسطيني من وطنه، وادّعت أن العرب الفلسطينيين غادروا فلسطين بمحض إرادتهم. واتخذت السلطات الإسرائيلية في سياق تعزيزها روايتها الرسمية، ولا سيما في العقود الأولى لتأسيس إسرائيل، إجراءات قانونية وإدارية أبقت من خلالها على محاضر اجتماعات الحكومة الإسرائيلية والجيش الإسرائيلي وجميع المؤسسات الإسرائيلية الأخرى ذات الصلة بطرد الفلسطينيين وارتكاب المجازر بحقهم مغلقة في الأرشيفات الإسرائيلية. وقد كشف تحقيق مهم نشرته صحيفة هآرتس الإسرائيلية في 18  أيار/ مايو 2013 أن رئيس الحكومة الإسرائيلية ومؤسس إسرائيل دافيد بن غوريون لم يكتف بالدعاية الإعلامية الإسرائيلية التي روّجت لأكذوبة مغادرة الفلسطينيين وطنهم سنة 1948 بمحض إرادتهم، وإنما طلب أيضًا من معهد شيلواح سنة 1961، في إثر ضغط الرئيس الأميركي جون كنيدي على إسرائيل بقبول عودة جزء من اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم، القيام بفبركة "أبحاث أكاديمية" تثبت أنَّ:

" أ- قيادات عربية في فلسطين وخارجها وهيئات عربية وفلسطينية شجعت العرب الفلسطينيين على الفرار من فلسطين في حرب 1948".

"ب – الجيوش العربية والمتطوعون العرب ساعدوا الفلسطينيين في الهروب، أكان ذلك بإخلائها قرى عربية أم بعلاقاتها السيئة بالفلسطينيين".

"ج – الجيش البريطاني ساعد العرب الفلسطينيين في الهرب في عديد من الأماكن".

"د – مؤسسات ومنظمات يهودية بذلت جهدًا لمنع الهروب"[1].  

استجاب معهد شيلواح لطلب بن غوريون، وكلّف مجموعة من الباحثين الإسرائيليين القيام بما طلبه بن غوريون بدقة. وكان معهد شيلواح ملائمًا جدًا لتنفيذ ما أراده بن غوريون، فقد أسسته وزارتا الدفاع والخارجية الإسرائيلية بالتعاون مع الجامعة العبرية، وعمل به المستشرقون الإسرائيليون الذين كانوا يخدمون وقتذاك في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية أو سبق لهم أن خدموا فيها. وكان على رأسه عند تأسيسه سنة 1959 الرائد في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية يتسحاق أورون، وظل هذا المعهد تابعًا للجامعة العبرية إلى أن انتقل إلى جامعة تل أبيب سنة 1965.  

بعد عدة عقود على النكبة،  ظهر في إسرائيل بعض الكتب والأبحاث التي اختلفت مع الرواية الرسمية الإسرائيلية بشأن حرب 1948، وبدأت تنتقدها وتكشف شيئًا فشيئًا تفاصيل عن حرب 1948 تتناقض مع الرواية التاريخية الإسرائيلية. ويساهم كتاب الكارثة والنهضة والنكبة في تعزيز هذا النقد للرواية التاريخية الإسرائيلية، ويدعو إلى اعتراف إسرائيل بالنكبة التي ألحقتها بالشعب الفلسطيني.    

يتكوّن هذا الكتاب الذي صدر باللغة العبرية من مقدمة ومدخل وأحد عشر فصلًا وخاتمة وملحقَين. مؤلفه يئير أورون، أستاذ التاريخ في الجامعة المفتوحة في إسرائيل، وقد صدر له 20 كتابًا اختص قسم منها في حروب الإبادة.

  عالجت فصول هذا الكتاب كلًّا من: البحث التاريخي الإسرائيلي الخاص بحرب 1948؛ أطراف الصراع في الحرب؛ اللقاء بين الناجين من الكارثة مع الييشوف اليهودي(*)؛ الموقف الصهيوني من العرب منذ ظهور الصهيونية وحتى حرب 1948؛ حضور الكارثة في النكبة؛ تأثير الكارثة في موقف المقاتلين اليهود من العرب في حرب 1948؛ المجازر في حرب 1948؛ النقاش بشأن عودة اللاجئين الفلسطينيين خلال حرب 1948 وبعدها؛ الأوراق الحربية: من أبواب فيلنا إلى مدخل أشدود؛ روايات الحرب ليزهار سميلانسكي، العرب والألمان والكارثة، أخلاق الحرب – نظرة مقارنة.

سعى المؤلِّف في كتابه إلى تقديم قراءة جديدة لما أُطلق عليه ثالوث الكارثة والنهضة والنكبة كموضوعات مرتبطة بعضها ببعض. ولم يبحث الكتاب في الكارثة أو المحرقة اليهودية، وإنما تمحور حول دراسة تأثير الكارثة في الييشوف اليهودي في فلسطين وفي الصراع الإسرائيلي–الفلسطيني، ولا سيما في حرب 1948. واستند المؤلِّف إلى مجمل الكتابات التاريخية الإسرائيلية التي عالجت حرب 1948 وإلى الأدب العبري الإسرائيلي الذي انعكست فيه هذه الحرب.

أشار المؤلِّف في مقدمة الكتاب إلى أنَّ إسرائيل بلورت رواية تاريخية وأساطير تأسيسية عن حرب 1948 المرتبطة بالكارثة وبالنهضة، أي بتأسيس إسرائيل. وأبرزت الرواية التاريخية والأساطير الإسرائيلية "بطولة" الييشوف اليهودي في فلسطين، وكيف انتصرت الأقلية على الأكثرية، وتجاهلت "الثقوب السوداء" الكثيرة التي رفضت الرواية التاريخية الإسرائيلية ولا تزال ترفض رؤيتها. واعتبر المؤلِّف أن البحث عن الحقيقة يستوجب رؤية هذه "الثقوب السوداء"، لأن من غير الممكن عيش الحياة في خداع مستمر للذات، ولأن مواجهة الحقيقة، مهما بلغت صعوبتها، تشكّل شرطًا ضروريًا للصحة النفسية الفردية والجماعية (ص 17). وأشار المؤلِّف إلى أن إسرائيل وروايتها التاريخية ما زالتا، على الرغم من مرور ستة عقود ونيف على النكبة، تتنكر للحقائق التاريخية، وتسنّ قوانين تهدف إلى محو ذكرى النكبة، وتحاول منع إجراء أي حوار بين روايتها التاريخية والرواية التاريخية الفلسطينية، وتعمل على استمرار فرض روايتها هي، تلك الرواية التي تتنكر لمجرد حدوث النكبة؛ فما زالت إسرائيل تنكر أنها طردت الفلسطينيين من أكثر من 532 مدينة وقرية، وأنها قامت بتدمير معظمها، وبتأسيس كيبوتسات وبلدات ومدن يهودية على أنقاضها، وبتوطين مهاجرين يهود في بيوت القرى والمدن الفلسطينية التي لم تدمرها.

عالج المؤلِّف في الفصل الخامس تأثير الكارثة التي تعرّض لها اليهود في أوروبا فترة الحرب العالمية الثانية في الييشوف اليهودي وفي موقف المقاتلين اليهود تجاه العرب الفلسطينيين في حرب 1948. وذكر أنَّ بن غوريون أدرك مدى تأثير الكارثة في الييشوف اليهودي في فلسطين وفي السعي إلى إقامة الدولة اليهودية فيها. من ناحية، قلص قتل ملايين اليهود بشكل كبير جدًا من أعداد اليهود الذين قد يهاجرون إلى فلسطين، لكن بن غوريون أدرك من ناحية أخرى أن العالم الذي اهتز عندما رأى حجم فظائع الكارثة، سيقف إلى جانب الييشوف اليهودي لتحقيق أهدافه. وأكد المؤلِّف أن الكارثة احتلت مكانًا مهمًّا في فكر بن غوريون السياسي وفي كيفية استغلالها واستثمارها لتحقيق أهداف الصهيونية؛ فقد استوعب بن غوريون، وفق ما ذكره المؤلِّف، الإمكانات العظيمة الكامنة في الكارثة ليس فقط لجهة تأثيرها في العالم لناحية دعم أهداف الصهيونية وتأثيرها في اليهود الناجين من الكارثة في الهجرة إلى فلسطين، وإنما أيضًا في تأثيرها في الييشوف اليهودي لناحية تحذيره وإنذاره وشحذ هممه وتعزيز محفزاته للقتال في الحرب ضد الفلسطينيين والعرب لتجنب وقوع كارثة جديدة. وقد أكد بن غوريون مرارًا، في سياق تعبئته للييشوف ولليهود في العالم: "علينا عدم القول أن ما حدث في أوروبا لستة ملايين يهودي لا يمكن أن يحدث لـ 650 ألف يهودي في فلسطين... فقد يحدث في فلسطين ما حدث في أوروبا... إذا لم نستعد بجدية ومن دون تسويف" (ص 108).

 استخلص المؤلِّف أن استعمال بن غوريون للكارثة أثّر تأثيرًا كبيرًا في قيادة الييشوف اليهودي وأفراده وقواته المسلحة، وساهم ضمن عوامل أخرى في أن يعتبر الييشوف، قيادة ومجتمعًا، أنه يخوض صراع وجود، فإمّا الانتصار على الفلسطينيين والعرب وإمّا الموت، وما ينتظر الييشوف في حال هزيمته سيكون شبيهًا بالكارثة التي لحقت بيهود أوروبا.

أشار المؤلِّف إلى أن قيادة المنظمة العسكرية الهاغانا وضعت خطة "دالت" موضع التنفيذ عند اشتداد المعارك بين الييشوف والفلسطينيين في آذار/ مارس 1948، وهي الخطة التي تضمنت طرد العرب الفلسطينيين من المناطق التي ستقام عليها الدولة اليهودية في فلسطين. وأفرد المؤلِّف مساحة واسعة لتوجيه النقد إلى اليسار الصهيوني، خاصة حزب مبام وأتباعه في كيبوتسات هاشومير هاتسعير الذين كانوا -كما أكد المؤلِّف- الأكثر ضغطًا ومناداة ومبادرة لطرد العرب الفلسطينيين من قراهم ومدنهم. وأشار المؤلِّف إلى أن حزب مبام الصهيوني اليساري غيّر عمليًا، وإن لم يكن رسميًا، خلال حرب 1948 مطلبه الأساس الذي كان يدعو إلى التعايش بين العرب واليهود، واستبدله بمطلب طرد العرب الفلسطينيين من قراهم ومدنهم. ولم يكتف كيبوتس مشمار هاعيمق مثلًا بمطالبة بن غوريون في الثامن من نيسان/ أبريل 1948 بطرد العرب من المنطقة، وإنما طالب أيضًا بحرقها (ص 113).

أشار المؤلِّف إلى أن بن غوريون أدرك التحول في موقف حزب مبام وكيبوتساته ورحّب به، وقال في 24 تموز/ يوليو 1948 إن قيادة حزب مبام، ذلك الحزب الذي كان برنامجه يدعو إلى الأخوة اليهودية–العربية، أدركت عقم شعار الأخوة هذا، و"رأت أنه يوجد طريق واحد فقط، وهو طرد سكان القرى العربية وحرقها، وقد نفذوا ذلك" (ص 114). علاوة على ذلك، مارس حزب مبام  والكيبوتسات التابعة له في الجليل الغربي، وكان تابعًا للدولة العربية الفلسطينية وفق قرار التقسيم الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر1947، ضغطًا كبيرًا على قيادة الدولة السياسية والعسكرية، وفق ما ذكره المؤلِّف، لاحتلال القرى والبلدات العربية في الجليل الغربي وطرد سكانها العرب منها.


جرائم إسرائيلية شبيهة بجرائم النازية

أوضح المؤلِّف أن الكارثة اليهودية أثّرت في القيم والأخلاق القتالية للمقاتلين الإسرائيليين، بما في ذلك الناجون اليهود من الكارثة والذين هاجروا إلى إسرائيل وانضموا إلى الجيش الإسرائيلي، فباتوا أكثر قسوة وأشد إجرامًا (ص 117). وأعطى المؤلِّف الكثير من الأمثلة على الفظائع والعمليات الإجرامية التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي والمنظمات العسكرية ضد العرب الفلسطينيين، من قتل بدم بارد، وإعدام للأسرى وهم مكتوفو الأيدي، واغتصاب للنساء. ومن تلك الأمثلة ما اقترفه الجيش الإسرائيلي من جرائم عند احتلال قرية الصفصاف في الجليل؛ فقد ذكر أحد الجنود الإسرائيليين الذين شاركوا في احتلال الصفصاف أن القرية "رفعت الأعلام البيضاء عند احتلال الجيش الإسرائيلي لها، وجمع الجيش الرجال على حدة والنساء على حدة، وربط أفراد الجيش أيدي خمسين – ستين فلاحًا ثم أطلقوا النار عليهم وقتلوهم جميعًا ثم دفنوهم في حفرة واحدة. ثم اغتصبوا عددًا من النساء". وأضاف أنه رأى "عددًا من النساء مقتولات بالقرب من الغابة وكانت بينهن امرأة مقتولة تمسك في حضنها طفلها المقتول أيضًا" (ص 118). وعندما احتل الجيش الإسرائيلي قرية عيلبون في الجليل، أمر سكانها بمغادرتها. وعندما احتج بعض سكان القرية وقالوا إن طردهم من القرية يتناقض مع المنشورات التي ألقاها الجيش الإسرائيلي عليهم، أطلق الجنود النار عليهم وقتلوا منهم ثلاثين مدنيًا بدم بارد. وللتدليل على مستوى الإجرام الذي وصل الجيش الإسرائيلي إليه في حرب 1948، اقتبس المؤلِّف ما كتبه يوسف نحماني في مذكراته (الموجودة في أرشيف كفار جلعادي، وقد جرى حذفها عندما نشر يوسف فايتس هذه المذكرات سنة 1969 في كتاب حمل اسم: يوسف نحماني رجل الجليل) التي قارن فيها بين جرائم الجيش الإسرائيلي وجرائم النازيين في وصفه احتلال قرية الصالحة التي استسلمت ورفعت الأعلام البيضاء؛ فقد كتب يوسف نحماني في مذكراته: "قام الجيش الإسرائيلي بذبح العرب فعلًا بالسكاكين. لقد ذبحوا 60 – 70 رجلًا وامرأة. من أين أتوا بهذه القسوة مثل النازيين؟ لقد تعلموا منهم. قال لي أحد الضباط لقد برز في الأعمال الإجرامية أولئك الجنود الذين جاءوا من المعسكرات[ النازية]" (ص 118). 


المجازر في حرب 1948

أشار المؤلِّف إلى أن عدد المجازر التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي والمنظمات العسكرية الإسرائيلية كان أكثر ممّا توقّعه وأشد قسوة ممّا كان يعتقد قبل بحثه في هذا الموضوع. وأوضح أن ارتكاب الجيش الإسرائيلي للجرائم والمجازر وقتل المدنيين وقتل الأسرى والاغتصاب والسطو على ممتلكات الفلسطينيين، كل ذلك كان أمرًا روتينيًا في حرب 1948. واستند المؤلِّف في عرضه وتحليله للمجازر وعمليات الاغتصاب التي ارتكبتها القوات العسكرية الإسرائيلية إلى الكثير من الكتب والدراسات الإسرائيلية التي كتبها باحثون ومؤرخون إسرائيليون، ولا سيما بِني موريس وإيلان بابِهْ ويوآف غيلبر. وأشار المؤلِّف إلى أن أغلبية الدراسات والكتب التي ألّفها باحثون إسرائيليون وفيها معالجات للمجازر التي ارتكبتها القوات العسكرية الإسرائيلية، تجنبت كشف كل الحقيقة، ودأب قسمها الأعظم على طمس الحقيقة أو إنكار حدوثها. وقد تمشى ذلك مع سياسة المؤسسة الإسرائيلية والرقابة العسكرية التي عملت على إخفاء الحقائق في كل ما يتعلق بجرائم الحرب والمجازر التي ارتكبتها القوات العسكرية الإسرائيلية في حرب 1948. وأشار المؤلِّف إلى أن جزءًا كبيرًا من محاضر جلسات الحكومة الإسرائيلية في الفترة الممتدة من أيار/ مايو 1948 إلى آذار/ مارس 1949 ما زالت مغلقة، لا سيما تلك المحاضر التي تناولت طرد العرب، وتدمير القرى العربية، والمجازر، وعمليات الاغتصاب، وعمليات السطو على الممتلكات العربية ونهبها. واستخلص المؤلِّف أن ذلك كلّه يقود إلى افتراض مفاده إن "عمليات طرد العرب، تدمير قرى عربية، أعمال السطو والنهب، الاغتصاب والقتل التي اقترفتها قوات الهاغانا والجيش الإسرائيلي كانت أكثر بكثير ممّا نعرفه حتى الآن"، (ص 176)، والدليل على ذلك -كما ذكر المؤلِّف- هو ظهور حقائق جديدة في السنوات الأخيرة بين الفينة والأخرى بشأن الجرائم والمجازر وأعمال الاغتصاب التي ارتكبتها القوات العسكرية الإسرائيلية بحقّ الفلسطينيين في حرب 1948.

خصص المؤلِّف مساحة واسعة من فصل المجازر في حرب 1948 (ص 129–179) لوصف وتحليل أبرز المجازر التي ارتكبتها القوات العسكرية الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، وهي مجازر الطنطورة ودير ياسين واللد وعين زيتون. وقد عرض المؤلِّف المصادر الإسرائيلية التي عالجت هذه المجازر، وبحث في عدد الضحايا الفلسطينيين الذين سقطوا فيها، ووصف كيفية حدوثها وكيفية قتل القوات العسكرية الإسرائيلية المدنيين الفلسطينيين، أطفالًا ونساء ورجالًا، وعرض مذكرات وشهادات إسرائيليين شاهدوا هذه المجازر. وأوضح المؤلِّف الدور البارز لقوات البالماخ (كتائب الانقضاض) التي انتمت الأغلبية العظمى من قيادتها وضباطها وجنودها إلى اليسار الصهيوني، في ارتكاب معظم هذه المجازر، مثل مجزرتي اللد وعين الزيتون وغيرهما الكثير. واستعرض المؤلِّف مجزرة عين الزيتون التي كُشف النقاب عنها في سنة 1985. وذكر أنه في سياق احتلال القوات الإسرائيلية للجليل الشرقي، احتلت قوات البالماخ في بداية أيار/مايو 1948 قرية عين الزيتون الواقعة بالقرب من صفد ودمرتها وأسرت حوالى 100 عربي وقامت بربط أيديهم وأرجلهم وأبقتهم في الوادي بالقرب من القرية، وبعد مرور يومين قامت البالماخ بقتل جميع هؤلاء الأسرى وهم موثقو الأيدي والأرجل (ص 170)؛ فالقوات العسكرية الإسرائيلية لم تكن تبقي الأسرى على قيد الحياة، وقتل الأسرى العرب كان أمرًا عاديًا وروتينيًا حتى تلك الفترة من الحرب.

عبّر المؤلِّف عن اعتقاده أنه لم يتم الكشف حتى الآن عن جميع المجازر والجرائم التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي في حرب 1948. ونقل المؤلِّف عن الباحث الإسرائيلي دان ياهف تأكيده أنه كان معروفًا حتى عام 2002 حدوث عشرين مجزرة بحق الفلسطينيين، وبعد ذلك بسنوات قليلة كشف النقاب عن ثماني مجازر جديدة لم تكن معروفة من قبل. وذكر المؤلِّف أن المدير السابق لأرشيف الجيش الإسرائيلي أرييه يتسحاقي أكد أن القوات العسكرية الإسرائيلية ارتكبت عشر مجازر كبيرة ذهب ضحية كل واحدة منها أكثر من 50 فلسطينيًا، ومئة مجزرة صغيرة قُتل في كلٍّ منها أقل من 50 فلسطينيًا (ص 313).


اغتصاب النساء الفلسطينيات

أفرد المؤلِّف في كتابه حيّزًا للبحث في ظاهرة اغتصاب جنود وضباط من الجيش الإسرائيلي نساء وفتيات فلسطينيات في حرب 1948، فأشار، استنادًا إلى مؤرّخين إسرائيليين، ولا سيما بِني مورس، إلى جرائم اغتصاب ارتكبها جنود وضباط إسرائيليون في 12 مدينة وقرية فلسطينية على الأقل. وكان الجنود والضباط الذين ارتكبوا هذه الجرائم من خلفيات مختلفة، فبعضهم كان من الناجين من معسكرات الاعتقال النازي، وبعضهم الآخر كان من الييشوف اليهودي في فلسطين. وكان نمط الاغتصاب يتكرر مرة تلو أخرى، إذ تقوم مجموعة من الضباط والجنود الإسرائيليون باغتصاب عدد من النساء أو الفتيات الفلسطينيات عند احتلال القرية أو المدينة ثم تعمد إلى قتلهن. ويرى المؤلِّف أنه لم يتم حتى الآن الكشف عن مجمل جرائم اغتصاب النساء الفلسطينيات التي ارتكبها جنود وضباط من الجيش الإسرائيلي في حرب 1948، لأن الملفّات التي عالجت هذه الظاهرة ما زالت مغلقة حتى الآن رغم مرور ستة عقود ونيف على هذه الجرائم.

عرض المؤلِّف بالتفصيل لجريمة كُشف النقاب عنها في سنة 2005، قام فيها عشرات الضباط والجنود في الجيش الإسرائيلي باغتصاب فتاة عربية فلسطينية من النقب. وتدلّ هذه الجريمة على القيم والممارسات التي كانت سائدة في الجيش الإسرائيلي خلال حرب 1948 تجاه هذه المسألة. وذكر المؤلِّف أن قوات الجيش الإسرائيلي كانت بعد احتلالها لمنطقة النقب في جنوب فلسطين تقوم بعمليات قتل وتطهير عرقي ضد العرب الفلسطينيين، بناء على أوامر شفوية في البداية ومن ثم أوامر مكتوبة من قيادة الجيش الإسرائيلي (ص 134). وذكر المؤلِّف أنه في 12 آب/ أغسطس 1949، صادفت وحدة آلية من الجيش الإسرائيلي عربيًا فأطلقت النار عليه وأردته قتيلًا. وصادفت بعد ذلك بقليل رجلين عربيين وفتاة عربية، فأرغمت الرجلين على الفرار واعتقلت الفتاة العربية التي لم تكن سنّها تتجاوز 15 سنة. وفي أثناء عودتها إلى قاعدتها العسكرية، مرت بقطيع من الجمال يزيد عددها على 60 جملًا فأطلقت النار عليها وقتلتها. وعند وصول الوحدة العسكرية إلى قاعدتها في نيريم في النقب جرّد جنود من الجيش الإسرائيلي الفتاة العربية من جميع ملابسها، وأحرقوا الملابس، ثم غسلوا الفتاة وقصوا شعرها، وجرى كل ذلك أمام عشرات الضباط والجنود الموجودين في القاعدة العسكرية. وبعد ذلك، أمر قائد القاعدة العسكرية بجعل الفتاة العربية "جارية جنس" لجنود وضباط القاعدة. وفعلًا اغتصبها عشرات الضباط والجنود. وبعد أن أشبعوا غرائزهم الوحشية أمر قائد القاعدة بنقل الفتاة العربية بسيارة إلى بعد 500 متر وقتلها ودفنها هناك، ونُفّذ الأمر (ص 134– 135).

أكد المؤلِّف في خاتمة كتابه أن جنودًا وضباطًا في الجيش الإسرائيلي ارتكبوا مجازر وفظائع في حرب 1948 ضد الفلسطينيين، وأن أحدًا منهم  لم يقدَّم للمحاكمة، وأن القوات الإسرائيلية المسلحة قامت بعمليات تطهير عرقي في مناطق مختلفة من فلسطين المخصصة لقيام الدولة اليهودية، وأن طرد الفلسطينيين وعمليات التطهير العرقي جرت وفق سياسة الحكومة الإسرائيلية واستراتيجيتها.


 [1]  شاي حزقني، "البحث الذي كان من المفترض أن يثبت أن العرب هربوا في 1948"، هآرتس، 18 / 5 /2013.

http://www.haaretz.co.il/magazine/.premium-1.2021786

*  الـييشوف، هو الوجود اليهودي في فلسطين، وهي كلمة عبرية تعني التوطّن أو السكّن، وتشير إلى الجماعات اليهودية التي تستوطن فلسطين لأغراض دينية. كان ثمّة ييشوف قديم هو الجماعات اليهودية التي كانت تعيش على الصدقات التي ترسلها له جماعات يهودية أخرى، ولم يكن عند أعضاء هذا الييشوف القديم أي مطامع سياسية لأن الغرض من وجوده كان دينيًا محضًا، وكان على علاقة طيبة بالعرب. أمّا الييشوف الجديد -وهو الأكثر استعمالا وشيوعًا- فيشير إلى التجمع الاستيطاني اليهودي الصهيوني قبل قيام دولة إسرائيل، ما بين عامي 1882-1948. وأعضاء الييشوف بهذا المعنى هم جماعة قومية استيطانية صهيونية ذات برنامج سياسي محدد تستهدف إقامة "الوطن اليهودي"، وقد ركزوا جهدهم على تأسيس بنية اقتصادية وسياسية وحضارية في إطار مفاهيم انعزالية تفصلهم عن العرب. وتستخدم كلمة "ييشوف" بطريقة توحي بأن ثمة استمرارًا في الوجود اليهودي في فلسطين، وأنه كان مستقلًا ومنفصلًا عن المنطقة العربية. ومع تحقق هدف الييشوف بإقامة دولة إسرائيل عام 1948، أصبحت فترة النشاط الصهيوني الاستيطاني قبل هذا التاريخ هي فترة الييشوف. (التحرير)