العنوان هنا
مقالات 01 أبريل ، 2012

إضاءة على خلفيّة المشهد السّياسي في الكويت

الكلمات المفتاحية

تشهد الكويت منذ أكثر من عامين، حلقة تكاد تكون مفرغة من كثرة تكرارها في خلافات، بل في صراعات بين البرلمان ومجلس الوزراء. وتمثّلت آليّاتها وتكتيكاتها في استجوابات للوزراء، تعقبها استقالة رئيس الوزراء، ثمّ إعادة تعيينه مصحوبًا بطاقمٍ جديد. وقد تطوّر الوضع مؤخّرًا إلى درجةٍ من الحراك العنيف؛ تمثّل في اقتحام بعض الجمهور لمقرّ البرلمان، ومن ثمّ حلّه وإجراء انتخابات جاءت بأغلبيّة معارضة، وتعيين رئيس وزراء جديد من فرعٍ آخر من الأسرة الحاكمة غير تلك التي ينتمي إليها السّابق. ولكن برز اعتراض منذ الوهلة الأولى على الحكومة التي حاول رئيس الوزراء أن يشرك في مشاوراتها وعضويّتها البرلمان؛ لكنْ اعترضت أغلبيّته المعارضة على المحصّلة النّهائية لأسماء الوزراء.
وربّما ترى القراءة المتعجّلة للمشهد في الكويت أنّه شكلٌ من أشكال حراك الرّبيع العربي أو من تداعياته بدرجةٍ ما؛ لكنّ  الواقع هو غير ذلك. فمرجعيّة ذلك المشهد على المستويين الشكلي والمضموني، تتمثّل في طبيعة العلاقات السّياسية المستندة إلى إرثٍ تاريخي للمجتمع الكويتي؛ والذي جعل الممارسة الديمقراطيّة ذات حيويّة في حدود الأعراف الذّاتيّة التي يدرك خصائص شفرتها أفراد المجتمع قادةً وجمهورًا. وفي إطار تلك الممارسة تكون المنافسة ويكون الصّراع مهما بلغت حدّته؛ ولو بلغت الدّرجة التي قد يراها مراقب من الخارج على أنّها بوادر تغيير سياسيّ، قد يسمّيه بلغة الإعلام جذريًّا.

ولفهم خلفيّات المشهد الكويتيّ؛ ربّما كنّا في حاجةٍ إلى قراءة تلك الخصائص بمرجعيّتها التاريخيّة وبتمثّلاتها الحاضرة، وإلى النّظر في عوامل التطوّر العمليّة والأقدار التي تؤثّر في تشكّلها على مستوى الواقع.

فقد تأسّست دولة الكويت الحاليّة على أساسٍ متميّز من التّعاقد الاجتماعي بين المجموعات التي كانت تمارس النّشاط التّجاري، و"آل الصباح" الذين استقرّوا في هذه البقعة من الجزيرة العربية منذ القرن الثّامن عشر؛ بحكم الحقوق القبليّة في الحركة والاستقرار، وأعرافها وأحكامها المتعارف عليها بين سكّان الجزيرة. ومن ثمّ، صار لآل الصباح الحكم برضا كلّ الأطراف وبالتّوافق؛ وذلك بحكم الخصائص التي تميّزت بها كلّ من الفئتين وقدراتهما النّوعية. وقد حافظ "آل الصباح" على ذلك التّقاسم؛ في حين تحرّك أبناء عمومتهم من أهل التّجارة / "آل خليفة" إلى منطقة البحرين الحالية، وصاروا حكّامًا لها إلى اليوم. ثمّ كان دخول البترول كمصدر قوّةٍ لآل الصباح في إدارة الحكم؛ ولكن دون إخلال بالخصيصة المميّزة للكويت، المتمثّلة في عقدها الاجتماعيّ القائم على الحاجة الحقيقيّة للتّعاون والمساندة بين الفئتين الفاعلتين، عن طريق آليّة حرّية الرّأي. وصارت تلك سمة للمجتمع الكويتي بمختلف مستويات مؤسّساته، ابتداءً من الأسرة الشّخصية والنّشاط الخارجي لعامّة النّاس الذين هم في النّهاية أبناء الفئتين المتعاقدتين عُرفًا. وقد تأسّست الممارسة السّياسية بمؤسّساتها، في ظلّ هذا الجوّ من حرّية الرّأي والتّعبير للأفراد، فكان ذلك آليّة للتّغيير وسلاحًا له.

ولقد شهد المجتمع الكويتي تطوّرًا فكريًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا منذ خمسينيّات القرن الماضي، تمثّل في تأثّر القطاع المتعلّم بالتوجّهات الفكريّة لحركات القوميّة العربيّة والناصريّة والإسلاميّة. وكان ذلك نتيجة للبعثات الدّراسية إلى الخارج ومصر بصفةٍ خاصّة، ثمّ بسبب فتح الكويت أبواب العمل لأبناء العرب عامّةً ولأبناء فلسطين خاصّةً، ممّا كان له تأثيرٌ أيضًا في التوجّهات الفكريّة والعمليّة في البلاد. وقد اتّسمت الممارسة العمليّة لتلك المبادئ لدى الشّباب الكويتيّ بالحماس والحيويّة؛ لاسيّما في تفاعله مع القضايا العربيّة والإسلاميّة، مدعومًا في ذلك بسخاء حكّام الكويت، وتفاعلهم حيال تلك القضايا؛ مع توفّر حرّية الحركة. ثمّ ظهرت منذ الثّمانينيّات درجة من الحراك الفكريّ والثقافي والاجتماعي نحو السّلفية، كردّ فعل حمائي حيال ثورة الخميني في إيران. وربّما كان ذلك الحراك مدفوعًا من خارج الكويت، في إطار إستراتيجيّة بعض القوى الإقليميّة. وهو ما أدّى إلى بعض التّوتّر، وقاد -من ثمّ- إلى التّنبّه الانتمائي لدى قطاعٍ من الشّيعة، الذي يضمّ نسبةً عالية من أصحاب الأعمال الرأسماليّين. وقد اتّخذ ردّ الفعل ذلك -أحيانًا- مظهرًا من العنف خلال الحرب العراقيّة الإيرانيّة. ثمّ جاء الغزو العراقيّ للكويت (1990)، الذي كان من مفارقاته أنْ منح الفئة الشّيعية حرّية الممارسة العمليّة لمذهبها؛ نتيجة مشاركتها الفاعلة في المقاومة الداخليّة. وهو ما أدّى إلى مزيدٍ من التّسامح بين فئات المجتمع الكويتيّ؛ بخروج شعائر الفئة الشّيعية من عالم المسموع والمتَوهَّم أحيانًا، إلى عالم المشهود. وقد ساعد على ذلك ما اتّسم به المجتمع الكويتيّ من اعتدالٍ في سنّيته وشيعيّته، بحكم طبيعته المدنيّة المنفتحة، والباحثة عن التّوافق مع الآخر؛ بحكم العلائق التّجارية ومصالحها، وبحكم موقعها البحريّ والتّواصل الحضاريّ مع العالم الخارجيّ.

والواقع أنّ الممارسة الشّيعية في الكويت، لا تكاد تشعر فيها بتلك السّمة الطائفيّة. وهناك قطاعٌ لا تعود مرجعيّته الفكريّة والمشيخيّة إلى "النّجف الأعظم" أو "قم"؛ وإنّما إلى لبنان، ومدرسة السيّد محمد حسين فضل الله. هذا إضافةً إلى قطاعٍ آخر،  يكاد أن يكون ارتباطه بالمذهب الشّيعي تاريخيًّا وراثيًّا. ولقد ظلّت مؤسّسة الحكم ذاتها، تحتفظ بعلاقةٍ خصوصيّة مع إيران الخمينيّة، متفاهَمٍ عليها بشفرةٍ بين الطّرفين؛ ويُراعى فيها الوضع الإقليميّ الدّقيق للكويت، وقطاعها الشّيعي المؤثّر في المجال الاقتصاديّ على الأقلّ. كما أنّ القوى الإقليميّة الحذرة من النّفوذ الإيرانيّ، تتفهّم أيضًا تلك الخصوصيّة لوضع الكويت.
وقد شهدت فترة ما بعد الغزو العراقيّ للكويت أيضًا انتقال أفرادٍ ومجموعات أسريّة من الجوار إلى الكويت، وذلك بحكم التّداخل القبليّ؛ الأمر الذي كان له أثرٌ في التوجّه الاجتماعيّ المدنيّ المنفتح في الكويت. إذ صار المجتمع أقرب إلى التكتّل القبليّ سياسيًّا، وإلى النّظرة السلفيّة فكريًّا. ويتمثّل جانبٌ من ذلك في ما يتعلّق بأوضاع المرأة وحقوقها.

وإذا لم يطل ذلك التطوّر والتحوّل الخصائص والسّمات الأساسيّة للمجتمع الكويتيّ، بعقده الاجتماعيّ المتميّز؛ فإنّ الممارسة العمليّة بأعرافها وحريّتها، كانت -بلا شكّ- تتأثّر بذلك في تمظهرها الخارجيّ وفي آليّاتها، بسبب ما تشهده المجتمعات من تطوّرٍ وتغيير.

ولكن، أيًّا كانت الدّرجة التي بلغتها الممارسة العمليّة للقوى السياسيّة من خلال البرلمان؛ فقد ظلّت في حدود القبول بخيارات الأسرة الحاكمة ذات السّمة الأبويّة، والاكتفاء بمواجهة الوزراء والضّغط عليهم، ودفعهم نحو الاستقالة أحيانًا كثيرة. ولكنّ صورة المعارضة البرلمانيّة، صارت تتراءى منذ فترة، وكأنّها رفض لاختيارات القيادة السّياسية؛ وذلك من خلال استهداف رئيس الوزراء شخصيًّا. الأمر الذي أدّى بالقيادة إلى استبداله بشخصيّةٍ أخرى من داخل الأسرة الحاكمة، بعد أن كانت تكتفي في المرّات السّابقة باستبدال طاقم الوزراء.

ولاستبطان هذا التحوّل النّوعي في ممارسة المعارضة البرلمانيّة، وإصرارها على فرض خياراتها بالكامل؛ كان علينا النّظر في تاريخ الضّلع الأساسيّ في منظومة الحكم في الكويت، وما طرأ عليه من تحوّلات طبيعيّة ووراثيّة، منحت المعارضة سندًا في تصلّب مواقفها.  

لقد برزت الكويت دولةً ذات كيان وسيادة على يد المؤسّس "مبارك الكبير"؛ والذي نصّ الدّستور الكويتيّ على أنّ ولاية الحكم هي مورّثة في أبنائه، الممثّلين في أربعٍ من الأسر الرّئيسة. ثمّ أدّت الأقدار وتوافر شروط قدرات القيادة بحسب الظّروف القائمة في وقت، إلى أن تنحصر القيادة في أسرتيْ "السّالم" و"الجابر"، وأن يكون التّداول بينهما للإمارة وولاية العهد. ثمّ قادت ضرورات الحكم مؤخّرًا، إلى تولّي أسرة "الجابر" مسؤوليّة الإمارة وولاية العهد إلى جانب رئاسة الوزراء. ولكن أيًّا كانت الأسباب العمليّة وضرورات الحكم لذلك التّحوّل؛ فإنّ قطاعًا من الجناح الآخر لم يكن راضيًا، وربّما كان البعض من الأسرتين الأخريين -اللّتين صارتا بعيدتين عن الإمارة منذ حقب- غير راضٍ بذلك أيضًا.

ولمّا كانت طبيعة العلاقات الأسريّة في الكويت، لا تتيح تصعيد الخلافات بحدّة على المستوى العمليّ؛ لجأت أجنحةٌ من الأسرة الحاكمة إلى مساندة المعارضة السّياسية والبرلمانيّة ودفعها، على الرّغم من اختلاف أجندتها الفكريّة والسياسيّة. ولا شكّ في أنّ دخول أجنحة من الأسرة الحاكمة في المعركة السّياسية؛ قد منح المعارضة قوّةً دافعةً وظهرًا حاميًا، بقدر ما قلّص من قدرة مؤسّسة الحكم على المجابهة، وفرض ما تراه المصلحة العامّة بعيدًا عن المناكفة السّياسية. وربّما عملت هذه الأخيرة على سلب المعارضة تلك القوّة المكتَسبة، من خلال محاولة احتواء عناصر من الأسرتين اللّتين ظلّتا بعيدتين عن القسمة الفاعلة في الحكم. وتبيّن شيء من ذلك في اختيار رئيس الوزراء الحالي؛ إضافةً إلى كسب تأييد جماعات من الجناح الذي كان يتقاسم وظائف الحكم حتّى وقتٍ قريب.

وربّما يكون التّحليل السّابق قراءةً لأحد العناصر التي تقف وراء موجّهات المشهد السياسيّ في الكويت؛ ولكنّه لا ينفي بقيّة العناصر التي أدّت بالوضع إلى المشهد الحالي. فهناك مطالب حقيقيّة لإصلاحات سياسيّة واقتصاديّة على مستوى البرامج والتّنفيذ، وعلى مستوى الأفراد المنفّذين. والكويت اليوم ليست كويتَ الأمس، بترابطها الأسريّ البسيط وتداخلها الاجتماعيّ؛ إذ شهدت خلال العشرين سنةً الأخيرة تطوّرًا على المستوى الفكريّ والثقافيّ بل الدّيمغرافي، وتحوّلًا في مجالات النّشاط الحياتيّ المعيشيّ وصيغه. ولعلّ ما يمكن أن يزيد الوضع تعقيدًا؛ هو أنّ المجموعات التي تعيش هذه التّحوّلات، عقائديًّا وفكريًّا وقبليًّا وطائفيًّا وقطاعًا رأسماليًّا، تشهد انقسامًا رأسيًّا حيال القضايا والخلافات السّياسية القائمة على مستوى المواقف والتّحالفات. وهذا ما يقتضي مواكبةً للأحداث، واستيعابًا للطّارئ منها، ومعالجة قائمة على ما تأسّست عليه الكويت من مبادئَ وخصائصَ عند ميلادها الأوّل.