العنوان هنا
مقالات 27 مارس ، 2012

إضاءة على بعض ملامح الرّبيع العربي وتداعياته

لقد تنوّعت ثورات الربيع العربي وانتفاضاته بحسب البيئة الاجتماعيّة والأنظمة الحاكمة. وقد كان الحراك أسرع في تحديد ملامح تلك الثّورات وتحقيق أهدافها؛ كلّما ارتفعت درجة المدنيّة في البيئة المحيطة. فثورتا تونس ومصر كانتا الأسرع تبلورًا، على الرّغم ممّا كان يبدو من سطوة الفئة الحاكمة وقوّتها. ذلك أنّ المؤسّسات المساندة للأنظمة أمنيًّا، لم يتعدّ ارتباطها وولاؤها حدود المستوى المهنيّ، وإن جنَى البعض في تلك المؤسّسات فوائدَ مادّية متفاوتة على الصّعيد الفردي.

أمّا تلك الدّول التي تأسّست فيها -تاريخيًّا أو سياسيًّا- عصبيّةٌ جهويّةٌ أو قبليّةٌ أو طائفيّةٌ أو مذهبيّةٌ أو أيديولوجيّةٌ، وتحكّمت فيها وسادت؛ فإنّ زوال النّظام القائم فيها، كان يعني زوال مكاسب تلك الفئات المساندة في جميع المؤسّسات. وقد أدّت تلك البيئة -بواقعها ذاك- إلى إطالة الصّراع، وتصاعد أدوات الحراك والمواجهة وردود الفعل، إلى درجة أرهقت ربّما الطّرفين، واضطرّتهما للمساومة، والوصول إلى حلٍّ وسط، كما هي حال اليمن. وفي حالاتٍ أخرى، اضطرّ الطّرفان إلى اعتبار الحراك فصلا في المعركة المصيريّة الممتدّة، وإلى اكتفاء كلّ طرف -وخاصّةً الثّائر منهما- بما تحقّق، وتأجيل الحسم لمستقبلٍ قادم؛ هذا مع إدراك كلّ طرف مخاطر ذلك الموقف على وجوده العضوي. ويتمثّل ذلك في الحالة السوريّة؛ إذ لا يُتوقّع أن يتنازل نظام الحكم القائم فيها عن السّلطة، كما وقع في الحالتين التّونسيّة والمصريّة، أو أن يساوم فيها، كما حصل في الحالة اليمنيّة. ولكنّ الحضور الدّولي، قد يجعل ملاحقة النّظام للمعارضة بالتّصفية أمرًا صعبًا؛ وذلك بسبب الضّعف النّسبيّ الذي سينتابه عقب المعركة القائمة.

ويمكن اعتبار المسألة اللّيبيّة خليطًا من الحالتين. فقد تولّدت شرارة الحراك ضدّ النّظام، نتيجة للأسلوب العنيف في مواجهة الذين اختُلف معهم أيديولوجيًّا، متمثّلين في الجماعات الإسلاميّة. وهي جماعات قد تمركزت وتمترست في شرق البلاد بسبب ظروفٍ عمليّة، مدعومةً في ذلك بتعاطف جهويّ وقبليّ. ومن ثمّ، تبلور حولها حراك كلّ أولئك الذين لهم سببٌ للخلاف مع النّظام؛ سواء كان أيديولوجيًّا أو سياسيًّا أو جهويًّا، وربّما كان قبليًّا بدرجةٍ ما. هذا إضافةً إلى من اختلفت وجهات نظرهم مع النّظام من داخله، ثمّ صاروا سريعًا ركائزَ أساسيّة للثّورة ضدّه. ونظرًا إلى أنّ القوى المساندة للنّظام القائم في ليبيا، لم تكن حينذاك مؤسّسة على عصبيّةٍ حادّة؛ فإنّها كانت مهدّدة بالزّوال مع سقوط النّظام وقائده الفرد. وقد أطال ذلك نسبيًّا المعركة، غير أنّ النّهاية كانت معروفة ومحتومة للنّظام مهما طالت مقاومته؛ وذلك بسبب انتفاء ما يمكن عَدُّه تعصّبًا جمعيًّا وسط المساندين، مثلما هو قائمٌ في كلٍّ من الحالتين اليمنيّة والسّوريّة.

لقد كان العامل الدّولي قويًّا، إن لم يكن حاسمًا في بعض الحالات، في تحديد مسار الحراك ضدّ الأنظمة القائمة وسرعته بدرجاتٍ متفاوتةٍ من الفاعليّة. وذلك إذا أخذنا بعين الاعتبار نوعيّة البيئة الاجتماعيّة والسّياسيّة القائمة، وطبيعتها في كلّ بلد على حدة، مثلما أسلفنا. ولا يمكن الادّعاء أنّ العامل الخارجيّ، كان هو الفاعل في الحالة التّونسيّة والمصريّة. فدوافع التحرّك الجماهيري وفاعليّته وإصراره وقوّة استمراريّته؛ كانت عوامل قادرة على حسم معركته ضدّ النّظام بأدواتٍ مدنيّة. وربّما كان العنصر الخارجيّ، بزخمه الإعلامي وضغطه السّياسي؛ مؤثّرًا في اتّجاه فقدان النّظام المستهدَف فاعليّته، وثقته بأدواته ووسائله، وكامل سيطرته عليها. ولكنْ لا شكّ في أنّ العامل الخارجيّ بقيادة الدّول الغربيّة؛ كان عنصرًا رئيسًا في تجنيب الثّورة اللّيبيّة الدّخول في نفق الحالة السّورية، مع التأكيد على أنّ العامل الدّاخليّ في ليبيا أيضًا، كان هو الفاعل والحاسم الرّئيس، إن لم يكن الأوحد، الذي لابدّ منه. وكأنّنا بالتدخّل الغربي ودعمه، كان خيارًا فرضته قراءته لفاعليّة العنصر الدّاخلي في حسم المعركة.

والملاحظ أنّ طبيعة الخلاف والصّراع والمعركة في داخل كلٍّ من اليمن وسوريا، قد تكون هي التي حدّدت اتّجاهات التدخّل الغربي؛ وذلك بغضّ النّظر عن طبيعة علاقة الغرب مع الأنظمة القائمة. ولا يذهب بنا التّحليل إلى أنّ الموقفين الرّوسي والصّيني كان لهما أثرٌ مباشر في تحديد التدخّل الغربي؛ إذ غالبًا ما كان الغرب يملك أدوات الضّغط عليهما ووسائله، بل كان قادرًا على تجاهل موقفيهما، مع كسب / أو عدم كسب بقيّة الدّعم الدولي بشكلٍ عامّ؛ وذلك باختلاق حجج سياسيّة وأمنيّة، مثلما كانت الحال تجاه العراق. وربّما وجدت الدول الغربية في موقفي كلٍّ من روسيا والصّين، مخرجًا من التورّط في دوّامة معركة لا تملك أدوات فاعلة لتحديد مسارها، فضلًا عن مصيرها؛ وذلك بسبب ما تتميّز به مجتمعات -مثل اليمن- من قدرةٍ على تحديد اتّجاهات معاركها الدّاخلية، وما تمتلكه أنظمةٌ -مثل سورية- من إدراكٍ لوضعها الجيوسياسي بتداخلاته وامتداداته الإقليميّة. وهو ما يجعل الذي يجري على أرضها جزءًا من معركة حياة أو موت لتوجّهاتٍ ستحكم المنطقة ومستقبلها.

وإذا ما وضعنا جانبًا، حضور عامل مصلحة الغرب الذّاتية، وفعاليّته سياسيًّا واقتصاديًّا في حركة التّغيير في العالم العربي؛ فما الذي يمكن اعتباره -ولو نظريًّا- هدفًا أو مبدأً مشتركًا للقوى الفكريّة والسياسيّة القائدة لحركة التّغيير والثورة مع توجّهات القوى الغربيّة؟ وما الذي يدعو تلك القوى -وخاصّةً الإسلاميّة منها- إلى الاستعانة بالتدخّل الغربي، وإن تلبّس سياسيًّا بالقرارات الدّولية؟

لا شكّ في أنّ الحجّة السّياسية لذلك القبول، هي استبدال ما هو ديكتاتوريّ وشموليّ بالحرّية والدّيمقراطية. ولكن لا يبدو الأمر سياسيًّا فحسب؛ بل هو ربّما تعبير عن تحوّلٍ في صياغة فكر تلك الجماعات الإسلاميّة وتوجّهاتها، وإعادة استكشاف ما هو مصلحة مشتركة وتقارب فكريّ بين تلك الجماعات والغرب، يتجاوز ما هو عقديّ. إذ صارت تلك الجماعات -خلال ربيعها العربي وعقبه- تعبّر عمّا هو قاسم مشترك بينها وبين العلمانية الغربيّة؛ وذلك على المستوى الفكريّ من خلال مصطلح "الدّولة المدنيّة"، وعلى المستوى السّياسي بقبولها خيار الدّيمقراطية كآليّة للتّنافس، وتحديد أنصبة المشاركة. وربّما ذهبت تلك الجماعات إلى حدود تبنّي نظام "التّمثيل النّسبي" في البرلمان، الذي يمنح كلّ القوى السياسية والفكرية نصيبًا.

لعلّ من الحقائق الجديدة التي أتاح لها الربيع العربي البروز ومن ثمّ التبلور؛ ذلك الدّور الذي صارت تضطلع به الأنظمة الملكيّة العربية في مسار الشّأن العامّ في المنطقة. وربّما كان العامل المساعد لهذه القوى، هو تفعيلها لقدراتها الماليّة، من خلال آليّات إعلاميّة وسياسيّة، بل لوجستيّة. فقد اختبرت قدراتها إعلاميًّا خلال الحراكين التّونسي والمصري، ثمّ أسّست عليه مواقف سياسيّة، كانت فاعلة -بل حاسمة- في تحديد مسار التوجّه الرّسمي العربي، والدّولي بدرجةٍ ما، حيال الحالتين السوريّة واللّيبية. ولقد كان إسهامها واضحًا وفاعلا لوجستيًّا في حراك الحالة اللّيبيّة. كما كان دور دول مجلس التّعاون الخليجي في التدخّل، وفي تحديد اتّجاه الأزمة اليمنيّة ومآلاتها واضحًا وحاسمًا. وقد اضطلعت بدور مهدّئ حيال الحراكين الأردنيّ والمغربي، من خلال دعوة كلٍّ من النّظامين الملكيّين للانضمام إلى مجلس التّعاون الخليجي، والبدء في ضخّ أموال مباشرة وغير مباشرة في اقتصاد الدّولتين. وبالطّبع، سارعت بردّ فعل عمليّ عسكري مضادّ تجاه الحراك الشّيعي في البحرين. ولا يمكن نفي حقيقة تنسيق المواقف مع القوى الغربيّة؛ ولكن ربّما تتّضح درجة الفاعليّة التي اكتسبتها تلك الدول إذا ما قارنّا الوضع الحالي بما وقع في حرب العراق.

لقد أبرز الرّبيع العربي فاعليّة قوّةٍ أخرى هي تركيا. إذ أنّها أدركت التأثير السياسي والاجتماعي للحراك العربي الشّرق أوسطي فيها؛ إضافةً إلى شعورها بواجب تحديد مسار الأحداث في المنطقة العربية، وربّما بحقّها التاريخي في ذلك. ولا شكّ في أنّ الوعي بذلك الدّور، قد ازداد وتبلور بعد أن صارت قوى سياسيّة ذات توجّه إسلامي، قائدة للشّأن الاجتماعي والسّياسي في تركيا. ومن المؤكّد أنّ دور تركيا كان فاعلًا، بحكم ما لها من رصيدٍ حضاري ممتدّ، وموقع جغرافي إستراتيجي، وقدرات اقتصاديّة كبيرة. وقد أدارته بأسلوبٍ ناجع، حتّى تسهم إسهامًا مباشرًا في الشّأن الإقليمي، وفي اتّجاهات الموقف الدولي حيال ذلك الشّأن.

ولعلّ توصيف الرّبيع العربي بإطلاق، وكأنّه موجةٌ من التّغيير ستعمّ العالم العربيّ على المستوى السياسيّ، ليس دقيقًا. إذ أنّ الحراك، وإن تشابهت شعاراته العامّة؛ فإنّ مآلاته قد اختلفت. فهو في دولٍ مثل الأردن والمغرب والجزائر، قد اكتفى باستجاباتٍ جزئيّة من جانب أنظمة الحكم القائمة. كما لم تكن له قيادة عضويّة فكريّة أو سياسيّة مركزيّة أو تنسيقيّة موحّدة، عابرة لبلاد المنطقة. وقد غلب على الظنّ، أن يكون ذلك متاحًا لجماعةٍ مثل الإخوان المسلمين وبقيّة الجماعات الإسلاميّة؛ ولكن ما حصل، هو أنّ تلك الجماعات لم تكن هي القائدة في تلك المستويات، مهما تعاظمت قوّتها في جانبٍ من جوانب دعم الحراك. وما حصلت عليه من كسبٍ في الانتخابات التي أعقبت ذلك الحراك، قد يكون مردّه أفضليّة نسبيّة في التّنظيم العملي، أكثر منه مكافأة لقيادتها الحراك الشّعبي.

إنّ المستقبل وحده، هو الكفيل بأن يكشف عمّا إذا كان الرّبيع العربي هو فقط فصلٌ من أشواط التّنافس بين قيادات جماعات فكريّة وسياسيّة، أنظمة الحكم هي ساحتها وأدوات عملها؛ أم أنّه بداية تحوّل اجتماعي شامل؟ وهل ستسمح القوى الغربيّة بأن تستكشف المجتمعات العربيّة والإسلامية بعضًا من سنن النّجاح النّسبي، أم ستسعى إلى خلق "فوضى خلّاقة"؟