العنوان هنا
دراسات 26 مارس ، 2013

الأبعاد الجيوستراتيجية للسياستين الإيرانية والتركية حيال سورية

علي حسين باكير

باحث في العلاقات الدولية ومهتم بالشؤون الاستراتيجية في منظمة البحوث الاستراتيجية الدولية (USAK). يعمل على إعداد الدكتوراه في العلاقات الدولية حول موضوع "القوّة". حاصل على تمهيدي دكتوراه بدرجة ممتاز وهو الأول على الدفعة، ماجستير في العلوم السياسية بدرجة "ممتاز" مع توصية بنشر الرسالة وتداولها، ودبلوم في العلاقات الدولية والدبلوماسية من جامعة بيروت العربية، وإجازة في العلوم السياسية والإدارية من الجامعة اللبنانية (الأول على الدفعة في مختلف الفروع). عمل باحثا ومحررًا في مجموعة الاقتصاد والأعمال (AIWA)، وهو باحث متعاون مع مركز الجزيرة للدراسات، وباحث مشارك في المجموعة الجيواستراتيجية للدراسات وله منشورات في عدد آخر من المراكز البحثيّة العربية المرموقة كمركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، ومركز الخليج للأبحاث، ومركز دراسات الشرق الأوسط، ومركز سبأ للدراسات الاستراتيجية، ومركز المسبار للدراسات والبحوث، والمركز العربي للدراسات الإنسانية. شارك في تأليف عددٍ من الكتب، كما صدرت له عدّة مؤلفات منذ العام 2007 حول تركيا، إيران، الخليج العربي، والصين. له أكثر من 400 مقال وتقرير وبحث ودراسة منشورة في عدد من المراكز البحثية المرموقة في العالم العربي، و في نحو 40 صحيفة (أبرزها الحياة والنهار) و (مجلة الملك خالد العسكرية، آراء حول الخليج، مدارات استراتيجية، آفاق المستقبل، دراسات شرق أوسطية ) ودورية محكمة (أبرزها فصلية الدفاع الوطني التابعة لوزارة الدفاع اللبنانية، وتقرير البيان الاستراتيجي السنوي، السياسة الدولية). تمّ ترجمة عدد من تقاريره إلى اللغات اليابانية والتركية والفارسية والإنجليزية والفرنسية والأردو ونشرها في بلدانها. كما استضافته عدة فضائيات كقناة anb الفضائية وقناة الجزيرة وقناة العالم وقناة المجد الفضائية وأوريانت والبي بي سي العربية والـ سي ا ن بي سي العربية، وشارك في عدد من الندوات وورش العمل والمؤتمرات. يمكن متابعة بعض منشوراته على : www.alibakeer.maktoobblog.com

مقدمة

على الرغم من أنّ الثورات العربية جاءت مفاجئة للجميع إقليميًا ودوليًا، فإنّ اندلاع الثورة السوريّة كان حدثًا فريدًا بحد ذاته؛ إذ شكّل صدمةً ومفاجأةً ليس لإيران وتركيا فحسب، بل للنظام السوري الذي يرأسه بشار الأسد أيضًا، على اعتبار أنّ الأخير واثق من أنّ نظامه كان محصّنًا من موجة الثورات التي تضرب العالم العربي، فقد أكّد - في مقابلة معه - على استثنائية الحالة السوريّة، مرجعًا ذلك إلى ""قرب النظام السوري من الشعب وارتباطه الوثيق بمعتقداتهم"، ومؤمنًا في الوقت نفسه، بأنّ "ورقة الممانعة" ستوفّر حصانة للنظام، وأنّ ذلك كفيلٌ بتأمين الغطاء اللاّزم له في الدّاخل السوري[1].

وما هي إلاّ فترة شهر ونيّف حتى اندلعت انتفاضة في سورية وضعت النظام في موقع حرج، وشكلت اختبارًا ليس له فحسب، وإنما أيضًا للتوازنات الجيوستراتيجية الإقليمية، وبخاصة بالنسبة إلى إيران وتركيا اللتين تعدان الأكثر قربًا من النظام السوري في ذلك الوقت، وكذلك للتوازنات الدولية بشأن الشرق الأوسط.

والملاحظ أنّه غالبًا ما يجري تفسير الموقفين الإيراني والتركي من سورية والأزمة السوريّة في إطار ضيق محدود يتعامل مع العناصر الآنية الظرفية المتغيّرة، وهو ما يحجب الرؤية الإستراتيجية ودوائر الاشتراك والتناقض لمواقف الدولتين من سورية. لكن لا يمكن بأي حال من الأحوال اختزال سياسات الدولتين إزاء سورية بالموقف الأخير من الحدث الآني المتمثّل بالثورة الشعبية، فهي جزء من سياسات أوسع تأخذ في الاعتبار المعطيات الجيوسياسية للدولتين، والمشتركات بين متطلبات سياساتهما، والمعطيات الداخلية الإيرانية والتركية وكذلك السوريّة.

لقد سمح الغزو الأميركي لأفغانستان في عام 2001، وبعدها للعراق في عام 2003، في بروز المشروع الإيراني في المنطقة العربية بشكل أقوى وأبرز. وقد أدت سورية ضمن هذا المشروع دورًا لا يمكن الاستهانة به. وهو دور ليس طارئًا عليها أو ضمن سياق تكتيكي ظرفي، بل هو امتداد للسياسة المتّبعة في هذا الخصوص منذ اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979 ثم الحرب العراقية - الإيرانية، مرورًا بالأحداث الرئيسة كافة حتى يومنا هذا.

وفي المقابل، أدى وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في تركيا نهاية عام 2002، إلى تحوّل شامل في سياسة تركيا الخارجية، وقد شمل هذا التحول - بطبيعة الحال - سياساتها إزاء المنطقة العربية. وكانت سورية في قلب هذا التحوّل؛ إذ ازداد حضورها وأهميتها وبخاصة بعد عام 2006، ما أعطى دفعة قوية للمشروع التركي على الصعيد الإقليمي.

لقد انخرطت الدولتان بشكل حثيث - نظريًا على الأقل - منذ عقد من الزمان في تنافس استقطابي لتوظيف سورية في المشروع الإقليمي لكل منهما. وعلى الرغم من أنّ اللاعبين الثلاثة قد نجحوا حتى عام 2010 بتغليب المشترك واحتواء المختلف بينهم، فإنّ مدى تضخّم التناقض الحاصل بينهم أيضًا لم يمنع توقع قرب الوصول إلى مفترق الطريق الحاسم.

وفي عام 2011، اندلعت الثورة السوريّة، وكان اندلاعها بمنزلة المفترق الحاسم لهذا المشترك الثلاثي، وأدّى إلى انكشاف التناقضات في الرؤى والسياسات من جهة، وترسيم الحدود الفاصلة بين المشروعين الإقليميين الإيراني والتركي من جهة أخرى. وأصبحت هناك سياستان للدولتين المعنيتين؛ واحدة داعمة للنظام السوري والثانية داعمة للثورة السوريّة. وفي الوقت نفسه، يركز الطرفان على مصير مشروعهما الإقليمي، وهو ما يسلط الضوء على الموقع الجيوستراتيجي لسورية ليس في إطارها المحدد جغرافيًا فحسب، وإنّما أيضًا في امتداداته العربية وبخاصة لناحية بلاد الشام أو العراق والخليج العربي.

وفي هذا الإطار، تأتي هذه الورقة لتبحث في خلفيات الموقفين الإيراني والتركي من الثورة السوريّة، والدوافع والأسباب المرتبطة بمشروعيهما في المنطقة العربية، وانعكاسات سياساتهما عليهما وعلى موقع سورية المفترض ودورها.

وتكمن أهمية الورقة في أنّها تتخطى الإطار الضيق والآني في تحليل الموقفين الإيراني والتركي من النظام السوري والثورة السوريّة إلى الإطار الإستراتيجي الواسع المرتبط بالخريطة الجيوستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط، وماهية المشروعين الإيراني والتركي فيها، والتصورات المرتبطة بموقع سورية ودورها Geo-Factor الجيوسياسي والجيو-اقتصادي والجيو-ثقافي في هذين المشروعين، بوصفها قلب العالم العربي من جهة، ومحور الهلال الخصيب من جهة أخرى.

كما تحاول الورقة أن تتجاوز الانطباعات السطحية والتصورات العاطفية والانفعالية الموجودة لدى شرائح عديدة في العالم العربي والمبنيّة على مواقف مسبّقة أو غير علمية حول دوافع الموقفين الإيراني والتركي ومنطلقاتهما من النظام السوري والأساس الذي يجري بناءً عليه رسم السياسات المرتبطة بالموقف من النظام السوري، وذلك عبر النفاذ إلى عمق التصورات الإيرانية والتركية وتقديمها للقارئ العربي بشكل متوازن كمًّا ونوعًا.

ومن المفيد الإشارة هنا إلى أنّه قد جرى اعتماد المنهج التكاملي في البحث، والذي يقوم على المزج بين عدد من المناهج العلمية المستخدمة في الورقة أبرزها المقارن والتحليلي الاستنباطي والاستشرافي في إطار تسلسلي منتظم للأحداث. وتحاول الورقة الإجابة عن عدد من الأسئلة المرتبطة بالحالة السوريّة: ما هو موقع سورية؟ ولماذا يجري التنافس بين تركيا وإيران عليها؟ وما هي النتائج التي قد تترتب على المواقف المتناقضة للبلدين فيما يتعلق بمستقبل سورية والنظام السوري، ومن ثم على خريطة المنطقة وعلى موقع سورية بوصفها عقدة نفوذ في منطقة الهلال الخصيب؟ ولماذا حصل انقسام إيراني - تركي عميق في تشخيص الحالة السوريّة؟ ولماذا قررت إيران دعم النظام السوري بشكل مطلق في مقابل اصطفاف تركيا على الجهة المقابلة؟ وما الدوافع الإستراتيجية المفسّرة لذلك؟

وعلى هذا الأساس، فقد تم تقسيم الورقة إلى خمسة محاور أساسية هي: جيوبوليتيك المشروع الإيراني وموقع سورية فيه، وجيوبوليتيك المشروع التركي وموقع سورية فيه، والتنافس الإيراني - التركي لاستقطاب سورية، وإدارة التوازنات الجيوبوليتيكية السورية - الإيرانية - التركية، والانعكاسات الجيوبوليتيكية المستقبلية للثورة السورية.

تعتبر إيران وتركيا من أهم الدول المجاورة للعالم العربي نظرًا للمعطيات الجغرافية والتاريخية والحضارية والثقافية والديموغرافية التي تتمتعان بها، إضافة إلى الهويتين الفارسية والتركية اللتين لهما حساباتهما الخاصة على الدوام بالنسبة إليهما، حتى وصِفت العلاقة بين الأتراك والإيرانيين بأنّها كالعلاقة بين "الماء والزيت" لا يمتزجان* أبدًا([2]).

ولا تقتصر أهمية البلدين ودورهما الجيوبوليتيكي في المنطقة على المرحلة الحالية، إذ طالما انخرطت الدولتان اللتان لهما طابع مذهبي مختلف، في صراع حينًا وتنافس أحيانًا يعيد البعض جذورهما إلى الدولتين الصفوية الشيعية والعثمانية السنيّة والذي ظل قائمًا حتى معركة جالديران الشهيرة التي انتصر فيها العثمانيون عام 1514([3])، واعتبرت المعركة تحولًا أعطى العثمانيين اليد العليا في المنطقة.*

وعلى الرغم من أنّ حدود البلدين لم تتغير تقريبًا بعد ترسيمها في معاهدة قصر شرين الشهيرة عام 1639، وهو ما يحبّذ الطرفان التعبير عنه اليوم بجملة "400 عام من السلام والاستقرار"([4])، فإنّ العلاقات بينهما شهدت حقيقة مدًا وجزرًا طبعه التوتر، وتميّزت العلاقات بالشك والريبة في إطار توازن جيوبوليتيكي دقيق، ولا سيما بعد تأسيس الدولتين الحديثتين الإيرانية والتركية اللتين قامتا بالتركيز على أبعاد الهوية القومية الفارسية والتركية لكلا البلدين، ومن بعدها التنافر الإسلامي العلماني إبان الثورة الإيرانية عام 1979، لتعود العلاقات وتشهد تحسنًا ملحوظًا مع استلام حزب العدالة والتنمية الحكم في عام 2002([5]).

لكن هذا التحسن جاء في إطار سياسة خارجية تركية جديدة لا تشمل إيران فقط، وإنّما المنطقة بأسرها وفق منظور "العمق الاستراتيجي" لتركيا وسياسة "تصفير النزاعات"*، في وقت كانت فيه إيران تستثمر جيوبوليتيكيًا في العالم العربي، وهو ما أعاد إلى الأذهان تاريخ التنافس الإيراني - التركي من جديد على رقعة الشطرنج الإقليمية، وقوامه هذه المرة المشروع الإقليمي لكلٍ منهما ودور سورية المحوري فيه.

في هذا الإطار، تحتل سورية بموقعها الجيوستراتيجي في منطقة الهلال الخصيب أهمية كبرى واستثنائية خاصة بالنسبة إلى المشروعين الإيراني والتركي؛ فعدد قليل من الدول يتمتع بأبواب جغرافية مفتوحة على أبعاد جيوسياسية متباعدة لكن متفاعلة، بالإضافة إلى أنها تعد عقدة مواصلات وتقاطع نفوذ في منطقة الهلال الخصيب شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا، فضلًا عن موقعها كجبهة متقدمة مع إسرائيل، وهو ما أعطاها أهمية كبرى. وقد سمح لها ذلك كله بأن تمارس دورًا مهمًا في منطقة الهلال الخصيب([6]).


[1]انظر:

"Interview With Syrian President Bashar al-Assad," The Wall Street Journal, 31/1/2011, at: http://online.wsj.com/article/SB10001424052748703833204576114712441122894.html

* لا يعني عدم الامتزاج صفة سلبية على الدوام، بل قد يعد صفة إيجابية أيضًا باحتفاظ كل من الطرفين بهويته مقابل نقيضه إن صح التعبير (جدلية الشيء ونقيضه). لكن المقصود هنا بالاستشهاد أنّه لا توجد عناصر متوافرة تسمح بالتكامل، وإنّما يبقى كل منهما منفصلًا في إطار من التنافس الثنائي.

[2] انظر:

Bülent Keneş, İran: Tehdit mi, Fırsatmı? (Iran: Threat or Opportunity?), (Istanbul: Timaş Yayınları, 2012), p. 88.

[3] انظر:

Arif Keskin, "Iran-Turkey Relations: Balance, Rivalry and Mutual Dependence," Avrasya Stratejik Araştırmalar Merkezi, 3/9/2008, at: http://www.gunaskam.com/eng/index.php?option=com_content&task=view&id=135&Itemid=44

** على الرغم من أنّ الطرفين خاضا معارك لاحقة خصوصًا في حقبة عباس الثاني ونادر شاه، فإنّ معركة جالديران بقيت الأكبر، أما المعارك اللاحقة كلها فكانت تتسم بالكر والفر دون تغيير حقيقي.

[4] انظر على سبيل المثال لا الحصر، محاضرة السفير الإيراني في تركيا، وتصريح وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو أثناء زيارته إيران:

http://www.usak.org.tr/EN/ryazdir.asp?id=64

http://www.presstv.ir/detail/219904.html

ولمزيد من التفاصيل انظر:

Robin B. Wright et al., The Iran Primer: Power, Politics, and U.S. Policy (Washington: United States Institute of Peace, 2010), at: Henri J. Barkey, Iran and Turkey:

http://iranprimer.usip.org/resource/iran-and-turkey

[5] لمزيد من التفاصيل بشأن جهد تحسين العلاقات منذ استلام حزب العدالة والتنمية عام 2002، انظر:

Daphne McCurdy, "Turkish - Iranian Relations: When Opposites Attracts," Turkish Policy Quarterly, vol. 7, no. 2 (February 2008), p. 87-106.

http://www.turkishpolicy.com/images/stories/2008-02-policy/dmc.pdf

*** سمحت هذه السياسة بعودة تركيا إلى الشرق الأوسط والمنطقة العربية من البوابة الكبرى، وهو الأمر الذي تحول إلى تنافس مع إيران في مراحل متقدمة.

[6] انظر:

Anoushiravan Ehteshami and Raymond A. Hinnebusch, Syria and Iran: Middle Powers in a Penetrated Regional System (London: Routledge, 1997), p. 58.