العنوان هنا
دراسات 27 فبراير ، 2020

ما قلّ ودلّ: مبدأ الشحّ والنزعة الميثودية في البحوث السياسية

سيد أحمد قوجيلي

أستاذ مساعد في برنامج الدراسات الأمنية النقدية بمعهد الدوحة للدراسات العليا. حاصل على الدكتوراه في العلاقات الدولية، ضمن تخصّص الدراسات الأمنية والاستراتيجية. تركّز أبحاثه على حقل الدراسات الأمنية النقدية، ونظرية العلاقات الدولية، ونظريات الدولة. صدر له ثلاثة كتب: "الصراع على تفسير الحرب والسلم: دراسات في منطق التحقيق العلمي في العلاقات الدولية" (2019)، و"الدراسات الأمنية النقدية: مقاربات جديدة لإعادة تعريف الأمن" (2014)، و"تطور الدراسات الأمنية ومعضلة التطبيق في العالم العربي" (2012). وقد نشر الكثير من مقالات في العديد من الدوريات الأكاديمية المحكّمة.


ملخص

ينصحنا المتخصصون في فلسفة العلوم الاجتماعية بمراعاة البساطة والاقتصاد في المتغيّرات في أثناء إعداد التصاميم البحثية، والغاية من ذلك هي تفادي التعقيد الذي ينجم عن كثرتها، والذي من شأنه أن يقلّل من وضوح أطروحة البحث واتّساقها المنطقي. إنّ الدعوة إلى استخدام القليل من المتغيّرات مستندة إلى القاعدة المنهجية المسمّاة "مبدأ الشحّ" التي تعني استخدام "أدنى عدد ممكن من المتغيّرات من أجل تفسير أقصى عدد ممكن من الظواهر". تحاول هذه الدراسة التعريف بهذا المبدأ، وتفحص أسباب غيابه عن البحوث السياسية، وتقوم بذلك من خلال الافتراض أنّ سبب انعدام الشحّ في البحوث السياسية، وميل الباحثين إلى الإكثار من المتغيّرات، هو النزعة "الميثودية" الطّاغية على حقل منهجية البحث، التي تبرز في شكل من أشكال الثقة المفرطة بالمناهج والمبالغة في استخدامها.

مقدمة

ذكر رايت ميلز(1916-1962)، في ملحق كتابه الخيال السوسيولوجي، أنّ التحكّم الجيّد في منهجية البحث يتطلّب أن يكون الباحث مفكّرًا واعيًا Conscious Thinker؛ أي أن يكون مدركًا الفروض التي ينطلق منها والنتائج المترتّبة عليها. وفي أحد التعليقات الشهيرة على هذه المقولة، جادل جيوفاني سارتوري (1924-2017) بأنّ مشكلة بعض العلوم الاجتماعية تكمن في الحالة المعاكسة تمامًا، عند الباحثين المفرطين في الوعي Overconscious Thinkers الذين يستندون إلى المعايير المنهجية الصارمة المُطبّقة في العلوم الطبيعية. وتظهر تلك المعايير في كثير من الأحيان في الممارسة البحثية في شكل المغالاة في استخدام المناهج، والثقة المفرطة بنجاعتها الاستدلالية، والإيمان الراسخ بقدرتها على الكشف والتحقّق. وحمّل سارتوري هذه الفئة من الباحثين (الذين "يرفضون دراسة الحرارة من دون محرار" على حدّ تعبيره) مسؤوليةً مباشرة عمّا سمّاه "الجهل المنهجي" Methodological Unawareness المستشري في البحوث الاجتماعية، وهو جهل ناجم في معظمه عن المغالاة في استخدام المناهج وتقنياتها على حساب دراسة المبادئ المنطقية التي توجّه الممارسة البحثية (وتنتقدها).

تتناول هذه الدراسة أحد مظاهر هذا الجهل المنهجي وأشدّها إزعاجًا على الإطلاق، ويتعلّق الأمر بظاهرة حشو أطروحة البحث (أو النظرية قيد البناء) بعدد كبير جدًّا من المتغيّرات. وتنطبق سمات الجهل المنهجي التي ذكرها سارتوري على هذا الإجراء في كونه إحدى النتائج الضرورية المترتّبة عن المغالاة في استخدام المناهج (أساليب جمع البيانات وتحليلها) على حساب بناء الأطروحة: طرح السؤال البحثي وصياغة الفروض وتحديد المتغيّرات.

يتقاسم المشتغلون في ميادين العلوم الاجتماعية في البلدان العربية ميلًا عامًّا نحو تصاميم البحث التي تحتوي على عدد كبير جدًّا من المتغيّرات. وينتج هذا الميل في أحيان كثيرة من اعتقاد الباحث أنّ الإكثار من المتغيّرات هو إجراء منهجي يجعل بحثه شاملًا كلّ تفصيلات الظاهرة محلّ الدراسة وحيثياتها. وعلى الرغم من أنّ هذا الاعتقاد لا يزال يحظى ببعض الأنصار، فإنّ نقّاده أثبتوا (استنادًا إلى الخبرة) أنّ تطبيق هذا الإجراء المنهجي عمليًّا في مسار البحث، يثير مشكلات جمّة، مثل الحشو وقلّة التحديد واستفحال الغموض وصعوبة التجريب وعدم قابلية التفنيد وقلّة الاتّساق المنطقي. ولتفادي الوقوع في هذه المشكلات، جرت العادة أن يُنصح الباحث بتبسيط أطروحته واختصارها قدر الإمكان، ويكون ذلك عبر غربلتها وتصفيتها من المتغيّرات غير الضرورية (أو الزائدة على الحاجة)، وتفادي ذكر التفصيلات التي لا داعي لها. وتسمّى هذه الممارسة في فلسفة العلوم مبدأ "الشحّ" Parsimony الذي يعني "استخدام عدد قليل من المتغيّرات لتفسير عدد كبير من الظواهر".

* هذه الدراسة منشورة في العدد 41 (تشرين الثاني/نوفمبر 2019) من دورية "سياسات عربية" (الصفحات 36-54)وهي مجلة محكّمة للعلوم السياسية والعلاقات الدولية والسياسات العامة، يصدرها المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات كل شهرين.

** تجدون في موقع دورية "سياسات عربية" جميع محتويات الأعداد مفتوحة ومتاحة للتنزيل.