العنوان هنا
دراسات 27 يناير ، 2020

التذويت والموضعة: الداخلي والخارجي في التحليل العلمي الاجتماعي

منير السعيداني

​أستاذ باحث في قسم علم الاجتماع - المعهد العالي للعلوم الإنسانية في جامعة تونس المنار. حاصل على شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع. عضو فاعل في العديد من الجمعيات والهيئات العلمية. تشمل اهتماماته البحثية الحركات الاجتماعية، والدراسات الثقافية، ووسائط التواصل الاجتماعي، وسوسيولوجيا الثقافة. له كتب ومقالات في مواضيع اهتمامه وترجمات من الفرنسية والإنكليزية.

ملخص

من بين الشعارات المركزية التي رُفعت خلال الحركة الاحتجاجية المطلبية التونسية في كانون الأول/ ديسمبر 2010 وتواصلت إلى ما بعد 14 كانون الثاني/ يناير 2011 شعار: "التشْغِيل اسْتِحْقَاق يا عِصَابَة السراق". سنسعى في هذه الدراسة إلى أن نبين، منهجيًا وتحليليًا، أنه يمكن البحث في هذا الشعار من مُنْطلقِ تفكير سوسيولوجي ذي نقطتَي انطلاق مزدوجتَي التركيب: "التذوِيت" من منظور داخلي و"المَوْضَعَة" من منظور خارجي. نقصد بـ "التذويت" إضفاء الصبغة الذاتية على تصور العالم وأشيائه وكيفيات تقديرها من منظور الفاعلين الاجتماعيين، ومن ثم فإن الداخلي هو ذاتية المنطلقات التي حركت الأفراد وخطاباتهم. ونقصد بـ "الموضعة" إكساب الذاتي شرعية الوجود الاجتماعي التاريخي من خلال التمكّن من إدراجه في سياق الحركات الاجتماعية، ومن ثم فإن الخارجي هو المنطق الاجتماعي لهذه "الموضعة"، بوصفه يتمتع بوجود خارجي يتضمن حركة أولئك الفاعلين الاجتماعيين.

مقدمة

ناقشنا في غير هذا المكان العلاقة الملتبسة بين العلوم الاجتماعية المُنتجة في الربوع العربية، خصوصًا علم الاجتماع، وقضايا التغير الاجتماعي. وقد كانت تلك المناقشات مبنية على ما هو براديغمي ونظري ومفهومي تحديدًا. ولكن ما نتطرق إليه هنا يتعلق بما يمكن استخلاصه من تلك المناقشات على مستوى منهجي. وتُبقي المناقشات المنهجية التي نخوضها هنا على المثال نفسه الذي عالجناه، بحيث يكون التركيز على الحركة الاجتماعية التي اندلعت في تونس خلال كانون الأول/ ديسمبر 2010 واستمرت إلى ما بعد 14 كانون الثاني/ يناير 2011، متحولة في الأثناء إلى انتفاضة فثورة، واضعة في القلب منها قضية العدالة الاجتماعية.

ما سيكون محل مناقشة هاهنا هو التحديات المنهجية التي يضعها تحليل تلك الحركة أمام كل باحث فيها من منظور العلوم الاجتماعية عامة، ومن منظور علم الاجتماع خاصة. فلقد أثارت تلك الحركة سؤال تأويلها؛ السؤال الذي توزع معالجوه بين القول بضرورة أخذ تصورات الفاعلين الاجتماعيين "المورطين" فيها في الاعتبار لدى تناولها بالدرس، وبين القول بضرورة النظر إليها في شمول معناها التاريخي بصرف النظر عن وعي/ لاوعي فاعليها بها. ومن الواضح أن هذه المجادلة تستعيد، في خطوطها العريضة على الأقل، تلك المناقشة القديمة المتجددة بين علماء الاجتماع والباحثين فيه حول زاوية النظر إلى الحدث/ الظاهرة/ الفعل، سواء بالتعويل على ما يراه فيه/ فيها فاعلوها أم - وعلى اعتبار هؤلاء مجرد فَعَلَة لما يجسد منطق اشتغال الاجتماعي ويتجاوز أفهامهم في آنٍ معًا - بالتعويل على ما لا يداخله "الحس المشترك" من العقلنة التفسيرية الخارجية للظواهر الاجتماعية. ومن بين أوجه تطور هذه المناقشة القديمة المتجددة منذ وضع كلاسيكيات علم الاجتماع وما جَاوَره/ دَاخَله من علوم الاجتماع في أوروبا الحديثة، تشعبها نحو ما يعرف عادة بأنه تقابل/ تكامل بين الداخلي والخارجي في تناول الاجتماعي.

منطلق ما نستخلصه من معالجاتنا السابقة لمثال الحركة الاجتماعية التونسية في اتجاه التركيز على المنهجي هو العمل على إيجاد طريقة معالجة تمكن من التأليف بين الذاتي - الموضوعي والداخلي - الخارجي في مقاربة الفعل الاجتماعي. وإذا ما راكبنا بين الزوجين، يكون المقصود بالذاتي - الداخلي هو المعنى الخاص الذي يسبغه الفاعل الاجتماعي على فِعله ومقصده منه، أما الموضوعي - الخارجي فهو المعنى التاريخي الاجتماعي الذي يكتسيه ذلك الفعل ذاته من منظور سيرورة/ سيرورات التغير الاجتماعي.

* هذه المراجعة منشورة في العدد 31 (شتاء 2020) من مجلة "عمران" (الصفحات 7-30)وهي مجلة فصلية محكمة متخصّصة في العلوم الاجتماعيّة، يصدرها المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات.

** تجدون في موقع دورية "عمران"  جميع محتويات الأعداد مفتوحة ومتاحة للتنزيل.