العنوان هنا
مقالات 08 ديسمبر ، 2011

الخريطة الحزبيّة المصريّة لانتخابات 2011

الكلمات المفتاحية

لاشكّ في أنّ انتخابات مجلس الشّعب في مصر لعام 2011 هي الحدث الأبرز منذ تنحِّي الرّئيس السّابق حسني مبارك عن السّلطة في 11 شباط/ فبراير الماضي؛ فالجميع كان يعرف أنّ لحظة الانتخابات هي اللّحظة الحاسمة التّالية للحظة التّنحّي، وأنّ سلوك جميع المشاركين فيها - النّاخبين، والأحزاب، والقوى السياسيّة، والمجلس العسكريّ - سيحدّد ملامح جمهوريّة مصر العربيّة لسنوات قادمة.

ويطرح التّنافس الانتخابيّ تساؤلات مهمّة عن القضايا الرّئيسة التي تختلف الأحزاب بشأنها، وهل هناك محاور يمكن على أساسها رسم خريطة سياسيّة للحياة الحزبيّة؟ وهل يمكن أن تعطي هذه الخريطة أيّ توقّعات بشأن صورة مصر في عام 2012 والأعوام اللاحقة؟

سأحاول في ما يلي الإجابة عن هذه التّساؤلات مرتكزًا على تحليل برامج 13 حزبًا من الأحزاب السّياسيّة الرّئيسة المتنافسة في هذه الانتخابات.


أوّلاً: الخريطة الحزبيّة من واقع تحليل لبرامج الأحزاب:

يتناول هذا الجزء نتائج جهد تحليلي لبرامج 13 حزبًا سياسيًّا رئيسًا تخوض انتخابات مجلس الشّعب الحاليّة في مصر[1]. وهذه الأحزاب هي: الحرية والعدالة، المصريون الأحرار، الوفد، النّور (السّلفي)، المصري الدّيمقراطي الاجتماعي، العدل، الوسط، النّاصري، التّحالف الشعبي الاشتراكي، البناء والتنمية (الممثّل للجماعة الإسلامية)، الجبهة الدّيمقراطية، الكرامة، والتجمّع. والاستنتاج الرّئيس الذي برز من التّحليل هو إمكانيّة تقسيم الخريطة الحزبيّة المصريّة لانتخابات 2011 إلى 4 كتل حزبيّة رئيسة، تتكوّن كلّ منها من 3 إلى 4 أحزاب في المتوسّط، يمكن تمثليها كما يلي:

الكتلة

الأحزاب المكوّنة لها

الأحزاب ذات المرجعية الدّينية

الحرية والعدالة - النّور - البناء والتنمية

الأحزاب المدنية اليمينية

المصريون الأحرار - الجبهة الدّيمقراطية - العدل

الأحزاب المدنية اليسارية

التجمع - النّاصري - الكرامة - التّحالف الشعبي

الأحزاب المدنية الوسطية

الوفد - الوسط - المصري الدّيمقراطي الاجتماعي

وفي مستوى أعلى من التّحليل يظهر التّباين بين هذه الأحزاب السياسيّة على محورين رئيسين:

أ. المحور الأوّل: محور يمينيّ/ يساريّ، ويتعلّق بالقضايا الاقتصاديّة وإعادة توزيع الموارد.

ب. المحور الثاني: محور دينيّ/ ليبراليّ، ويتعلّق بالقضايا الاجتماعيّة القِيَمِيّة.

يميّز المحور يمينيّ/ يساريّ بين الأحزاب تبعًا لرؤيتها لدور الدّولة في الاقتصاد، وكذلك فيما يتعلّق بتوفير الخدمات العامّة، كالرّعاية الصحيّة، والتّعليم، والمواصلات العامّة. ووفقا لما هو معلن في برامجها السياسيّة، فإنّ الأحزاب التي يمكن أن توصم باليمينيّة في مصر الآن هي: المصريّون الأحرار، والعدل، والجبهة الدّيمقراطية، والحريّة والعدالة. وتشترك هذه الأحزاب في دعوتها إلى حضور أوسع للقطاع الخاصّ في الاقتصاد، بأن يكون هو المُشَغِّل الأكبر، والمحرّك الأساسيّ للنّشاط الاقتصاديّ. وعلى الجانب الآخر - بمعني اليسار- هناك أحزاب: التجمّع، والنّاصري، والتّحالف الاشتراكيّ، والكرامة، والنّور السلفيّ. وهي أحزاب تطالب بوجه عامّ بأن تكون الدّولة الفاعل الرّئيس في الاقتصاد، وتقوم بمحاربة البطالة عن طريق زيادة المعيّنين في الجهاز الإداريّ للدّولة، واحتفاظ الدّولة بملكيّة الصّناعات الإستراتيجيّة، ووقف برنامج خصخصة الشّركات الحكوميّة بصورة فوريّة.

وفيما يتعلّق بتوفير الخدمات العامّة، تؤيّد الأحزاب اليمينيّة قيام القطاع الخاصّ بدور كبير في هذا المجال، بأن يُسمح له ببناء الطّرق، وتشغيل شبكات المياه والكهرباء، وإقامة المدارس والجامعات والمستشفيات الخاصّة، جنبا إلى جنب مع القطاع الحكوميّ. وترى هذه الأحزاب أنّ حصر توفير الخدمات العامّة في الدولة سيكون مُكَبِّلا، لأنه لا يحَسِّن مستوى الخدمة لضعف المنافسة، ولأنّ الدّولة لا تملك من الموارد ما يمكّنها من الاستجابة للطّلب المتزايد على هذه الخدمات. أمّا الأحزاب اليساريّة، فهي أميل إلى مساندة احتكار الدّولة لتقديم هذه الخدمات العامّة، حيث تعتبر أنّ تدخّل القطاع الخاصّ في هذه المجالات سيشجّع الممارسات الاحتكاريّة لرجال الأعمال، ويخلق نظامًا من طبقتين، يكون فيه المواطنون الأعلى دخلًا هم الأكثر استفادةً منه، لأنّهم هم من يستطيعون تحمّل كلفة الخدمات عالية الجودة التي تُقَدّم بأسعار السّوق.

ويتوسّط هذا المحور أحزاب: الوفد، والوسط، والمصريّ الدّيمقراطيّ الاجتماعيّ. وإذا كان هذا الموقف لا يعدّ مفاجأة بالنّسبة إلى حزبي الوسط والمصريّ الدّيمقراطيّ الاجتماعيّ، فإنّه من المستغرب إلى حدّ ما بالنّسبة إلى حزب الوفد، أخذا في الاعتبار تصنيفه التّقليديّ على أنّه حزب على يمين الوسط. ويرجع ذلك بالأساس إلى أنّ رؤية حزب الوفد في بعض القضايا لا تتوافق مع النّظرة اليمينيّة التقليديّة، فهو يوافق على وقف برنامج الخصخصة، ويوافق على تنظيم صارم من قِبَل الدّولة للاستثمار الأجنبيّ المباشر، ويوافق على إبعاد القطاع الخاصّ عن الاستثمار في مشروعات البنية التّحتيّة، كما أنّه مع وضع حدّ أقصى على أجور العاملين بالحكومة، إلا أنّه في الوقت نفسه يوافق على أن يكون القطاع الخاصّ هو المشغّل الأكبر والمحرّك الأكبر للنّشاط الاقتصاديّ. وهي رؤية تحمل تناقضًا داخليّا إلى حدّ ما، يجعل الحزب غير قابل للتّصنيف كحزب على يمين الوسط، في المعسكر الذي ينتمي إليه حزب "المصريّون الأحرار" مثلًا.

يُلاحَظ من تقسيم الأحزاب وفقا لصيغة يمين/ يسار أنّ الأحزاب ذات المرجعيّة الدّينيّة لا تتلاقى على نفس جهة المحور؛ ففي حين ينتمي حزب الحريّة والعدالة لمعسكر أحزاب ليبراليّة كالمصريّين الأحرار والعدل في ما يتعلّق بالميل نحو حريّة اقتصاديّة، يقترب حزب النّور السلفيّ من يسار الوسط، نتيجةً لحرصه على شكلٍ من أشكال المسؤوليّة الاجتماعيّة للدّولة في ما يتعلّق بالخدمات العامّة، وهو نموذج لا يلغي تماما أيّ دور للقطاع الخاصّ.

وليست الأحزاب على كلّ جانب من جانبي المحور عند نفس المسافة من وسطه، فحزب التّحالف الشّعبيّ الاشتراكيّ مثلا هو الحزب على أقصى اليسار من بين الأحزاب المصنّفة في اليسار (التجمّع، والنّاصريّ، والكرامة)، حيث يذهب إلى حدّ الدعوة إلى استرداد الأراضي التي كانت قد بيعت لمستثمري القطاع الخاصّ في الفترة الأخيرة من حكم الرّئيس السّابق، وحتّى الدّعوة إلى الانسحاب من اتّفاقيّات تحرير التّجارة الدوليّة التي يرى الحزب أنّ شروطها مجحفة. في المقابل، فإنّ حزب المصريّين الأحرار هو أكثر الأحزاب المصريّة يمينيّة، حيث أنّه - على سبيل المثال - الحزب الوحيد من بين الأحزاب على يمين الوسط، الذي يرى أن تظلّ ضريبة الدّخل الحاليّة كما هي، بنسبة 20% موحّدة بغضّ النّظر عن شريحة الدّخل، فيما تساند الأحزاب الأخرى فكرة أن تفرض ضريبة تصاعديّة بحسب شريحة الدّخل.

أمّا في ما يخصّ المحور الثاني لتقسيم الأحزاب السياسيّة المصريّة (المحور دينيّ/ ليبراليّ)، فهو يتعلّق بالقضايا القيميّة؛ كشكل الدّولة، والحريات العامّة؛ وهي تلك القضايا التي لا تتعلّق مباشرةً بإعادة توزيع الدّخل. وتحظى انتخابات مجلس الشّعب الحاليّة بأهمية خاصّة نظرًا لأنّ إحدى أبرز مهامّ البرلمان المقبل هي وضع دستور جديد للبلاد، الذي هو بحسب التّعريف وثيقة تتضمّن من القيم والمبادئ الاجتماعيّة أكثر ممّا تتضمّنه من القيم المادّية والاقتصاديّة. ووفقا لهذا المحور يتمّ التّمييز بين الأحزاب وفقًا لمواقفها من قضايا عديدة مثل دور المرأة في الحياة السياسيّة، وعلاقة الدّين بالدّولة، وما إذا كان على الدولة أن تضطلع بدور في الدّفاع عن بعض القيم المجتمعيّة أو أن تترك هذا الأمر لتفاعل الأفراد.

يُقَسِّم هذا المحور بصورة كبيرة ما بين الأحزاب ذات المرجعيّة الدّينيّة على جانب، والأحزاب المدنيّة اليساريّة واليمينيّة، على جانب آخر. وبصورة عامّة، لا ترحّب الأحزاب ذات المرجعيّة الدّينيّة بدور متزايد للمرأة في العمل السياسيّ، كما أنّها تعارض إطلاق الحرّيات المدنيّة - كالحقّ في التّظاهر والنّشر - بشكل مطلق، بل تؤيّد اضطلاع الدّولة بدورٍ ما في الدّفاع عن بعض القيم المجتمعيّة، وتعبّر هذه الأحزاب أيضًا عن رغبتها في أن يكون النّظام المصرفيّ المصريّ - بل والاقتصاد بصفة عامّة - ذا مرجعيّة إسلاميّة، ومنتهجًا مبادئ التّمويل الإسلاميّ. وعلى الجانب الآخر، تؤيّد القوى الليبراليّة الحريّات الفرديّة، ومنح حقوق سياسيّة متساوية للمرأة والرّجل، المسلمين والأقباط، في تولّي جميع المناصب السياسيّة، حتّى منصب رئيس الدّولة، وعدم وجود رقابة على النّشر والإنتاج الثقافيّ والفنّي.


ثانيا: الخريطة الحزبيّة على أرض الواقع:

بني التّحليل السّابق في مجمله على ما تسرده الأحزاب في برامجها السياسيّة، أمّا فيما يتعلّق بالممارسة العمليّة، أو بمعنى أدقّ بواقع النّقاشات التي أُثيرت في فترة الحملات الانتخابيّة، فيمكن القول إنّه تمّ اختزال محوري التّصنيف في محور واحد، هو المحور دينيّ/ ليبراليّ، حيث لم تجر أيّ نقاشات فيما يتعلّق بالسّياسات العامّة طوال فترة الحملة الانتخابيّة، بصورة يمكن معها الجزم بأنّ هذه السّياسات لم تكن من العوامل المؤثّرة في التّوجّه التّصويتيّ للنّاخب في لجان الاقتراع؛ فالانقسام الأكبر - وليس من قبيل المبالغة أن نقول الأوحد - الذي ظهر طوال الأسابيع القليلة السّابقة لبدء الاقتراع، على الأقلّ في مرحلته الأولى، هو الانقسام دينيّ/ ليبراليّ، بصورة تجعله تقريبًا المؤثّر الأكبر في سلوك النّاخبين التّصويتيّ في الانتخابات المصريّة الحاليّة.

يتمخّض عن ذلك أمرٌ غاية في الخطورة، هو سيادة حالة من الاستقطاب السّياسيّ العنيف بين مفردات الحياة الحزبيّة المصريّة في المرحلة الحاليّة، وتلك حالة تضع عقبات كبيرة أمام مسيرة مصر في ما بعد التحوّل؛ فالمجتمعات المتحضّرة لا تُبنى من خلال الانقسامات المتعلّقة بالهويّة، سواء الدّينية منها أو العرقيّة، حيث أنّ هذه الانقسامات بتعريفها غير قابلة للتّلاشي؛ وإنّما تُبنى المجتمعات من خلال تَبَنّي الأحزاب لرؤى مختلفة لكيفيّة علاج المشكلات الرّئيسة التي تواجه مواطنيها.

تلك المشكلات في السّياق المصريّ هي قضايا السّياسات العامّة، كالبطالة، والفقر، والصحّة، والتّعليم، والإسكان. ووفقًا لتحليل برامج الأحزاب الـ13، نلاحظ إمكانيّة وجود قواسم مشتركة ما بين عدد من الأحزاب ذات المرجعيّة الدّينيّة والأحزاب الليبراليّة فيما يتعلّق بالتّعامل مع قضايا السّياسات العامّة (بين "الحريّة والعدالة" و" المصريّون الأحرار" على سبيل المثال)، ويمكن لذلك أن يقلّل من حدّة الاستقطاب "دينيّ/ ليبراليّ" الذي بات متجذّرًا في السّياسة المصريّة في مرحلة ما بعد الثّورة، والخطورة تكمن في أن يطغى هذا التّقسيم ويختزل أيّ نقاش بشأن القضايا العامّة في ثنائيّة الدّينيّ-اللّيبراليّ، وتلك ثنائيّة لا تسمح بقدرٍ كبير بتبنّي حلول وسطى توافقيّة، وهي الحلول التي لا يمكن تصوّرُ مخرجٍ لكثير من مشكلات المصريّين من دونها.


ثالثا: الإشكاليّات التي تثيرها خريطة الحياة الحزبيّة:

تثير الخريطة السياسيّة للحياة الحزبيّة المصريّة قبل أوّل انتخابات لمجلس الشّعب المصريّ بعد ثورة 25 يناير، كما وضّحناها، عدّة ملاحظات بشأن إشكاليّات كلّ تيّار من التّيّارات الرّئيسة المكوّنة لها، ونعرضها بصورةٍ مختصرة في ما يلي:

بدءًا بالقوى الليبراليّة، فإنّ المأزق الرّئيس لهذه التّيارات هو سهولة استدراجها؛ في خضمّ محاولتها لإبراز اختلافها عن القوى ذات المرجعيّة الدّينيّة؛ إلى اتّخاذ مواقف تبدو للمواطن العاديّ أنها مواقف ضدّ الدّين نفسه، خاصّة بالنّسبة إلى المسلمين. وتلك إشكاليّة على هذه القوى أن تجد مخرجًا منها؛ فالمواطن المصريّ العاديّ - تاريخيًّا - ينظر إلى الدّين نظرة إيجابيّة، ولا يراه بالضّرورة قيدًا على حريّته يرغب في التخلّص منه، وعليه، فلن ينظر بعين الثّقة لقوى تظهر وكأنّها ضدّ هذه المكانة الخاصّة للدّين في حياة المصريّين، حتّى لو لم تكن كذلك في الواقع - وهو الأرجح - وإنّما وُضِعَت في هذه الخانة بفعل ديناميّات الحياة الحزبيّة.

قد يكون أحد المخارج من هذا المأزق بالنّسبة إلى هذه التّيّارات، هو ضرورة إعادة ترتيب أولويّات القضايا التي يعتبرها المواطن الأهمّ في تحديد توجّهه الانتخابيّ، فالأحزاب السياسيّة في الدّيمقراطيّات لا تفوز بثقة المواطنين عن طريق المواقف التي تتّخذها بشأن كافّة القضايا، وإنّما لأنّها تنجح في جعل تلك القضايا التي تتّخذ فيها مواقفَ أكثر قربًا من توجّهات غالبيّة المواطنين هي القضايا الرّئيسة المؤثّرة في السّلوك التّصويتيّ issue saliency.

تعاني التّيارات الليبراليّة أيضًا من إشكاليّةٍ تنظيميّة، فمن الواضح أنّ هذه الأحزاب لم تتمكّن - حتّى الآن على الأقلّ - من مضاهاة البنية التنظيميّة المتشعّبة والقويّة للأحزاب ذات المرجعيّة الدّينيّة؛ فالأحزاب السياسيّة ليست برامج، وقيادة، ومؤيّدين فحسب، وإنّما لابدّ من تنظيمٍ يربط القيادة بالمؤيّدين، في إطار اتّفاق حول برنامج عمل وسياسات مقترحة. تلك نقيصة كبيرة فيما للأحزاب الليبراليّة المصريّة، فهي لاتزال وليدًا جديدًا في الحياة الحزبيّة المصريّة، لا تملك كيانات مؤسّسيّة ذات وجود مجتمعيّ على مستوى الشّارع، يؤهّلها لتعبئة مؤيّديها بصورة فاعلة، كما هي الحال بالنّسبة إلى التيّارات الدّينيّة، التي تستند إلى جمعيّات وكيانات محلّية تقدّم خدمات مجتمعيّة، خاصّة في الرّيف، والمناطق الأقلّ دخلا من الحضر المصريّ.

وبالانتقال إلى الأحزاب ذات المرجعيّة الدّينيّة، نجد أنّ أبرز إشكاليّاتها هي كيفيّة تعبئة النّاخبين خارج ثنائيّة الدّينيّ-اللّيبراليّ. فإلى حدٍّ كبير، من الممكن القول إنّ الدّافع الدّينيّ هو أحد المحرّكات الكبرى لتأييد هذه التّيارات - في المرحلة الأولى من الانتخابات على الأقلّ - ولذلك، يكمن التّحدّي الرّئيس لهذه التّيّارات في مدى قدرتها على الاستمرار في الحصول على نسب التّصويت نفسها متى خَفُتَ أو ضَعُفَ هذا الدّافع مستقبلا. وتلك إشكاليّة قريبة من تلك التي واجهت الأحزاب المسيحيّة الدّيمقراطيّة في أوروبا الغربيّة في العقدين الماضيين، عندما بدأ يخفت دور الدّين كمُوَجِّه للتّصويت، وبدأت هذه الأحزاب تعاني من فقدان تأييد فئة كبيرة من المصوّتين التّقليديّين لها، مثل فئة مرتادي الكنائس.

هناك إشكاليّة أخرى مرتبطة بالأحزاب ذات المرجعيّة الدينيّة، وهي إشكاليّة التّعامل مع مشكلات الحكم؛ فالوضع، بعد انتخابات مجلس الشّعب الحاليّة، ربّما يوفّر فرصة أولى لتيّارات الإسلام السّياسيّ لتولّي ولو جزء من مقاليد الحكم في مصر. وهو أمر يشكّل لها اختبارًا حقيقيًّا، فالحكم في دولة بحجم مصر، وبالنّظر إلى المشكلات غير القليلة التي يعاني منها المجتمع على المستويات الاقتصاديّة والسّياسيّة والاجتماعيّة، ليس اختبارًا يسيرًا.

لقد اعتاد الخطاب السّياسيّ لهذا التّيار في السّابق على انتقاد الأوضاع القائمة، وإلى حدٍّ ما اختزال حلّ الكثير منها في اتِّباع سياسات ذات مرجعيّة دينيّة، وقد آن الأوان لاختبار هذا الخطاب عمليًّا. وقد يرى البعض أنّ هذه فرصة لتتحوّل هذه التّيارات إلى التعقّل في خطابها السّياسيّ، وأنّها ستدرك أنّ الحلول لكثير من المشكلات لا يمكن أن تُختزل في صراعٍ ما بين الخير والشّرّ.

ختامًا، وبالانتقال إلى إشكاليّة التّيارات اليساريّة، نجد أنّ أبرزها هي فقدانها السّيطرة على قاعدتها العريضة المتمثّلة في النّقابات العمّاليّة. فانتشار اليسار المصريّ محدود جدًّا في الأوساط التي من المفترض أن تقدّم التّأييد التّقليديّ للأحزاب اليساريّة، وهي النّقابات العمّاليّة، فضلًا عن أنّه يعاني من قصورٍ تنظيميّ كبير، وقياداته تعاني من مشكلات الانقسامات الداخليّة العنيفة، أو الشّيخوخة، ويعاني أيضا من عجز عن إعادة تعريفٍ لبرنامجه الاقتصاديّ الحقيقيّ، بصورة تواكب التّغيّرات الكبيرة التي شهدها المجتمع المصريّ في العقدين الأخيرين، والتي نتج عنها أنّ القطاع الخاصّ بات هو المشغّل لنحو 70% من الأيدي العاملة.


 

[1] أنجز هذا التحليل بمشاركة الباحث في إطار الإعداد لمشروع بوصلة الناخب المصري، وهي أداة على شبكة الإنترنت، تهدف إلى تعريف الناخب العاديّ ببرامج الأحزاب السياسية الرّئيسة في انتخابات مجلس الشعب الحالية. لمزيد من المعلومات، يرجى الاطّلاع على الموقع الإلكتروني: www.masr.bosala.org.