المؤلف: عبد الأحد السبتي.
الكتاب: من عام الفيل إلى عام الماريكان: الذاكرة الشفوية والتدوين التاريخي.
مكان النشر: إيطاليا.
الناشر: منشورات المتوسط.
سنة النشر: 2022.
عدد الصفحات: 548.
"إن الإنسانية في أثناء تقدمها لا تشبه أبدًا الفرد الذي يصعد سُلّمًا، حيث يضيف في كل حركة من حركاته خطوة جديدة لتلك التي حققها، بل تشبه لاعب النرد الذي يتوزّع حظه على مجموعة من المكعبات التي يراها - كلما قام برميها – مبعثرة على السجاد، ومؤدّية إلى حسابات مختلفة، فما يمكن أن نجنيه من ربح في مكعب، يمكن أن نخسره في مكعب آخر؛ فتراكم التاريخ لا يجري سوى من فترة إلى أخرى؛ أي إن الحسابات يُضاف بعضها إلى بعض لكي تشكل تركيبة ملائمة".
كلود ليفي شتراوس
أولًا: مع الكتاب
يضم هذا الكتاب أربعة فصول، فضلًا عن تقديم وتنبيهات تبيّن ظروف التـأليف والإنتاج. نقرأ في الفصل الأول زمن الثقافة السياسية، وفي الفصل الثاني نلتقي ذاكرة الكوارث الطبيعية، وفي الفصل الثالث نواجه ذاكرة المعارك العسكرية، وفي الفصل الرابع نجد ذاكرة حقبة الحماية. وفي بداية كل فصل من الكتاب نتسلّم مفاتيح للقراءة، يليه عمل تحليلي وتركيبي، وينتهي بلائحة نصوص مختارة تحمل عناوين دالة.
منذ سنوات وأنا أتابع ما يصدره عبد الأحد السبتي، وفي المعرض الدولي للكتاب الذي نُظّم أخيرًا في الرباط، لفت انتباهي كتاب من عام الفيل إلى عام الماريكان، فاقتنيته، وشرعت في قراءته، وأكثر من ذلك تابعت مختلف قراءات الأقران التي تفاعلت معه. وتبيّن لي أن قراءته ممكنة من زوايا متعددة، وبخلفيات معرفية وتكوينية مختلفة؛ فهو يغطي مرحلة زمنية طويلة، تمتد من الماضي البعيد حتى الزمن الراهن، ولم يحصر الكاتب نفسه ضمن الدائرة الضيقة التي كان المؤرخ التقليدي يتحرك فيها، فالبوصلة المعرفية والمنهجية التي يستنير بها الكاتب متعددة ومتنوعة؛ بوصلة تشمل فهمًا خاصًا للتاريخ لا ينضبط بالضرورة بمنطق التحقيب المعهود، وتستفيد من أدبيات باقي العلوم الإنسانية والاجتماعية الأخرى ومناهجه التي تتماس والتاريخ، بل توظفها وتستثمرها.
نحن أمام كاتب وباحث يتقن حرفته، ويشق مسالك قد تبدو غير سالكة، بل يفتح مسالك جديدة، وفي هذا الفتح يغتني من التراث الأدبي والشعبي كما يتجسد في الأغنية والرواية والمُثل المتراكمة. وفي هذا المسير يعرض الكاتب لمختلف المراحل التي مر بها التعامل مع الوثيقة الشفوية، وهي مراحل يجدها متفاوتة، تعاني أحيانًا ازدراء نخبة تحتقر الوثيقة وتقصيها، وتتسم أحيانًا أخرى، وفق وصف الكاتب، بــ "الــــشعبوية"، وفيها يجري إعلاء قيمة هذه الوثيقة التي تتكلم بلسان الفئات المغمورة، وفي حالة ثالثة يبيّن كيفية التعامل مع الثقافة الشفوية في علاقتها مع المجتمع والسلطة والمكتوب (ص 20-21). وفي هذا كله، لا يتغاضى عن النقاشات التي تناولت علاقة الشفوي بالمكتوب (ص 21). وينتهي إلى بعض الاستنتاجات من قبيل: إن الثقافة المغربية التقليدية ليست ثقافة شفوية بالكامل، بل هي مزيج من الشفوي والمكتوب، مع العلم أن الثقافة الشفوية تتجسد من خلال المعيش، بينما تتسم الثقافة المكتوبة بطابع معياري أساسه التمييز الضمني بين ما يُقال وما يُمارس وما يُكتب. وإذا كانت الممارسة الشفوية تهيمن على مستوى المجال الاجتماعي كما يؤكد الكاتب، فهي بذلك تعكس مجمل التفاعلات المتعددة بين الشفوي والمكتوب (ص 20-21).
واجهتني في قراءة هذا الكتاب مجموعة من الأسئلة، من قبيل: ما الذي يشغل بال الكاتب وهو يشيّد هذا الأثر؟ ونستعمل هنا كلمة تشييد، وكلمة يشغل، وقد نعوض الثانية بالتوتر والقلق، لأنني حدست هذا التوتر وهذا القلق في مجمل صفحات الكتاب، فمعظم الكتابات الجيدة ما هي إلا نتاج مخاض يعيشه الكاتب، ويلمسه القارئ بين ثنايا الكتاب. وقد لمسنا بالفعل هذا الأمر في أكثر من لحظة؛ فالكتاب ليس عرضًا وليس تجميعًا لنصوص وأحداث ووقائع تهمّ المجتمع والقبيلة والسلطة والتاريخ، كما يمكن البعض أن يعتقد، بقدر ما هو سعي للإجابة عن إشكال مرتبط بموضوعة دقيقة جدًا، هي موضوعة الزمن. أما عملية التشييد التي أشرت إليها، فالمقصود منها أن الموضوعة التي يشتغل عليها الكاتب، والتي تشغله، ليست أمرًا معطى وجاهزًا كما أسلفت، بل مشيّدة ومبنيّة، وهنا يحضرني النموذج المثالي عند ماكس فيبر.
فكيف نتمثل الزمن؟ وهل تشكّل لنا عبر مسيرتنا التاريخية تصوّر معيّن للزمن يوجهنا ونخضع لقوانينه؟ إن كان الأمر كذلك، فما هو هذا التصوّر؟ أم أننا لا نزال نخضع لتمثلات ونجترّ عبر سيرورتنا التاريخية تمثلات وصور تستمد قوتها وسلطتها أحيانًا من وقائع وأحداث طبيعية وسياسية معيشة، وسنجدها أحيانًا أخرى في تخييلات ثقافية ودينية؟ وما دام الأمر يتعلق بحرفة المؤرخ، فكيف تعامل المؤرخ خلال هذه السيرورة الممتدة مع موضوعة الزمن؟ وهل استطاع أن يتحرر فعلًا من هذه الحمولة؟ وهل لديه القدرة على التحرر وابتكار نماذج تحليلية ومفاهيم مجردة تجعله على مسافة مما يدرسه؟ لعل مجموع هذه الأسئلة التي فككتها هي ما يجمعه الكاتب في العبارة الآتية: "الأمر يتعلق في تجربتنا الجديدة بدراسة تعامل المجتمع والثقافة مع أسئلة الزمن" (ص 28).

يبدو أن الزمن هو بوصلة هذا الكتاب، وحين ينقّب الكاتب عن الزمن، لا ينقّب عنه في حقبة خاصة ومحدودة، بل ينقّب عنه في ديمومته؛ فيبدأ من التاريخ القديم، ويطل على الزمن الراهن، ينقّب في متون متعددة، رسمية وغير رسمية، كتابية وشفوية، فردية وجماعية. وعندما يفعل هذا كله، فهو يسعى لمحاصرة الزمن وعزله بالوصف والتدقيق والتفكيك، ويعيد تجميع ذلك وربطه بالإشكال العام الذي يوجهه، فهو بكلمة واحدة يحاصر الزمن، ويبدأ في مساءلته واستنطاقه في مختلف تجلياته، وخلال عمليات الاستنطاق هاته، يقرأ النصوص والمتون، يستمع إلى النصوص والمتون المختلفة، ويحسن الإنصات إليها، يستشهد بها. وفي استنطاقه يستحضر شهودًا ويستمع إليهم، ويسجل شذرات من شهاداتهم، وهنا يصير الزمن محلالًا Analyseur، يقرأ من خلاله الظواهر والأحداث في شموليتها الفردية والجماعية، ويصير البحث في الزمن مدخلًا لإعادة قراءة التاريخ، وبذلك يصير الكتاب تعبيرًا عن "مجمل تاريخ المغرب". أقول هذا لأن الكاتب رغم تتبعه خيوط الزمن، وسعيه لتحريرها مما علقت به من ظواهر وأحداث، فهو لا يقف عند ذلك، بل يحيط بالظاهرة والحدث في شموليتهما واصفًا ومقارنًا ومستنتجًا. وبذلك نكون أمام معظم نتائج الأبحاث الكثيرة التي راكمها الأستاذ عبد الأحد السبتي.
*هذه المراجعة منشورة في العدد العاشر من مجلة "أسطور" (تموز/ يوليو 2023)، وهي مجلة محكّمة للدراسات التاريخية المتخصصة، يصدرها المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات ومعهد الدوحة للدراسات العليا كل ستة أشهر.** تجدون في موقع دورية "أسطور" جميع محتويات الأعداد مفتوحة ومتاحة للتنزيل.