صورة تاريخية من فلسطين مع واجهة جامعة الخليل
مقالات 17 سبتمبر ، 2025

التعتيم على التاريخ الفلسطيني في فلسطين

مصطفى الميناوي

أستاذ التاريخ في جامعة كورنيل بالولايات المتحدة الأميركية. حصل على زمالات مرموقة عديدة في تركيا وهنغاريا وألمانيا والولايات المتحدة وقطر. تركّز أعماله على خصوصيات التاريخ العالمي من خلال دراسة الإمبريالية العثمانية والتنافس بين الإمبرياليات في وسط أفريقيا وشمال شرقها وجنوب غرب آسيا وجنوب شرق أوروبا.

صدر له: The Ottoman Scramble for Africa: Empire and Diplomacy from the Sahara to the Hijaz (مطبعة جامعة ستانفورد، 2016); Losing Istanbul: Arab-Ottoman Imperialists and the End of Empire (مطبعة جامعة ستانفورد، 2022)، الذي حاز جائزة ألبرت حوراني للكتاب، إضافةً إلى عدد من المقالات حول القانون الدولي، والإمبريالية في أواخر القرن التاسع عشر، والتاريخ الجزئي.

​​ قدّمتُ سلسلةً من الورشات، خلال صيف 2025، في جامعة الخليل، تناولتُ فيها استخدام السجلات العثمانية المحفوظة في الأرشيف في كتابة التاريخ الفلسطيني. وقد أثارت إقامتي في مدينة الخليل، في ظل إبادة جماعية مستمرة ضد الفلسطينيين، تساؤلات عديدة عن الدور الذي يمكن أن تؤديه دراسة التاريخ في فلسطين لفهم الاستعمار، والاقتلاع، وعنف الاحتلال. إنّ من أمضى وقتًا في الضفة الغربية يدرك تمامًا أنّ عنف الاحتلال والتطهير العرقي المستمر ليسا حدثَين استثنائيَين، بل تجربة يومية قاسية تعيشها كل نفس فلسطينية منذ لحظة ولادتها. ويتجلّى هذا العنف في مظاهر متعددة: سواء من خلال النشأة في بيتٍ فقد أحد أفراده قسرًا، أو ألم الضلوع المكسورة جراء رصاص مطاطي مستتر تحت زيّ مدرسي مكوي، أو في رائحة الغاز المسيل للدموع وأصوات القنابل الصوتية خلال اقتحام الجيش الإسرائيلي للمدارس، أو في عمليات هدم المنازل في الأحياء، أو في غياب القدرة على تقدير الوقت اللازم للوصول إلى المدرسة نتيجة الإغلاق التعسفي للطرق، أو في رواتب الموظفين العموميين التي لا تُدفع كاملة، تنفيذًا لقرارات الحكومة الإسرائيلية لإبقاء الأفق ضبابيًا ومنع التخطيط للحاضر والمستقبل، أو في حرمان الفلسطيني من الوصول إلى أرضه أو منزله، أو حتى إلى أفراد أسرته بسبب الحواجز والجدران والاحتلال، أو عنف المستوطنين غير الشرعيين الذين يقيمون أحيانًا على مسافة شارع واحد فقط.

يمكنكم، إذًا، أن تتخيلوا دهشتي عندما علمت أنّ هذا العنف الاستعماري المستمر تبيّضه كتب التاريخ أو تتجاهله، حتى داخل الضفة الغربية.

***

عندما وصلتُ أول مرة إلى جامعة الخليل، كنت آمل أن أتمكّن من قراءة بعض الوثائق العثمانية مع الحضور. غير أنّ الغالبية لم تكن تتقن اللغة التركية؛ ما جعل القراءة الجماعية لتلك الوثائق أمرًا صعبًا، وبدأت أشعر بأنني أفقد تواصل الحضور. في الجلسة الثانية، رجعت إلى أرشيفي الخاص الذي جمعته خلال سنوات، واستخرجت أمثلة من وثائق ربما تكون مهمّةً لطلبة الدراسات العليا والباحثين المحليين. من بينها وثائق كشفت عن محاولات ثيودور هرتزل رشوة السلطان العثماني الذي رفض تلك العروض.

وعندما أعلنت أنّ جلسة ما بعد الاستراحة ستتضمن قراءة لمراسلة جرت بين هرتزل والحكومة العثمانية، لاحظت على وجوه بعض الحاضرين نظرات فارغة. تبادر إلى ذهني أنني ربما أخطأت في نطق الاسم، لا سيما أنني كنت ألقي المحاضرة باللغة العربية مستخدمًا النطق الإنكليزي لاسم هرتزلHerzl ، فتوقفت وقررت أن ألفظه كما يُكتب بالعثمانية التركية، وكرّرت لفظ الاسم بقدرٍ من الدراما في صوتي: "هيرتشِل!"، إلا أنّ النظرات ذاتها استمرت. ما الذي كنت أغفله؟

أخيرًا، كسر أحد الحضور الصمت وسأل: "من هو هرتزل؟".

لم أكن مستعدًا لهذا السؤال. سؤال عن ثيودور هرتزل، مؤسس المشروع الصهيوني، والرجل الذي يُمكن القول إنّ دعمه للاستعمار الاستيطاني في فلسطين قلَبَ حياة الفلسطينيين رأسًا على عقب، وما زالت تبعاته العنيفة مستمرة حتى اليوم! كيف يمكن أن يكون اسم هرتزل غير معروف على نطاق واسع؟ نظرتُ إلى وجوه الحضور الأكبر سنًا في القاعة باحثًا عن إشارة تأكيد أو لمحة طمأنة. وخلال الاستراحة، أخبرني بعض أعضاء هيئة التدريس من الجيل الأقدم أنّ الأمر يعكس ببساطة حالة الجهل التاريخي التي تعانيها الأجيال الفلسطينية الشابة في الضفة الغربية هذه الأيام.

مع ذلك، لم يكن هذا التفسير مطمئنًا البتّة.

في وقت لاحق، وأثناء حوار مع زميلين - أحدهما مؤرخة متقاعدة شاركت في إعداد المنهاج التاريخي الرسمي للمدارس الثانوية في الضفة الغربية، والآخر باحث في التاريخ الحديث والأدب الفلسطيني – وجدت تفسيرًا لما حدث. فبعد اتفاق إعلان المبادئ بشأن ترتيبات الحكومة الذاتية الفلسطينية "أوسلو"، خضعت المناهج الرسمية المموّلة من الاتحاد الأوروبي في العلوم الاجتماعية والإنسانيات لرقابة صارمة، اشترطت تقليص التركيز على مسألة التطهير العرقي للفلسطينيين، وإنكار الصهيونية بوصفها أيديولوجيا استعمارية استيطانية، بل حتى تغييب تاريخ المقاومة ضد الاحتلال، وقد ترتّب على ذلك نتائج بعيدة المدى، كان أبرزها نشوء جيل لا يفهم تاريخ العنف الاستعماري الذي يُطلب منه اليوم أن يواجهه.

***

إنّ تقديم رواية انتقائية، وأحيانًا مُبيّضة، لتاريخ فلسطين وإسرائيل ليس حكرًا على الأراضي المحتلة، كما نعلم نحن الذين ندرّس تاريخ الشرق الأوسط الحديث في الجامعات الأميركية. إذ إننا طالما تعاملنا مع طلبة لا يعرفون عن هذا التاريخ سوى ما تناقلته عائلاتهم، أو ما تلقّوه في مدارس دينية، أو ما بثّته وسائل الإعلام الأميركية المنحازة.

لذلك، لم تكن دهشتي نابعة من جهل الشباب بتاريخ الصهيونية وتجلياتها الاستعمارية الاستيطانية. فهم سواء عرفوا اسم هرتزل أو لم يعرفوه، أكثر من يختبر آثارها ويعيش تبعاتها يوميًا. وفي الواقع، يصعب أن تُدرَّس مثل هذه التجارب المعيشة بفاعلية في المدارس والجامعات.

أثار دهشتي حقًا حجم الاستثمارات التي تبذلها الحكومات في إسرائيل والضفة الغربية، بدعم من مؤسسات غربية، لمحو هذا التاريخ، أو إعادة صياغته، أو حجبه عن الأجيال، على نحو يخلّف آثارًا بعيدة المدى، كتلك التي عاينتها بنفسي. وبهذه الطريقة، يُقدَّم الاستعمار والاحتلال في فلسطين كما لو كانا بلا تاريخ، وبلا بداية، ومن ثمّ بلا نهاية ممكنة، كأنهما حالة طبيعية، مفروضة خارج الزمان والمكان. فيغدو واقع الخضوع والاحتلال والتهديد الدائم للحياة والمعيشة أمرًا اعتياديًا. وتتحول أيديولوجيا سياسية مثل الصهيونية، ذات الجذور التاريخية المعروفة، إلى أسطورة محصَّنة لا تُمسّ. وحتى أشكال التخفيف البسيطة، من عبور حاجز عسكري إلى الإفراج عن والد اعتُقل واختفى قسرًا، تُقدَّم كأنّها أفعال إلهية، لا بوصفها جزءًا من منظومة ظلم تاريخي منظّم من صنع البشر، ما زالت فصولها تتكرر في فلسطين منذ قرن تقريبًا.

ويترافق هذا المسح التاريخي مع التدمير الموثّق للأرشيفات والمكتبات، ونهب المواقع الأثرية من غزة إلى الخليل على أيدي علماء آثار إسرائيليين وأميركيين وأوروبيين. وتُوظَّف السجلات التاريخية، سواء فوق الأرض أو تحتها، لخدمة سردية أحادية تشرّع نزع ملكية شعب أصيل وتقطع صلته العميقة بأرضه.

إنّ حجب الوثائق التاريخية والتحكّم في الموارد اللازمة للبحث والكتابة والتدريس وإتاحة المعرفة، يمثّلان جزءًا من حربٍ صامتة على الفلسطينيين وهويتهم الوطنية. وقد دفعتني إقامتي في الخليل إلى إيجاد الرابط بين هذه الخيوط. لماذا، على سبيل المثال، يمنع موقع الأرشيف الوطني الإسرائيلي الباحثين الفلسطينيين في الضفة الغربية من الوصول إليه؟ ولماذا تتعاون مشاريع بحثية كبرى، مموّلة من الاتحاد الأوروبي، مثل مشروع ألماني حول تاريخ "العثمانيين الفلسطينيين" في غزة والخليل، مع جامعات إسرائيلية، من دون أن تضمّ طالبًا فلسطينيًا واحدًا، سواء من الشتات أو من الداخل، ضمن فرقها البحثية؟ ولماذا تُصادَر الكتب المتعلقة بالتاريخ الفلسطيني في المعابر الإسرائيلية عند دخول الضفة الغربية؟ ولماذا يصمت العديد من الباحثين الغربيين، الذين يمتلكون الموارد لدراسة هذا التاريخ وتعليمه، عن هذه المحاولات المستمرة لمحو السردية الفلسطينية، لا سيما في ظل الإبادة الجارية في غزة؟

لكلّ من يهتم بالشعب الفلسطيني، ويرغب في دراسة تاريخه، ويدرك خطورة محوه: ماذا يمكن أن نفعل؟

على الباحثين، لا سيما من يدرسون قضايا غرب آسيا، أن:

  1. يدمجوا الباحثين والطلبة الفلسطينيين في مشاريعهم البحثية حول فلسطين؛ فالشعب الفلسطيني حيّ نابض وأبناؤه وبناته يمتلكون القدرة على المساهمة بفاعلية، إذا أتيحت لهم الفرص سواء في الغرب أو في البلاد العربية، مثل قطر أو لبنان.
  2. يطوّروا آليات لتعليم الطلبة الفلسطينيين منهجيات البحث التاريخي وعلم التأريخ.
  3. يبحثوا عن موارد مالية تمكّن الطلبة الفلسطينيين من تعلّم اللغة العثمانية التركية وغيرها من لغات الأرشيفات المتاحة.
  4. يفضحوا ممارسات حجب المصادر ومحو التاريخ، من خلال تسهيل البحث والتعليم التاريخي في فلسطين، على أيدي الفلسطينيين ومن أجلهم.

صحيح أننا لا نستطيع السيطرة على الحواجز التي تضعها الحكومة الإسرائيلية وحلفاؤها في بعض المؤسسات الغربية والعربية، لكنّ ذلك لا ينبغي أن يُثنينا. فقد علّمتني إقامتي القصيرة في الخليل أهمية الاستمرار في الجرأة على العيش الصارخ والمثابرة في المحاولة، حتى لو كانت النتائج محدودة والأثر مؤقتًا، لأنّ الحياة مستمرة في كلّ الأحوال، وما زال "على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة".