مقدمة
التطرّف واصفًا أيّ فكرة ورأي وسلوك وذوق ومزاج، إذا التزمنا معناه الحرفي بوصفه نعتًا وصيرورة، يفيد الذهاب بتلك الفكرة أو ذلك السلوك إلى الحد الأقصى، وما ينطوي عليه ذلك بالضرورة لناحية الارتباط بين السلوك والقيم من تأكيد بعدٍ واحد في الظواهر المركّبة على حساب غيره. وبهذا المعنى يمكن أن تكون الذات الفاعلة، سواء أكانت فردًا أم جماعة، متطرّفة في عنفها أو سلميتها، وفي تشدّدها أو تسامحها، بل ومن الممكن أن تكون متطرفة في اعتدالها، أو في وسطيتها. وبهذا الربط الأخير يتجلّى عقم استخدام هذا اللفظ حتى بوصفه مصطلحًا، فضلًا عن أن يكون مفهومًا مفيدًا في تحليل الظواهر الاجتماعية.
ولكن حبّذا لو كان التعامل مع المفردة بهذا الإلغاء ممكنًا، فلا يمرّ يوم في حياة الإنسان المعاصر دون أن تتعرّض عيناه أو أذناه للفظَي التطرّف والمتطرّفين، وذلك في وصف مواقف وآراء سياسية، أو في وصف أساليب ومناهج في العمل السياسي. وفي كلّ مرحلة ترتبط هذه المفردة بتداعيات وصور محددة ينشرها الإعلام تتضمن كمًا من الآراء المسبقة وأنصاف الحقائق والافتراضات بخصوص جماعات من البشر توصم بالتطرف.
وفي عصرنا غالبًا ما يُعدّ الفعل العنيف عملًا إرهابيًا إذا قام به من يوسَم بالتطرف. ولا يعدّ نوع الفعل نفسه (قتل المدنيين، وتدمير المنشآت بهدف الترويع) إرهابًا، إذا قام به من لا يُعدّ متطرّفًا أو منتميًا لجماعة متطرفة، حتى كاد هذا يصبح تعريف الإرهاب؛ فالإرهاب في هذا العصر هو الفعل العنيف الذي يقوم به من يُعدّ متطرفًا، حتى لو نفّذه ضد عسكريين، أو ضد قوة احتلال. والفعل العنيف نفسه لا يعدّ إرهابًا إذا قام به من لا يُعرَّف متطرِّفًا. يترتب على نسب التطرف إلى شخص أو إلى قوة سياسية أو إلى فكرة إذًا تبعاتٌ عديدة. لا سيّما أنّه يصعب وسم دول بالتطرف؛ فهي بحكم تعريفها ليست متطرفة. بل هي التي تطلق على الآخرين هذا اللقب.
بهذا المعنى، فإنّ الإرهاب هو فعل سياسي عنيف يقوم به شخص متطرّف أو جماعة متطرّفة. والمتطرف ليس دولة. إذًا لا يمكن أن تكون الدولة إرهابية.
ومثلما ارتبطت هذه الصفة باليمين في صيغة "اليمين المتطرف" في مرحلة ما بين الحربين وصعود النازية والفاشية والعديد من الحركات القومية، وبـ"اليسار المتطرف" في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، وبالحركات الوطنية التي عُدّت متطرفة في المستعمرات مقارنةً بالمتعاونين مع الاستعمار (المعتدلين)، فهي في عصرنا غالبًا ما تثير تداعيات تستحضر صور الإسلاميين الجهاديين على أنواعهم حتى حين لا يذكر الإسلام بصورة صريحة.
هل لكلمة التطرّف مضمونٌ يفيد في فهم عناصر الفكر وبنيته، والآراء التي يحملها من يطلق عليهم هذه الصفة والممارسات التي يمارسونها (جوهرها، وطبيعتها)؟ أم هو تصنيف نسبي؟ فيقاس التطرف نسبةً إلى الاعتدال أو الوسط، أو "التيار الرئيس" في مكان وزمان محددَين، فيحدد التصنيف هذا موقع الظاهرة خارج الإجماع والاتفاق والمقبول اجتماعيًا وسياسيًا، أو على أقصى أطرافه. هل من عناصر مشتركة بين "المتطرّفين" عمومًا، تجعل الصفة هذه مفهومًا يفيد في تصنيف أفكار جماعات وحركات سياسية (أهدافها وأساليبها)؟ أم هو لفظ أو حتى مصطلح مضطرب في علاقته مع مفهومه؟ أم تعبير عن موقف سلبي يصطلح عليه بين أصحاب موقف محدد ويقصي جماعات أخرى خارج المقبول؟
لقد فقدَ هذا التصنيف بموجب الأهداف والغايات شرعيتَه خلال منعطفات تاريخية عدة، عُدّ فيها النضال ضد التمييز العنصري (حركة الحقوق المدنية في أميركا، والمؤتمر الوطني الأفريقي في جنوب أفريقيا)، أو ضد الاحتلال (منظمة التحرير الفلسطينية، وحركات التحرر الأفريقية، والفيتكونغ)، أو ضد الدكتاتورية والظلم عمومًا (الساندنيستا)، تطرّفًا.
وبموجب أساليب العمل السياسي العنيفة (لا سيما باستهداف المدنيين)، خسر التصنيف جزءًا من معناه كلّما تعرّض المدنيون للاستهداف بالقصف الجوي وغيره من جانب دول تعتمد نظامًا ديمقراطيًا ليبراليًا. ومن ناحية أخرى أصبح التطرّف بشكلٍ ما، متعلقًا بحكم تعريفه بجماعة وليس بدولة، وطبيعة صراع هذه الجماعة (تنظيم، حركة، حزب) مع النظام القائم. وبموجب هذين المعيارين تعدّ الوسائل المستخدمة في الوصول إليه إرهابية، حتى لو كانت الوسائل التي تستخدمها الدول لتحقيق أهدافها أكثر عنفًا غالبًا؛ ولو كانت أهداف هذه الدول تعدّ متطرفة إذا تبنّتها جماعة خارج نطاق الدولة.
ليس كلّ من يستخدم وسائل متطرفة مثل قتل المدنيين وترويع الآمنين في عصرنا متطرّفًا أو إرهابيًا؛ فالدولة لم تُعدّ متطرفة أو إرهابية حين قامت بذلك في فيتنام والعراق وغزة ولبنان جزءًا من خطةٍ للترويع، أو ردّة فعل على عمليات قامت بها حركات مقاومة أو حركات إرهابية، بحسب زاوية النظر.
في كتابه مدينة الله، استخدم سانت أوغسطين مثال حوار الإسكندر الأكبر والقرصان، لإجراء مقارنة بين من يحتلّ البلدان وينهبها ويُسمّى إمبراطورًا لأنّه يفعل ذلك بأسطول كبير، والذي يغِير على سفنٍ أخرى مستخدمًا سفينة صغيرة، ويسمّى قرصانًا. استخدم أوغسطين هذه الحكاية في الفصل الرابع من الكتاب الرابع من مؤلفه الكبير مدينة الله، وعنوانه "الممالك من دون عدالة تشبه عصابات اللصوص". وهو يؤكّد التشابه بينهما بالاتجاهين، إذا صحّ التعبير؛ فالممالك المنزوعة منها العدالة أشبه بعصابات اللصوص. والأخيرة بحدّ ذاتها تشبه ممالك صغيرة؛ إذ يجمعها "عهد" أو عقد واتفاق، ويحكمها حاكم، ويجري فيها توزيع الغنائم بناءً على قواعد ما. وكي تصبح الكيانات ممالكَ لا تتخلص بالضرورة من الجشع الذي يجمعها بالعصابات، بل تُستثنى من الحكم الأخلاقي وتُمنَح حصانة، وهذا ما يجعلها ممالك. وبعد أن يؤسس لهذا التشبيه يذكر حكاية القرصان والإسكندر: "عندما سأله الملك ماذا يقصد بالسطو على البحر، أجابه القرصان متحديًا: أنا أفعل ما تفعله أنت حين تسطو على العالم كلّه، ولكن لأنّي أقوم بذلك مستخدمًا سفينة صغيرة أسمّى لصًا، وأنت إمبراطور لأنّك تفعل ذلك بأسطول كبير".
فالدولة القادرة على القصف من الجوّ هي التي تصنّف الآخر إرهابيًا ومتطرفًا. يخرج إذًا من هذا الحقل الدلالي للتطرّف (وصنيعته الإرهاب) الجيوش التي تقوم بتدميرٍ واسع النطاق وأعمال قتل جماعي ضد المدنيين بحجّة أنّها لا تستهدف المدنيين بل الخصم الذي يسكن بين المدنيين (وعليه يتّخذ منهم دروعًا بشرية)، في حين أنّ الإرهابيين المتطرفين يستهدفون المدنيين. والحقيقة أنّ الدول التي ترتكب القصف غالبًا ما تعلم بوجود أولئك المدنيين الذين "لا تستهدفهم"، ما يجعل قتلهم حتميًا وليس ممكنًا فحسب. وهذا بالضرورة يقلّل من جدية حجة عدم الاستهداف هذه؛ والأبلغ من هذا أنّه ثبت أنّ القصف العشوائي غالبًا ما يكون "هادفًا"؛ إذ يقصد أيضًا الرد على عمليات استهداف للمدنيين قامت بها جماعة ما، باستهداف المدنيين لغرض معاقبة ما بات يسمّى "الحاضنة الاجتماعية" لهذه الجماعة، لكي تدفع ثمن احتضانها لها، أو لغرض الترويع بحدّ ذاته (الإرهاب حرفيًا). والترويع هو فعل مقصود. والمدنيون مستهدفون بهذا المعنى.
تَستخدم دولٌ وقوى وسائلَ متطرفةً في تحقيق أهدافها السياسية، ومع ذلك لا تنطبق عليها فكرة التطرف. وفي المقابل ثمّة قوى سياسية وأفراد يحملون فكرًا يُعدّ متطرفًا، ولكنّهم لا يستخدمون وسائلَ عنيفة في عملهم السياسي. وما دام يُذكر الإسلاميون في معرض الحديث عن التطرف، فالمثال على الحالة الأخيرة هو وجود العديد من الحركات السلفية التي تحمل ما يُعدّ فكرًا متطرفًا على مستوى الفكر المحض، لكن أساليبها سلمية، مثلما يوجد شيوعيون لا يستخدمون وسائل تُعدّ متطرفة.
هل يمكن تجاوز هذه النسبية في التعامل مع التطرّف بحسب المكان والمرحلة التاريخية من منظور ذلك الذي يقوم بالتصنيف ومصلحته؟
لا ندري إذا كانت محاولة الإجابة عن هذا السؤال سوف تكون مفيدة؛ فربما تكفي معالجة مضمون الفكر السياسي الذي يشمل الأهداف المسمّاة "متطرّفة" والأساليب التي تعدّ أيضًا كذلك في كلّ حالة على حدة، وذلك دون حاجة إلى مثل هذا الوصف. فيكفي أن يتّخذ الناس مواقفَ من قيم أيّ حركة أو أفكارها، أو أن يقيّموا مدى واقعية أهدافها ومقبولية أساليبها في كلّ مرحلة، دون الحاجة إلى هذا التصنيف الجارف، ومن دون هذا التمييز بين معتدلين ومتطرفين، والذي تحوّل بحدّ ذاته إلى أداة أيديولوجية في الصراع. وفي علاقات القوة السائدة قد يندرج هذا التصنيف ضمن تبرير سياسات قمعية والتمهيد لها. وربّما نطرح خلال هذه العملية فكرة ذات معنى، أو قد نستفيد على الأقل من التحليل في الطريق إلى مقاربة الجواب عنها، دون أن نصل إلى إجابة بالضرورة.
وبرأينا، لا يوجد معيار علمي موضوعي للتطرّف. ولكن قد تصبح هذه المقولة ذات قيمة إذا ما جرى التعامل معها من منطلق أخلاقي؛ بمعنى أنّ الأحكام السياسية تقع في إطار العقل العملي وتتضمن بعدًا أخلاقيًا، هو الوحيد غير النسبي فيها؛ فالمعايير الأخلاقية الكونية، إذا وُجدت، يمكن أن تمنح الاعتدال والتطرف مضمونًا ما، بغضّ النظر عمّن يقوم بهما، لا سيّما أنّه يكمن خلف كلّ دلالات التطرف القائمة برأينا نفور من ممارسات الآخر وأفكاره. ولكن قلّما ينطبق هذا النفور على أفكار "نحن" وممارساتهم. والموقف الأخلاقي فقط يمكن أن يُخضع "نحن" للمعيار ذاته. إنّ الموقف الأخلاقي المتجاوز، أي المتعالي على الظرف والمصلحة، هو الذي يمكنه أن يسم بالتطرف أفكارًا قائمة في الطرف الذي ينتمي إليه صاحبه، وكذلك ممارسات يقوم بها الطرف نفسه، سواء أكان فردًا أم جماعة. ولهذا سنحاول في نهاية العرض أن نقدّم اقتراحًا بديلًا لتعريف التطرّف يحرّره إلى حدٍ ما من هذه النسبية، ويُكسبه قيمة معرفية ما.
*هذه الدراسة منشورة في العدد 14 من مجلة "سياسات عربية" (أيار / مايو 2015، الصفحات 5- 18)، وهي مجلة محكّمة للعلوم السياسية والعلاقات الدولية والسياسات العامة، يصدرها المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات كل شهرين.
** تجدون في موقع دورية "سياسات عربية" جميع محتويات الأعداد مفتوحة ومتاحة للتنزيل.