العنوان هنا
مراجعات 10 يناير ، 2012

مراجعة كتاب "معجزة جمع الشتات"

الكلمات المفتاحية

مهند مصطفى

مدير عام "مدى الكرمل" (المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية). حاصل على درجة الدكتوراه من مدرسة العلوم السياسية في جامعة حيفا. عمل باحثًا زائرًا في مركز الدراسات الإسلامية في جامعة كامبريدج، والمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة، ومحاضرًا مشاركًا في الكلية الأكاديمية بيت بيرل، ورئيسًا لقسم التاريخ في المعهد الأكاديمي العربي للتربية في الكلية نفسها.



العنوان: معجزة جمع الشّتات: قوّة اليهوديّة الإسرائيليّة

المؤلّف: الرّاب يوئيل بن نون

الناشر: دار نشر "يديعوت سفريم" -إسرائيل

السنة: 2011

عدد الصفحات: 343


يتعامل التّيّار الأكاديميّ الإسرائيليّ المركزيّ - وكذلك الهستوريوغرافيا الإسرائيليّة - مع الحركة الصّهيونيّة على أنّها حركةٌ علمانيّةٌ، قادها يهودٌ علمانيّون بغرض حلّ المسألة اليهوديّة في أوروبّا والّتي ظهرت في القرن التّاسع عشر بعد ظهور الحركة اللاساميّة، بنفي  وجود اليهود في "الشّتات" وتهجيرهم إلى فلسطين، وإقامة دولة يهوديّة فيها. ومع اشتداد قوّة التّيار الدّينيّ اليهوديّ في إسرائيل في الآونة الأخيرة، يحاول قادةُ ومنظّرو هذا التّيار إعادة كتابة تاريخ الصّهيونيّة من المنظور الدّينيّ، كما يتجلّى ذلك بوضوحٍ في كتاب "معجزة جمع الشّتات: قوّة اليهوديّة الإسرائيليّة". وهذا الكتابُ ليس كتابا أكاديميًّا، بل كتاب أيديولوجيّ يجري فيه دمجٌ بين الخطاب الثّيولوجيّ المسيائيّ (المسيحاني) Messianic اليهوديّ وبين الواقع السّياسيّ التّاريخي، وهو ليس مكتوبًا بلغةٍ عبريّةٍ معاصرةٍ، بل بلغةٍ توراتيّةٍ وتراثيّةٍ، تنتمي إلى القرن التّاسع عشر أكثرَ منها إلى القرن العشرين.

 وقراءةُ هذا الكتاب -على غير العادة مع الكتب الأكاديميّة- لا تتمّ من دون قراءة سيرة مؤلِّفه. فقراءةُ هذه السيرة تعيننا على فهم هذا الكتاب الّذي لا ينظر إلى "جمع الشّتات"، أي تهجير اليهود من أوطانهم الأصليّة وتوطينهم في فلسطين، كفعلٍ بشريٍّ فحسب، بل يعتبرُهُ فعلًا ربّانِيًّا واستمرارًا لتاريخٍ طويلٍ من عمليّة "جمع شتات" اليهود، كانت قد بدأت منذ خروج اليهود من مصر في العصر الغابر، وفق الرّواية التّوراتيّة. ويُعتبر هذا الكتاب امتدادًا لتنظيرات التّيّار الصّهيونيّ الدّينيّ في إسرائيل. ويحاول مؤلّفُهُ إعادةَ كتابة التّاريخ الصّهيونيّ من المنظور الدّينيّ اليهوديّ بغرض خدمة وتعزيز نفوذ التّيّار الصّهيونيّ. ففي هذه المرحلة من تاريخ المشروع الصّهيونيّ، تعد الصّهيونيّة الدّينيّة الخطاب النّظريّ المتّقد الذي يسعى للهيمنة على المجتمع الإسرائيليّ، ويحقّق سنة بعد أخرى إنجازًا في هذا المضمار. وعلى الرّغم من أنّ هذا التّيّار لا يشكّل أغلبيّةً سياسيّةً انتخابيّةً في النّظام السّياسيّ الإسرائيليّ، إلّا أنّ أتباع هذا التّيّار يزدادُ نفوذهم في إسرائيل وفي مؤسّسات الدّولة المختلفة وخاصّة في الجيش، حيث بات عددهم يقارب نصف جنود الوحدات القتاليّة في الجيش الإسرائيليّ، وأصبحت الطاقيّة المطرزة الزرقاء التي يلبسها أتباع هذا التّيّار مشهدًا عاديًّا في الدّرجات العسكريّة المُختلِفة.


مؤلف الكتاب

مُؤلِّفُ الكتاب هو يوآل بن نون، أحدُ أبرز رموز التّيّار الدّينيّ الصّهيونيّ. وُلد في حيفا في عام 1946، ودرس في المدرسة الدّينيّة "مركاز هراب" في القدس، الّتي تُعتبر معقلَ الفكر الدّينيّ الصّهيونيّ، والتي كان قد أسّسها الأب الرّوحيّ للصّهيونيّة الدّينيّة الرّاب كوك الأب. أصبح بن نون الرّاب الرّئيس والمدرّس في المدرسة الدّينيّة في "كفار عتصيون" في الضّفّة الفلسطينيّة المحتلّة، بعد احتلالها عام 1967. وكان من مؤسّسي حركة "غوش إيمونيم" الاستيطانيّة، وكان بيته قد احتضن الاجتماع التّأسيسيّ لهذه الحركة، الّتي شكّلت التّنظيم اليمينيّ الاستيطانيّ الأوّل الّذي دمج بين الفكر الثيولوجيّ الدّينيّ المسيائي وبين الاستيطان في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة.

"أنا صهيونيٌّ أؤمن بتوجُّهي، يهوديٌّ إسرائيليٌّ في هُوِيَّتِي، أنا أؤمن أنّ الصّهيونيّة لا تسمح بأيّ شكلٍ من أشكال الفصل بين يهوديّتي وإسرائيليّتي، وهي التفسير الكامل والصحيح لتوراة موسى وأقوال حكمائنا، وهي تجسيدٌ لأشواق الآباء" (ص. 11). بهذه الكلمات يفتتح الرّاب بن نون كتابَه "معجزةُ جمعِ الشّتات: قوّة اليهوديّة الإسرائيليّة". ويتكوّن الكتاب من مدخل وخمسة فصول مرتبة تاريخيًّا. يناقش المدخلُ مفهوم الخلاص، وهو حسب المؤلّف "نفي المنفى" و"العودة" إلى "أرض إسرائيل". ويعالج الفصل الأوّل خروج اليهود من مصر، ويبحث الفصل الثّاني في فكر الرّاب "يهودا القلعيّ" والرّاب كوك الأب، ويناقش الفصل الثّالث "ذكرى الكارثة"، أمّا الرّابع فيتطرّق إلى "استقلال" إسرائيل وذكرى قتلاها، بينما يقدّم الفصل الخامس صلواتٍ وأدعيةً في ذكرى "استقلال" إسرائيل. ويضمّ كلّ فصلٍ مباحث للمؤلّف تتعلّق بفكرة الخلاص في التّراث الدّينيّ اليهوديّ، كما يتضمّن الكتاب نصوصًا كثيرةً لمفكّرين يهود من تيّارات مختلفة تناقش مسألة الخلاص بجوانبها المختلفة، ويناقشها الكاتب ويحللها مبديا رؤيته الخلاصيّة الخاصّة.

يضيف هذا الكتاب لبنة أخرى في الخطاب الصّهيونيّ الدّينيّ، وهو محاولةٌ لإزاحة التّيّار الدّينيّ خطوة أخرى نحو الصّهيونيّة، من خلال إعادة الفكرة الصّهيونيّة إلى الماضي، ولا يهدف الكاتب إلى صهينة الدّين بقدر ما يهدف إلى الادّعاء أنّ الصّهيونيّة هي جزء من الخلاص، بل يعتقد أنّ الصّهيونيّة هي الّتي تجمع بين اليهوديّة والإسرائيليّة، وأن تنظيرات التّيار الدّينيّ الصّهيونيّ سبقت فكرة هرتسل. وكما يتبيّن من الاقتباس أعلاه، فإنّه يعطي الصّهيونيّة مكانة في التّراث اليهوديّ القديم. ولا يكتفي الكاتب بالادّعاء أنّ الصّهيونيّة هي مشروع خلاصيّ دينيّ، بل يدّعي أنّ الصهيونية كانت حاضرة في تاريخ اليهود دائما.

يبدأ الكاتب كتابه بمناقشة فكرة الخلاص، وهذا النّقاش ضروريّ لتوطيد فكرته، والسّؤال المحوريّ لهذا الفصل هو: هل الخلاص هو خلاصٌ ربانيٌّ وكفى، أم أنّ هنالك خلاصًا من نوع آخر، ولكنّه خلاصٌ ربّانيٌّ كذلك؟ يعتقد بن نون أنّ الخلاص لا يمكن أن يكون فوريًّا، بمعنى عمل خلاصيّ فوق التّاريخ، إنما "الخلاص لا يتمّ في جيل واحد، ولا حتّى في عمليّة واحدة" (ص.32-34). إذًا، الخلاصُ هو عمليّة مستمرّة في التّاريخ اليهوديّ. هذه المقولة مهمة جدًّا في فكر التّيّار الصّهيونيّ الدّينيّ، لأنّ الخلاص إذا كان مستمرًّا وتتابعت عليه أجيال وتطوُّرات سياسيّة متلاحقة، فهو ليس فوق التّاريخ بل جزء من التّاريخ، إلّا أنّه فعل ربانيّ كذلك، لأنّ عمليّة الخلاص الحاليّة "غير قابلة للتّراجع" (ص. 37).

ينتقل الكاتب بعد ذلك إلى معالجة خروج اليهود من مصر، ويناقش مسألة: هل الخلاص كان "خلاصًا طبيعيًّا أم معجزة"؟(ص: 74). وهي مسألة فقهيّة وفكريّة في الوقت نفسه. وفي هذا القسم، يستعرض الكاتب تفسيرين للخروج؛ الأول للرّاب "إليعزر بن عزريا"، الّذي يعتقد أنّ خروج مصر كان معجزة، والثّاني للرّاب "رابي عكيفا"، الّذي قال بطبيعيّة الخروج من مصر. يشير الكاتب أنّ "المشروع الصّهيونيّ، رضع دائمًا من فكر الرّابي عكيفا، الّذي يرى أنّ الخلاص الطبيعيّ هو مقصد التوراة؛ وحتّى المعجزة في خروج مصر تمّت من خلال قوانين الطّبيعة.."(ص:76). في هذه المقولة الأخيرة تأكيدٌ على ما جاء في المقولة السّابقة، بأنّ الخروج و"جمع الشّتات" لا يتمّ بمعجزة فوق التّاريخ وقوانينه، بل إنّ المعجزة (حتّى في فكرة المشروع الصّهيونيّ في "جمع الشّتات") تتمّ من خلال حركة التّاريخ وهو جزء منها، وتسهيل قوانين التّاريخ للمعجزة هو أعظم من معجزة فوق التّاريخ.


الصهيونية وفكرة "الخلاص"

بعد ذلك، يستعرض الكاتب بشكل مثير مراحل فكرة الخلاص في العصر الحديث (ص. 81-84). ويجمع المؤلف في تحليله بين اليهوديّة كحامية للهُوِيّة في "الشّتات"، وبين المشروع الصّهيونيّ كمشروع خلاصيّ، ويدَّعي أنّ مرحلة الخلاص الأولى كانت في عام 1840. ففي هذا العام كان هنالك حالة انتظار لقدوم "المسيح" المخلّص، بيد أنّ الكاتب يقول إنّ هذا العام لم يكن عام خلاص، بل جلب هذا العام على اليهود "فرية الدّم" في دمشق، وعودة الحكم العثماني إلى "أرض إسرائيل". أدّت هذه الأحداث إلى حالة من اليأس والاحباط في صفوف اليهود الّذين عادوا وتحصّنوا في مواقع الهُوِيّة الدّينيّة، وبدّل آخرون منهم دينهم. على الرّغم من ذلك، يقول الكاتب: إنّ هذا العام -بالذات- شهد المرحلة الأولى من مراحل "الخلاص"؛ وكان أوّل من وضع مشروعًا للخلاص قبل هرتسل هو الرّاب "يهودا القلعي" (1798-1878)، الذي رأى في أحداث 1840، بداية الخلاص وليس مكمنًا لليأس والاحباط، فبدأ ينظر للخلاص بشكل مخالف للتّيّار الدّينيّ السّائد؛ وأنّ هرتسل كان مرحلة لاحقة من مراحل الخلاص. هذه مقولة مهمّة جدًّا في التّيّار الدّينيّ الصّهيونيّ- بالطّبع -، حيث تدّعي أنّ بداية الفكر الخلاصيّ الصّهيونيّ كانت فكرة قبل علمانيّة هرتسل، وحتّى هرتسل نفسه، هو جزء من الخلاص، لكنّه ليس رائده. ويمثّل التنظير الصّهيونيّ التّوراتيّ لرجال دين من أمثال الرّاب تسفي هيرش ويهودا القلعي المرحلة الثّانية من الخلاص، أمّا حركة "أحبّاء صهيون" والحركة الصّهيونيّة، فيمثّلان المرحلة الثّالثة والرّابعة. ويشكّل وعد بلفور المرحلة الخامسة، بينما يعتبر قيام دولة إسرائيل المرحلة السّادسة من الخلاص.

في القسم الّذي يليه، يناقش الكاتب فكر الرّاب "يهودا القلعي" وعلاقته بفكر هرتسل وفكر الرّاب كوك الأب. وكما أشرنا سابقًا، يعتبر الكاتب أنّ "القلعي" سبق هرتسل في فكرة المشروع الصّهيونيّ، لا بل يعتقد بن نون أنّ هرتسل طبّق فكر الرّاب "القلعي" من دون أن يعلم ذلك(ص. 144). يقول الكاتب: إنّ القلعي كان من أسّس لفكرة "الخروج من المنفى بشكل واسع، لا بل نادى بفكرة تنظيم جمعيّة عامّة لكلّ يهود العالم، من أجل انتخاب قائد معترف به في العالم"(ص. 134). وتتجسّد فكرة الخلاص و"نفي المنفى" أو "نفي الشّتات" عند الرّاب القلعي في ما يلي: "المنفى" هو خطيئة وليس عقابًا فقط، ونظرا لذلك يجب إصلاح هذه الخطيئة بالعودة إلى "أرض إسرائيل". وبما أنّ الخطيئة شاملة، فالجواب يجب أن يكون شاملًا - وهذا ما يتمّ من خلال العودة الشّاملة - وتنظيم تلك العودة لتكون ناجحة (إشارة أخرى إلى فكرة التّنظيم لدى القلعي قبل هرتسل)، ومفهوم التّوبة في نهاية الزّمان كما ظهرت في التّوراة، هي العودة إلى البلاد، وهي نفسها الخلاص(ص. 137، 138). ومن جهةٍ أخرى، أسّس القلعي فكرة العودة الشّاملة كجزء من الخلاص (أي العودة إلى أرض إسرائيل) ورفض فكرة العودة الشخصيّة الّتي سادت التّيّار الدّينيّ اليهوديّ، وتلك لا ترتبط بفكرة الخلاص الّتي تتمّ -حسب هذا التّيّار- من خلال "المسيح المخلّص". ويعتقد القلعي أنّ على المسيح المخلّص العمل وفق قوانين الطّبيعة والسّياقات السّياسيّة، من أجل تحقيق الخلاص(ص. 161).

في الأقسام الّتي تلي من الكتاب، يناقش بن نون "ذكرى الكارثة"، مؤكدا أنّه لولا الأمل الّذي شاع بعدها، لما تحقّق الخلاص(ص. 193)، وكذلك الأمر عندما يتطرق إلى حرب "استقلال" إسرائيل وذكرى قتلاها(ص. 204). أمّا القسم الأخير، فيشمل صلوات وأدعية في ذكرى "استقلال" إسرائيل. ويعتمد الكاتب في تحليله لهذه الأحداث على الإطار المفاهيميّ الخلاصيّ؛ والواقع أنّ الأقسام الأخيرة ليست ذات أهميّة كالأقسام الأولى، التي فيها تأسيس مثير لمفهوم الخلاص من خلال "جمع الشّتات".

ويعتقد الكاتب أنّ المشروع الصّهيونيّ فيه من القوّة ما يمنع ظهور الصّراع الّذي كان بين مملكة يهودا ومملكة إسرائيل في فترة الهيكل الثّاني. فالمشروع الصّهيونيّ هو القادر على جمع بين من يؤمنون بهُوِيّتهم اليهوديّة ويشدّدون عليها، ويضعون هُوِيّتهم الإسرائيليّة في درجة أدنى بكثير من هُوِيَّتهم اليهوديّة (المستوطنون في الأراضي الفلسطينيّة) من جهة، والّذين يضعون هُوِيّتهم الإسرائيليّة في المرتبة الأولى، لتأتي بعدها هُوِيّتهم اليهوديّة (سكّان إسرائيل العلمانيّين) من جهة أخرى، لأنّ الصّهيونيّة هي الرّابط بين الهُوِيّتين (الشّعب اليهوديّ ودولة إسرائيل)، كما تجسّد ذلك بصورة واضحة في "وثيقة استقلال" إسرائيل (ص. 290). بحسب الكاتب؛ قامت دولة إسرائيل لهدف واحد في الأساس، وهو "جمع الشّتات". وهذا الهدف عليه أن يكون محلّ إجماع وتوافق بين كلّ تيّارات الشّعب اليهوديّ والصّهيونيّ، وأنّ تحدّي تيّار "ما بعد الصّهيونيّة" هو التّأكيد على هذا الهدف.

في هذه المقولة الّتي يناقشها الكتاب، مدلولات في غاية الأهميّة، ذات ارتباط بـ"الشّتات اليهوديّ"، فمن يريد أن يكون صهيونيًّا عليه "العودة" إلى "أرض - إسرائيل"، و"العودة" إلى "أرض - إسرائيل" عمل تاريخيٌّ بدأ بخروج اليهود من مصر ولم ينته إلى الآن. هذه محاولة فكريّة معروفة لدى التّيّار الدّينيّ الصّهيونيّ، تعطي الفكرة والمشروع الصّهيونيّين بعدًا تاريخيًّا دينيًّا ومسيائيًّا خلاصيًّا. فالفكرة الصّهيونيّة -بحسب الكاتب- ليست فكرة علمانيّة من جهة، وليست خطيئة دينيّة من جهة أخرى، بل عمليّة خلاصيّة مستمرّة لا تأخذ بعدًا خلاصيًّا-تاريخيًّا فقط، وإنّما لها بعد آنيٌّ ولَحظويٌّ مهمٌّ جدًّا، وهي الوحيدة الّتي تربط بين الهُوِيّة اليهوديّة والهُوِيّة الإسرائيليّة. لا يقصد بن نون بالهُوِيّة اليهوديّة في مفهومها الثّقافي مقطوعة عن مفهومها الثّيولوجي - كما يدّعي التّيّار العلمانيّ (على الرّغم من أنّه لا ينجح في هذا الفصل بشكل مطلق) -، بل يقصد الهُوِيّة اليهوديّة الدّينيّة إلى جانب الهُوِيّة الثقافية. وبحسب قراءتنا، فإنّ هذا الخطاب يشكّل بداية احتكار لتعريف المفهوم الصّهيونيّ، وحصره في المفهوم الّذي نظّرت له الصّهيونيّة الدّينيّة، وقد سبقت هرتسل في ذلك. وكما هو واضحٌ، فإنّ الهُوِيّة الصّهيونيّة هي حقٌّ لكلّ من يقترب من هذا المفهوم. وفي المقابل، تهترئ وتضعف هُوِيّة الصّهيونيّ الذي يبتعد عنه. وبما أنّ الصّهيونيّة كانت حاضرة في التّراث والتّاريخ اليهوديّين، فإنّ الاقتراب من المفهوم الصّهيونيّ الصّحيح، يتطلّب الاقتراب من الإطار الخلاصيّ للصهيونيّة. ويعود الكاتب إلى المقولة التّقليديّة الأكثر حدّة في الصّهيونيّة الدّينيّة؛ وهي أنّ المشروع الصّهيونيّ هو فعل ربانيّ خالص، وأنّ حامليه هم أدواتٌ طيّعَةٌ لإرادة الرّب، وأنّ "جمع الشّتات" هو معجزة دينيّة، لكنّه تمّ بقوانين الطّبيعة. 


"المعجزة"

يحاول الكتاب التّنظير لهذه المقولة بناءً على المقولة الخلاصيّة التوراتيّة، وهي أنّ "جمع الشّتات" الذي كان حتّى قيام دولة إسرائيل، وجمع شمل حوالي 600 ألف يهوديّ في "أرض - إسرائيل" قبل قيام الدّولة، وتجميع ثلاثة ملايين يهوديّ بعد قيام دولة إسرائيل، "لهو المعجزة الكبرى الّتي لم يسبق لها مثيل في تاريخ الشّعب اليهوديّ، ولا في تاريخ باقي الشّعوب، ولن تتكرّر في المستقبل" (ص. 83). يؤكّد هذا الادّعاء على البعد الخلاصيّ في الصّهيونيّة؛ حيث يزعُم الرّاب بن نون في كتابه، أنّ "جمع الشّتات" قد ذُكر في التوراة وفي أقوال الحكماء والسّلف اليهوديّ في الفترة الّتي امتدّت من البيت الثاني (الهيكل الثاني) إلى القرن السّادس ميلاديّ. ويقارن الكاتب بين واقعة خروج اليهود من مصر وبين "جمع الشّتات" اليهوديّ، ليدلّل بذلك على المعجزة الخلاصيّة! فهو يرى أنّ خروج اليهود من مصر، كان خروجًا من مكان واحد قاده النبيّ موسى؛ ورافق ذاك الخروج الكثيرُ من الإحباط واليأس، إلّا أنّ "جمع الشّتات الصّهيونيّ"  كان معجزة، لأنّه "جمع شتات" اليهود عبر العالم.

تندرج هذه الادّعاءات في الخطاب الصّهيونيّ الدّينيّ الّذي نظَّر له الرّاب كوك الأب والابن عن خلاصيّة المشروع الصّهيونيّ وكون الصّهيونيّة جزءًا من فكرة الخلاص الدّينيّ الّتي ذُكرت في الثّيولوجيا اليهوديّة. لكن المهمّ في هذه المقولة، هو أنّ المشروع الخلاصيّ الصّهيونيّ لم يتوقف؛ فما دام هنالك يهود في العالم (في المنفى حسب التعبير الثّيولوجي)، فإنّه لا بد من تجميعهم في "أرض - إسرائيل". وإنّ "جمع الشّتات"، هو عمليّة خلاصيّة دينيّة بشريّة لم تنته. وهنا نعود إلى الرّبط الّذي تقوم به الصّهيونيّة، حسب الكاتب، بين الهُوِيّة اليهوديّة والهُوِيّة الإسرائيليّة، والّذي يتجلّى في "جمع الشّتات". فالكتابُ ضدٌّ لكلّ من ينظر إلى يهوديّة "المنفى" أو "الشّتات"، بمعنى أنّ اليهوديّة تستطيع الحفاظ على نقائها الثّيولوجي والرّوحاني من خلال البقاء في "المنفى"، وأنّ الخلاص الرّبّاني لم يبدأ بعد، وأنّ إسرائيل لا تزال حالةً من "المنفى" لليهود.

من خلال المقارنة بين "جمع الشّتات" في خروج مصر، وبين "جمع الشّتات" الصّهيونيّ، يعتقد الكاتب أنّ هنالك من يكونون ضمن هذه العمليّة الخلاصيّة من غير اليهود؛ فكما أنّ النبيّ موسى عرف أنّ أناسًا غير اليهود كانوا ضمن عمليّة خروج اليهود من مصر (من خلال الاختلاط)، فإنّ "جمع الشّتات" الصّهيونيّ كان يشمل من هم غير يهود أيضًا. وقد يسبب وجود أغيار في هذه العمليّة مشاكل كثيرة، إلّا أنّ نبوءة أنبياء وحكماء إسرائيل، قد أشارت إلى قدرة عمليّة "الخلاص" على التّخلّص من هذه المشاكل. بمعنى أنّ الكاتب يكتفي بالنّبوءات المسيائيّة لرصد المستقبل وتجاوز مشاكل الحاضر. وهذا بالنّسبة إليه، كافٍ للاعتقاد بأنّ هنالك معجزةً مستمرّةً رغم تحدّياتها، لأنّ الرّبّ هو من يجمع "الشّتات" وليس البشر؛ ولكنّ البشر وقوانين الطّبيعة هم جزء من المعجزة؛ لهذا يرفض الكاتب الفكرة التسطيحيّة عن المعجزة، وكأنّها عمل فوق التّاريخ وخارجه، لكونها سريعة وآنيّة، فالمعجزة -في نظره- تعني حركة التّاريخ الّتي تحقّق الوعد الإلهيّ.

ثمّة مقولة أخرى مهمّة في الكتاب -لا لكونها جديدة، بل لأنها جاءت على لسان راب يهوديّ (مؤلف الكتاب)- وهي أنّ اليهوديّة لم تكن لتتمكن وحدها من إقامة دولة إسرائيل، لأنّ جوهر ما يعنيها، كان الحفاظ على "الشّتات" اليهوديّ، وعلى هُوِيّة اليهود في "المنفى". لقد لعبت اليهوديّة دورًا حاسمًا في بقاء اليهود في المنفى، لكنّها لم تستطع أن تحقّق النّهضة "تكوما". ومن جهة أخرى، لا تستطيع الهُوِيّة الإسرائيليّة أن تفسّر لماذا أقيمت دولة يهوديّة في "أرض - إسرائيل"؟ إذ يعتقد الكاتب أنّ الرّبط بين هذه وتلك هو الأساس؛ وهو ما تجلّى في وثيقة "الاستقلال"، وممّا تُنبئ به الجملة التّالية في الوثيقة: "في أرض إسرائيل، قام الشّعب اليهوديّ". نرى أنّ هذا الرّبط بين اليهوديّة والإسرائيليّة حيث ساهمت اليهوديّة -كمنظومة- في البقاء، مثلما ساهمت الهُوِيَّةُ الإسرائيليّة في البناء، فكان نتاجَ هذه وتلك، الحركةُ الصّهيونيّة. هذا الرّبطُ؛ هو ربطٌ خلاصيٌّ، فالكتاب يسقط مفاهيم الخلاص الدّينيّة على هذا الرّبط بين الهُوِيَّتين. إذ لولا الصّهيونيّة، لم يكن لهذا الرّبط أن يوجد أصلًا، فضلاً عن ثباته واستمراره.


خاتمة

يعتبر هذا الكتاب نصًّا مهمًّا لدارسي الحركة الصّهيونيّة والهُوِيّة الإسرائيليّة واليهوديّة، وهو يساهم في فهم ديناميكيّات المجتمع اليهوديّ الإسرائيليّ والصّهيونيّة الدّينيّة، التي بدأ فكرها يتغلغل في المجتمع الإسرائيليّ وقادته، حتّى لو لم يُترجم هذا الفكر في القوّة الانتخابيّة. ويعيد هذا الكتاب إنتاج فكرة الخلاص من خلال الربط الصّهيونيّ المثير بين الإسرائيليّة واليهوديّة، مسترجعًا مقولات الخلاص الدّينيّ وقراءة الحاضر من خلال التّاريخ بشكل مُعمّق.

يُنظر إلى الرّاب بن نون، على أنّه يمثّل التّيّار المعتدل في الصّهيونيّة الدّينيّة، لكنّه -في حقيقة الأمر- لا يختلف عن مجمل التّيّار الدّينيّ الصّهيونيّ في فكرة الخلاص المسيائيّ، إلّا أنّه يحاول أن يعطيها أبعادًا معاصرة؛ كما أنّه يرى في "جمع الشّتات" جوهر الخلاص، لكنّه لا يرى -مثلًا- في المواطنين العرب الفلسطينيّين في إسرائيل (عرب 1948) أهليّة ما للآخرين، لأنّ الإسرائيليّة لا تستقيم من دون اليهوديّة؛ وكلتاهما لا تستقيمان من دون الصّهيونيّة.