الحداثة والهولوكوست

04 نوفمبر،2019

صدر عن سلسلة "ترجمان" في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب الحداثة والهولوكوست، وهو ترجمة حجاج أبو جبر ودينا رمضان لكتاب زيغمونت باومان بالإنكليزية Modernity and theHolocaust. يعتبر هذا الكتاب دراسة سوسيولوجية دقيقة عن جوهر الحداثة الغربية من خلال نقد الهولوكوست، ومحاولة جادة لتفكيك القوالب السائدة في فهم الحداثة، مستعينًا بماكس فيبر وماكس هوركهايمر وتيودور أودورنو وحنة أرندت، وغيرهم من رواد نقد الحداثة الغربية. كما يعتبر تفكيكًا لمحاولة الغرب الحضاري تحديد معنى الإبادة النازية لليهود باختزالها وفرض منطقه الضيق عليها بنزعها من سياقها السياسي.

يتألف الكتاب (420 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) من مقدمة كتبها عزمي بشارة، وثمانية فصول.

الحداثة وآليات تحييد الأخلاق

في مقدمة الترجمة العربية، وهي بعنوان "الحداثة وآليات تحييد الأخلاق"، يقول بشارة إن باومان انطلق في كتابه هذا من "اكتشافه وهمًا وقع ضحيته، وهو أن كارثة إبادة يهود أوروبا (الهولوكوست) هي استثناء أو انقطاع في سيرورة الحداثة، وربما التاريخ بشكل عام، أو هي نوبة جنون أو شذوذ أصابت فئات من المجتمع الحديث. والكتاب بمجمله محاولة لتأسيس مقاربة سوسيولوجية للهولوكوست بوصفها جزءًا من الحداثة، أو وجهًا من وجوهها، وليست حالة من الشذوذ أو الجنون ناجمة عن انحراف عن الحداثة وطبيعتها".

بحسب بشارة، لو كانت الهولوكوست مجرد استثناء أو شذوذ عن طبيعة الحداثة أو مرض عابر ألمّ بها "لما كان ثمة حاجة إلى استيعابها في نظرية سوسيولوجية؛ فالنظرية تفترض بنية ما قائمة متكررة تحتاج إلى أنموذج نظري لفهمها وتفسيرها".

في الفصل الأول، "مقدمة: علم الاجتماع بعد الهولوكوست"، يقدم المؤلف مسحًا عامًا للاستجابات السوسيولوجية، أو بالأحرى الندرة الفاضحة للدراسات السوسيولوجية، بشأن بعض القضايا التي أثارتها دراسات الهولوكوست. ويتناول المؤلف الهولوكوست بوصفها اختبارًا للحداثة الغربية، ومعنى سيرورة التمدن أو سيرورة التهذيب الحضاري الغربي، والإنتاج الاجتماعي للامبالاة الأخلاقية، والإنتاج الاجتماعي للعمى الأخلاقي، والعواقب الأخلاقية لسيرورة التهذيب الحضاري.

الحداثة والعنصرية والإبادة

في الفصل الثاني، "الحداثة والعنصرية والإبادة (أ)"، يبحث باومان في بعض خصوصيات معاداة اليهود، وشذوذ اليهود من العالم المسيحي إلى الحداثة، والجماعة اليهودية بوصفها منشورات زجاجية، وأبعاد حديثة للشذوذ اليهودي، والجماعات غير القومية في عالم القوميات، وحداثة العنصرية.

وفي الفصل الثالث، "الحداثة والعنصرية والإبادة (ب)"، يبحث في الانتقال من الخوف المرَضي من الآخر المختلف إلى العنصرية، وفي العنصرية بوصفها أحد أشكال الهندسة الاجتماعية، والانتقال من العزل إلى الإبادة.

بذلك، يدرس باومان في هذين الفصلين حالات التوتر والاضطراب الناجمة عن نزعات تميل إلى رسم الحدود وتحديد الهويات؛ في ظل الأوضاع الجديدة التي جلبها التحديث، وانهيار النظام التقليدي، وتمكين الدول القومية الحديثة، والعلاقات بين بعض سمات الحضارة الغربية الحديثة (أهمها دور الديباجات العلمية في إضفاء الشرعية على طموحات الهندسة الاجتماعية)، والعلاقة بين العنصرية ومشروعات الإبادة. هنا يذهب إلى أن الهولوكوست كانت ظاهرة حديثة تمامًا، لا يمكن فهمها بمعزل عن سياق النزعات الثقافية والإنجازات التكنيكية للحداثة الغربية.

الهولوكوست وتعاون اليهود مع النازيين

في الفصل الرابع، "الهولوكوست بين الأيقنة والأنسنة"، يحاول باومان مواجهة مشكلة المزج الديالكتيكي بين طبيعية الهولوكوست وتفردها بين ظواهر حديثة أخرى. ويقول، في خاتمة هذا الفصل، إن الهولوكوست كانت محصلة لقاء فريد غير متوقع بين عوامل كانت في ذاتها عادية ومألوفة تمامًا، وإن إمكانية هذا اللقاء ترجع - إلى حد كبير - إلى تحرر الدولة السياسية من الرقابة الاجتماعية واحتكارها أسباب العنف وطموحاتها الهندسية الجامحة، بعد التفكيك التدرجي لجميع موارد القوة غير السياسية ومؤسسات الإدارة الذاتية الاجتماعية.

وهو يبحث في هذا الفصل إبادة كونها غير عادية، وخصوصية الإبادة الحديثة، وآثار التقسيم التراتبي والوظيفي للعمل، ونزع إنسانية الأهداف البيروقراطية، ودور البيروقراطية الحديثة في الهولوكوست النازية، وإفلاس الضمانات الحديثة.

يتصدى باومان، في الفصل الخامس، "تعاون الجماعات اليهودية مع النازيين"، لمهمة شاقة وقاسية تتمثّل في تحليل أحد الموضوعات التي "نفضل ألا نتحدث عنها"، ويعني بذلك الآليات الحديثة التي تسمح بتعاون الضحايا في حفر قبورهم بأنفسهم، وكذلك الآليات التي تستلزم بالضرورة سلطة قاهرة تجرد الإنسان دومًا من إنسانيته على نحو يتناقض مع مبادئ سيرورة التهذيب الحضاري التي يتشدق بها المجتمع الغربي الحديث، متناولًا عزل الضحايا وصمت النخب الألمانية، ولعبة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، والعقلانية الفردية في خدمة التدمير الجماعي، وعقلانية حماية الذات من الهلاك.

نحو نظرية سوسيولوجية للأخلاق

في الفصل السادس، "أخلاقيات الطاعة (قراءة في تجارب ميلغرام)"، يتناول المؤلف إحدى الصلات الحديثة للهولوكوست، أي علاقتها الوطيدة بأنموذج السلطة الذي وصل إلى حد الكمال في البيروقراطية الحديثة. وفي هذا الفصل، تحليل مطوّل للتجارب النفسية الاجتماعية المهمة التي أجراها كل من ميلغرام وزيمباردو، وبحث في اللاإنسانية بوصفها أحد آثار البُعد الاجتماعي، والتورط في الجريمة وصعوبة التراجع، وصبغ التكنولوجيا بصبغة أخلاقية، والمسؤولية العائمة، وتعددية السلطة وسلطة الضمير، والطبيعة الاجتماعية للشر.

يمثل الفصل السابع، "نحو نظرية سوسيولوجية للأخلاق"، خاتمة ونتيجة نظرية للرؤى المتناقضة، وفيه يتتبع باومان الوضع الحالي للأخلاق في الصياغات المهيمنة للنظرية الاجتماعية، ويدافع عن مراجعة جذرية لهذا الوضع، وهي مراجعة من شأنها أن تركز على مقدرة الاستغلال الاجتماعي المتبدية للتباعد الاجتماعي، الجسدي والروحي على السواء، من خلال بحثه في الآتي: المجتمع بوصفه مصنعًا للأخلاق، وتحدي الهولوكوست لمغالطات الحداثة الغرب، ومصادر ما قبل مجتمعية للأخلاق، والقرب الاجتماعي والمسؤولية الأخلاقية، والقمع الاجتماعي للمسؤولية الأخلاقية، والإنتاج الاجتماعي للتباعد وتلاشي الرؤية الأخلاقية.

أما الفصل الثامن والأخير، "ملحق: العقلانية والخزي الأخلاقي"، فيضمنه المؤلف محاضرة جائزة أمالفي الأوروبية (1990) بعنوان "الاستغلال الاجتماعي للأخلاق"، وكلمة ختامية لطبعة عام 2000 من الكتاب، عنوانها " واجب التذكر، لكن ماذا نتذكر؟".

اقــرأ أيضًــا

 

فعاليات