نظم المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ومؤسسة الدراسات الفلسطينية بالدوحة، المنتدى السنوي لفلسطين في دورته الثانية خلال الفترة 10–12 شباط/ فبراير 2024.

انطلقت أعمال الدورة الثانية للمنتدى بمحاضرةٍ افتتاحية قدّمها الدكتور عزمي بشارة، المدير العام للمركز العربي. تطرقت المحاضرة إلى تطوّر حقل الدراسات الفلسطينية والخطر المحدق بإنجازاتها، وبالحرية الأكاديمية عمومًا، نتيجة جماعات الضغط الإسرائيلية ورأس المال المرتبط بها، والطبيعة الاستعمارية الاستيطانية لدولة إسرائيل، ومحددات الموقف العربي تجاه القضيّة الفلسطينية، وتطوّر العلاقة بين إسرائيل والدول الغربية ومصالحها المشتركة، ومآلات الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة، وأزمة المشروع الوطني الفلسطيني، والاستراتيجية المأمول أن ينخرط الفلسطينيون فيها لتحقيق السيادة والاستقلال. وتطرقت المحاضرة أيضًا إلى الجدل الدائر منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 المتعلق بعملية طوفان الأقصى، وغيرها من القضايا ذات الصلة.

استهلَّ بشارة محاضرته بالإشارة إلى التقدم الكبير الذي حققته الدراسات الفلسطينية من حيث استقبالها في المؤسسات الأكاديمية المرموقة، مع ضرورة عدم تجاهل الخطر المحدق بإنجازاتها في هذه المرحلة؛ نتيجةً لمحاولة جماعات الضغط الإسرائيلية، واليمين المتحالف معها، وبعض الأكاديميين غير المسيّسين المرعوبين من تهمة العداء للسامية، فرض مكارثيّة جديدة على المؤسّسات الجامعية في الغرب؛ مستغلين أجواء تعرّض إسرائيل لهجمات المقاومة الإسلامية يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر وحرب الإبادة الإسرائيليّة التي تُشن على قطاع غزّة حتى اليوم.

الدكتور عزمي بشارة محاضرًا في افتتاح الدورة الثانية للمنتدى السنوي لفلسطينثم انتقل بشارة إلى التحديات المحيطة بالقضيّة الفلسطينية على مستوياتٍ مختلفة، بما فيها العلاقات الدولية والإقليمية، والأبعاد السياسية والثقافية والقانونية التي تتداخل معها. وأشار إلى الطبيعة الاستعمارية الاستيطانية لدولة إسرائيل التي كشفت الحرب عنها أكثر من أي وقتٍ مضى؛ إذ تصرّف المجتمع الإسرائيلي مثل قبيلة موحّدة تشدُّه عصبية نابذة لأي رأيٍ مخالف، وطغت غريزة الانتقام والثأر على تفكيره، بحيث رأى أنّ السكان الأصليين يجب أن يَدفعوا ثمن ما جرى يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر جماعةً بوصفهم لا يفهمون سوى لغة القوّة. وفي هذا الإطار، نفهمُ أنّ الثأر والانتقام لا يمارَسان لإرضاء كبرياء المحتلين وشعورهم بالتفوق اللذين مسَّت بهما عمليّة كتائب القسام في ذلك اليوم فقط، بل يمارَسان أيضًا تطبيقًا لاستراتيجيّة مفادها تلقين الفلسطينيين وجيرانهم درسًا لا يُنسى؛ ما يؤدي حتمًا إلى الإبادة بتعريفها الدولي.

وفي الجزء الثاني من المحاضرة، تحدث بشارة عن موقف الدول العربيّة تجاه قضيّة فلسطين، مشيرًا إلى أنها تكون قضيّة العرب المركزية بوجود مشروع عربي لا بوصفها دولًا منفصلة، أما الآن فليس هناك فاعلٌ يمكن تسميته النظام العربي إلا شكليًّا، وما يوجد في الحقيقة هو أنظمة عربيّة لديها أجندات داخلية وخارجية، من دون مفهوم تصور لأمن قومي عربي، وهو ما أتاح لإسرائيل تكرار زعمها أنّ القضيّة الفلسطينيّة ليست جوهر الخلاف مع الدول العربيّة. وأنّ تطبيع علاقاتها مع إسرائيل ممكنٌ بتجاهل هذه القضيّة؛ الأمر الذي أثبتته الدول العربية بالفعل في كل موجة تطبيع مع إسرائيل. وفي المقابل، يرى بشارة أن الانفعالات العربية، في توقّع تصرف عربي رسمي مغاير يُلبّي التوقعات منها، تأتي بسبب عناد الهويّة العربية التي تجمعنا وإصرارها على النبض بالحياة، على الرغم من التحوّلات الدولية والإقليمية، وبسبب الرأي العام العربي المتضامن مع فلسطين، بل مع فعل المقاومة أيضًا، والرافض لأي تطبيع مع إسرائيل.

على المستوى الدولي، أعادت عمليّة 7 تشرين الأوّل/ أكتوبر، وحرب الإبادة الإسرائيلية التي شُنّت على غزة، القضيّة الفلسطينية إلى الواجهة، وإلى جدول الأعمال الإقليمي والدولي. ومع ذلك، نبّه بشارة إلى أنّ إسرائيل تُسابق الزمن لمراجعة هذا التطور المهمّ، وتواصل عدوانها مستهدفةً القضاء على المقاومة الفلسطينية المسلحة المنظّمة في قطاع غزة، وإقناع دول عربية بمواصلة التطبيع معها، من دون حلٍّ عادلٍ لقضيّة فلسطين. ومن جهةٍ أخرى، كشف العُدوان على غزة أنّ العلاقة بين إسرائيل والقوى المتحالفة معها في الغرب، لا سيّما الولايات المتحدة الأميركية، تقوم على المصالح ولا تقتصر عليها، فقد شهدنا سلوك المؤسسات الإعلامية الكبرى في التعامل بمعايير مزدوجة؛ ليس فقط مع القضايا السياسية، بل حتى مع الأمور الإنسانية مثل معاناة الفلسطينيين والإسرائيليين.

يرى بشارة أنّ الفلسطينيين يقفون على مفترق طرق؛ لأن قضيّة فلسطين عادت إلى الواجهة، وأنه يمكن أن نقترب من تحقيق إنجاز على مستوى الحل العادل، أو أن نبتعد عنه. فمن جهة، سوف تحاول إسرائيل وحلفاؤها فرض "ترتيبات سياسية جديدة" تُبعد الشعب الفلسطيني عن ممارسة حقوقه الوطنية أكثر مما أبعدته اتفاقيات أوسلو. ومن جهةٍ أخرى، لا تستطيع المنظومة الدولية والإقليمية تجاهل الثمن الفادح الذي دفعه الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، ولذا فإنّ الرصيد المعنوي كبير، ولا يمكن تجاوزه إقليميًّا ودوليًّا. وإذا أرادت السلطة الفلسطينية إحباط مخطط بنيامين نتنياهو وأنْ تحكم سلطة واحدة الضفة الغربية وغزة، فعليها أنْ تدرك أنّ هذا الأمر غير ممكن إلا من خلال أحد خيارين؛ إما بالتفاهم الوطني مع فصائل المقاومة في الطريق إلى السيادة والاستقلال، وإما على ظهر دبابة إسرائيلية في الطريق إلى تكريس السلطة الفاقدة للسيادة. وإذا أرادت فصائل المقاومة المشاركة في تقرير مستقبل الشعب الفلسطيني والمناطق المحتلة وترجمة نضالها وتضحياتها إلى إنجازات سياسية، فيجب أن تدخل في منظمة التحرير الفلسطينية، الجهة الشرعية الرسمية الممثلة للشعب الفلسطيني، وأن تتوافق الأطراف على شروط ذلك.

واختتم بشارة المحاضرة بملاحظة بشأن الجدالات الدائرة حول عملية السابع من تشرين الأول/ أكتوبر ومسؤولية المقاومة ومسؤولية الجيش الإسرائيلي عن بعض حالات قتل المدنيين، التي استثمرت آلة الدعاية الإسرائيلية جميع ما في جعبتها من وسائل لكي تديم تسيّد هذا الموضوع الحوارات الإعلامية، بحيث يطغى ما تعرضت له نتيجة لعمليّة واحدة للمقاومة على فظائع الحرب الشاملة المؤلّفة من مئات العمليات والمجازر التي تشنّها هي على قطاع غزّة، مؤكدًا على ثلاث نقاط، هي: أولًا، أن القضيّة الرئيسة هي قضيّة الاحتلال وممارساته التي أدّت إلى هذه العملية، وحملة العقوبات الجماعية والثأر والانتقام التي تصل إلى حدّ جرائم الإبادة التي أعقبتها. ثانيًا، ضرورة التمييز بين المستوى الأخلاقي والمستوى التحليلي في هذه النقاشات، وبين دعم الصمود ونسج الأوهام التي تُلحق ضررًا بقضيّة العدالة، وتعوق توجّه الناس إلى اتخاذ مواقف والقيام بأعمال من شأنها أنْ تُسهم في صمود الشعب الفلسطيني في وجه ما يتعرّض له، وتحقيق إنجازات سياسيّة لقضيّة فلسطين؛ كيلا تذهب هذه التضحيات سدى. ثالثًا، تكثيف جهود المثقفين الفلسطينيين في التضامن الوطني والإنساني لتخفيف معاناة الناس في غزة، والعمل على التصدي لدعاية حرب الإبادة الإسرائيلية وافتراءاتها، والضغط على القوى السياسية الفلسطينية المركزية لكي تأتلف في قيادة موحدة في إطار منظمة التحرير؛ بحيث تترجم نضال الشعب الفلسطيني وتضحياته إلى إنجازاتٍ سياسية.

ندوة: العدوان على غزة في وسائل الإعلام الغربية والعربية

انتظمت أعمال اليوم الثاني من المنتدى في جلستين انعقدتا في أربعة مسارات فرعية متوازية، وندوتين، عقدت الأولى بعنوان "العدوان على غزة في وسائل الإعلام الغربية والعربية"، ترأستها مزنة الشهابي، خبيرة التنمية والاتصالات في المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات - فرع باريس. وفيها عرض كل من يارا هواري، وبن وايت، ويوسف منير، ووائل عبد العال، أفكارهم عن طريقة تناول وسائل الإعلام العربية والغربية للحرب على غزة.

أشارت يارا هواري، المديرة المشاركة لشبكة السياسات الفلسطينية، في مداخلتها، إلى تواطؤ وسائل الإعلام الغربية في جريمة الإبادة الجماعية في الحرب، من حيث شيطنة الفلسطينيين من ناحية، وهي من أهم عناصر تسويغ الاستعمار والإبادة، وأشارت من ناحية أخرى إلى مساعي هذه الوسائل الإعلامية لحماية مشروع الاستيطان الاستعماري الصهيوني. ففي وقت، يعّرض الصحافيون الغزّيون حياتهم للخطر لتغطية جرائم الاحتلال الإسرائيلي في حربه على قطاع غزة، ونشر الحقيقة كما تحدث على أرض الواقع، تتجاهل وسائل الإعلام الغربية، في طريقة تغطيتها، الأسس الأخلاقية لمهنة الإعلام والصحافة، وتعمد إلى نشر المعلومات المغلوطة ونزع الشرعية عن الأصوات الفلسطينية، ونسبة كل ما يحدث في غزّة إلى حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، والتي صنفتها غالبية الحكومات الغربية حركةً إرهابية، إضافة إلى أكثر التكتيكات خطورةً، عبر نزع الطفولة عن أطفال غزّة، ومعاملتهم بوصفهم مقاتلين وإرهابيين محتملين. وإنّ لذلك عواقب لا تقتصر على مجال المعرفة، وإنّما له أيضًا تأثيرات مادّية خطيرة تلحق الفلسطينيين في غزّة وخارجها.

وفي سياق متّصل، عرض يوسف منير، رئيس برنامج فلسطين/ إسرائيل وزميل أوّل في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات - فرع واشنطن، أداء وسائل الإعلام الغربية دورًا مهمًا في تمكين الإبادة الجماعية للفلسطينيين في قطاع غزّة عبر مختلف المنصّات؛ فقد كشف ملامح الانحياز الإعلامي وتطوّرها على مدار فترة الحرب، متخذًا أمثلةً من تغطية الإعلام الغربي لمنعطفات حرجة أخرى، ووضع التغطية الصحافية للحدث الحالي في سياق تاريخي للتغطية الغربية لفلسطين عالةً. وجادل الباحث بأنّ أحد أهم أشكال الدعم الأميركي المقدّم في هذه الحرب هو توفير المعلومات، التي ربّما أدت دورًا أهم من الدعم الأميركي الآخر بالأموال أو الأسلحة؛ إذ ساهمت في خلق أكبر فضاء سياسي ممكن لاستكمال إسرائيل عدوانها. ولذا فإنّها خلقت أكبر انقسامٍ في الآراء بين الغرب والشرق في التاريخ المعاصر، وأضرت بالمصالح الأميركية في الوقت الحالي وعلى المدى الطويل. وبذلك، فإنّ عملية التأطير، واختيار الموضوعات، وأنماط التغطية التي قامت بها وسائل الإعلام الغربية، مكّنت من إنجاز الإبادة الجماعية للفلسطينيين.

أمّا بن وايت، الكاتب والمحلل والمؤسس والمدير التنفيذي للمركز الإعلامي البريطاني - الفلسطيني، فبيَّن أنّ تغطية وسائل الإعلام، باللغة الإنكليزية، للعدوان الإسرائيلي غير المسبوق على قطاع غزّة واجهت انتقادات كبيرة من الفلسطينيين وغيرهم، طارحًا أسئلةً متعلقة بالأخطاء التي وقعت فيها هذه الوسائل الإعلامية، وأسبابها، وماهية التغطية "الجيّدة" للحدث. وشدَّد الباحث على أنّ بعض التحديات الراهنة معروفة ومستمرة منذ وقت، وهي في الوقت نفسه متّصلة بسياق التحديات التي تفرضها الحرب؛ ولذا وجبت الاستفادة من الفرص المُتاحة على هذه الصُعُد.

وفي الختام، قدّم وائل عبد العال، الأستاذ بقسم الإعلام في جامعة قطر، التباين والاختلاف في اتجاهات التغطية في الإعلام العربي لحرب غزة. فبينما كان الإعلام العربي يناصر القضية الفلسطينية، إلى درجة أن وسائل الإعلام كانت تتنافس على التغطية وجودتها، فإنّ هذا التوافق على العدوان الإسرائيلي الراهن غاب، وأخذت التغطية اتجاهين: يتمثّل أوّلهما في وسائل الإعلام العربية التي ركّزت بقوة على الحدث، وأفردت كل المساحات تقريبًا لتغطية الحدث وتداعياته على مدار الساعة؛ وهو الاتجاه الأقرب إلى الموضوعية المهنية بالنسبة إلى الباحث. أمّا ثانيهما، فيتبنّى موقفًا غير محايد في تغطيته، بل حملت خطاباته لجهةً مشككة، ومعادية أحيانًا، في محاولة لإدانة الطرف الفلسطيني؛ ما يُعدّ سقطةً مهنية وأخلاقية كبيرة. وعرج الباحث على غياب التحليل السياسي والميداني الموضوعي وغياب المعلومات أو نقصها، في تغطية وسائل الإعلام العربية. واختتم مداخلته بالحديث عن ظاهرة القنوات الأجنبية الناطقة بالعربية، وأهم ما ميّز الإعلامَين السياسي والعسكري للمقاومة الفلسطينية.

اختُتمت، يوم الإثنين 12 شباط/ فبراير 2024، أعمال الدورة الثانية للمنتدى السنوي لفلسطين التي ينظّمها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالتعاون مع مؤسسة الدراسات الفلسطينية خلال الفترة 10-12 شباط/ فبراير 2024. وانتظمت أعمال اليوم الأخير من المنتدى في جلستين انعقدتا في مسارات فرعية متوازية، وندوتين، عقدت الأولى بعنوان "حركة حماس ما بعد العدوان على غزة"، ترأستها لورد حبش، مديرة معهد إبراهيم أبو لغد للدراسات الدولية في جامعة بيرزيت. وفيها عرض كل من معين رباني، وليلى سورا، وطارق حمود، أفكارهم عن حركة المقاومة الإسلامية "حماس" ما بعد العدوان على غزة. 

أشار معين رباني، وهو باحث ومحلل ومعلق متخصص في الشؤون الفلسطينية والصراع العربي - الإسرائيلي والشرق الأوسط المعاصر، في مداخلته، إلى تأثير عملية طوفان الأقصى وحرب غزة اللاحقة في حركة حماس. وأضاف الباحث أنه في حين لا يزال من السابق لأوانه استخلاص أي استنتاج نهائي، ما دامت نتائج الصراع لم تحدد بعد، فإنه يمكن استخلاص ملاحظات مبدئية بشأن التماسك التنظيمي لحماس وقدراتها العسكرية ودورها وموقعها داخل الساحة السياسية الفلسطينية الأوسع والحركة الوطنية، وتحالفاتها وعلاقاتها الإقليمية والدولية.

وفي سياق متّصل، ناقشت ليلى سورا، الباحثة في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات - فرع باريس، سيناريوهات ما يُسمّى "اليوم التالي"، التي تستبعد أيّ وجود لحماس، أكان سياسيًّا أم عسكريًّا. ورأت الباحثة أنه لا توجد عناصر ملموسة، يمكن أن توحي باختفاء هذه الحركة من الساحة الفلسطينية. وأضافت أنه على العكس من ذلك، فإن قدرة "كتائب القسام" على مواجهة الجيش الإسرائيلي على الأرض قد تشير إلى أن المكاسب العسكرية ستتحول إلى مكاسب سياسية. وناقشت التحديات التي واجهت حركة حماس في ضوء التغييرات السياسية التي مرت بها، خلال العقد الماضي وقدرتها على تجاوز هذه التحديات، وناقشت أيضًا جهود الحركة واهتمامها المتزايد بالانضمام إلى منظمة التحرير الفلسطينية.

أمّا طارق حمود، الأستاذ المساعد في جامعة لوسيل في قطر، فقد أشار إلى أنه بغض النظر عن النتائج العسكرية للحرب على غزة، فإن حركة حماس برزت طرفًا قادرًا على خلط أوراق المشهد السياسي والعسكري برمته؛ وهي قدرة تجاهلها الفاعلون الفلسطينيون فترة طويلة. وأضاف الباحث أن هذا التجاهل قد يكون سببًا في الانفجار القائم اليوم، وأن من شأن هذه الحرب أن تترك تطورات عديدة في مستقبل حماس، تتركز في جانبين: الأول، متعلق بالديناميات الداخلية للحركة، وإعادة تشكلها حركةً سياسية وعسكرية. وفي هذا الجانب، قد يكون نموذج صناعة القرار الحالي موضع نقاش كبير، وهو نقاش يتمتع بحيوية عالية لدى الحركة في الأوقات الطبيعية. أما الجانب الثاني، فمتعلق بحضور حماس وطنيًا، وهو جوهر ما سعت له الحركة، منذ مشاركتها في انتخابات 2006. واختتم الباحث مداخلته بالإشارة إلى أن مستقبل حماس ودورها السياسي في إطار وطني جامعٍ وشاملٍ مسألةٌ لم يعد ممكنًا تجاهلها.

ندوة: تحديات إعادة الإعمار في غزة بعد العدوان

عُقدت الندوة الثانية في اليوم الثاني بعنوان "تحديات إعادة الإعمار في غزة بعد العدوان"، وترأسها محمد أبو نمر، أستاذ كرسي عبد العزيز للسلام الدولي وحل النزاعات في الجامعة الأميركية في واشنطن، بمشاركة غسان الكحلوت، وغسان أبو ستة، وعلي الزعتري.

جادل غسان الكحلوت، مدير مركز دراسات النزاع والعمل الإنساني وأستاذ مشارك في برنامج إدارة النزاع والعمل الإنساني في معهد الدوحة للدراسات العليا، بأنّ فترة ما بعد الحرب في غزّة تتّسم اليوم بعدم الوضوح الشديد، وأنّ سياق إعادة الإعمار فيها لن يكون مطابقًا للسياقات السابقة. واستعرض الباحث حجم الخسائر في المباني السكنية والبنى التحتية ونطاقها، وتأثُّر الرعاية الصحية والمستشفيات من جرّاء الحرب، والتحديات السياسية والإدارية، المحلية والإقليمية والدولية، وتقييد الوصول إلى الموارد، وتكلفة إعادة الإعمار الماديّة، والخسائر في الموارد البشرية خلال الحرب، وأعداد النزوح. وخلص الباحث إلى أنّ مؤتمرات المانحين، فيما يتعلّق بالتمويل، غالبًا ما تكون لها قيمة رمزية، وأنّه ليس ثمّة طريق آخر لتفعيل عملية إعادة الإعمار حقيقةً، من دون إخراج إسرائيل من المعادلة قدر الإمكان. وشدَّد على أنّه من الضروري دعم بناء القدرات السريع للمنظمات غير الحكومية المحلية والبلديات والمؤسسات الشبيهة، وتحقيق مستوى ملائم من المساءلة والشفافية في العملية، وتنمية القدرة على التكيّف والمرونة؛ فالظروف تتغير بسرعة على الأرض.

أمّا غسان أبو ستة، الطبيب البريطاني - الفلسطيني، والأستاذ المشارك في علم الجراحة، فبيَّن أن التفكيك المنهجي للقطاع الصحّي في غزّة كان بهدف جعله مكانًا غير صالح للعيش على المدى الطويل، وهو الملمح الأبرز في حرب إسرائيل على قطاع غزة. ومن ثمّ، أصبحت التحديات التي تواجه عملية إعادة بناء القطاع الصحي في غزّة أكثر إلحاحًا؛ نظرًا إلى وجود أكثر من 70 ألف جريح حاليًا، ما يزال أغلبهم في حاجة إلى عمليات جراحية، أو يواجهون أزمة مزمنة تهدد حياتهم وتتطلب علاجًا فوريًا. وأشار الباحث إلى أنّ المرضى في غزة لا يستطيعون الانتظار حتى إعادة بناء النظام الصحي؛ ولذا، فمن المُلحّ وضع إطار عمل لخطة تحاول تلبية الاحتياجات العاجلة للسكان، مباشرةً بعد وقف إطلاق النار، مع نهج مرحلي لإعادة تأهيل المكونات المختلفة للنظام الصحي وإعادة بنائها بطريقةٍ تلبّي الاحتياجات الأكثر إلحاحًا بالنسبة إلى السكان في الوقت الحالي.

وفي الختام، شدَّد علي الزعتري على أنّ الوضع اليوم ليس كأيّ نزاعٍ آخر، فإسرائيل بكل أطرافها تهدف إلى التدمير والإفناء، وحجم العمل المطلوب كبير؛ إذ يستلزم إغاثة إنسانية متواصلة لا تفقد الزخم طوال أشهر وربما سنوات. وبالتوازي مع وقف القتال، تحتاج غزّة إلى حملات متواصلة للتعافي السريع المتعلق بالبنية التحتية، وخلق فرص العمل، ومن ثم إعادة الإعمار، وكل ذلك يستدعي تناسقًا وتوافقًا سياسيًّا وعملياتيًّا، وتعاونًا بين الجميع. وفي حين تصف الأمم المتحدة حالة غزّة بأنّها أزمة متراكمةٌ مزمنة، فإنّ معالجة الباحث للآلية التي تتّبعها هذه المنظمة، والمنظومة الإنسانية عمومًا، وجدت أنّها تنص على تقييمٍ متعدد القطاعات يتبعه خطة عمل وتمويل، عبر مؤتمرات المانحين، والتنفيذ، لمرحلتين: الإغاثة المنقذة للحياة، والتعافي المبكر. أمّا إعادة الإعمار، فلا يأتي ذكرها تلقائيًا في هذه المؤتمرات والخطط. ومن غير شك، فإنّ المنظمات التابعة للأمم المتحدة كوّنت صورةً لا تخفى عن حاجة غزة، وهي توصلُ ما تستطيع من معوناتٍ عبر منافذ مقيّدة وإجراءات معرقلة ومخاطر أمنية، لكن التقييم عن بُعد الذي تعتمد عليه المنظومة الإنسانية الآن، ليس في مستوى دقة التقييم المكاني المباشر والمُفصّل الذي ينبغي القيام به، بصفته أساسًا أوضح لوضع خطة، وجدول تمويلٍ مقنع.

فلسطين عالميًا والمجتمع الفلسطيني واللاجئون

انعقدت الجلسة الأولى من اليوم الثالث للمنتدى في ثلاثة مسارات فرعية متوازية. ترأس مهران كامرافا جلسة عنوانها "فلسطين في أصدائها العالمية: فكرًا وتضامنًا"، وقد شارك فيها ثلاثة باحثين؛ وهم: شاعرة فاداساريا التي اعتمدت في ورقتها على تجارب تدريس الدراسات العرقية النقدية داخل فلسطين لاستكشاف ما توصّلت إليه التباينات حول حدود مناهضة العنصرية الليبرالية بوصفها مضادة للقضية الاستعمارية في فلسطين. وفي السياق ذاته، حاول يانيس إقبال، تصوير فلسطين بوصفها نموذجًا فكريًا تتّسم به النظرية الماركسية ونظرية ما بعد الاستعمار، ورمزًا للمقاومة من خلال تجاهل الآليات التاريخية التي تمهّد الطريق إلى بروز ملامح المقاومة. في حين استعرض روفشان محمدلي التحوّل الذي طرأ على خطاب تضامن أذربيجان مع فلسطين عقب استقلال الأولى عن الاتحاد السوفياتي، والعوامل التاريخية التي عوّقت تطوّره.

وفي جلسة "اللاجئون والمهجرون: الذاكرة والمكان"، التي ترأسها إبراهيم فريحات، سلّط رامي رميلة الضوء على سياق النضال الذي كشف عنه أرشيف التاريخ الشفوي الفلسطيني من خلال تجارب ست نساء فلسطينيات من عين الحلوة خلال الغزو الإسرائيلي للبنان في عام 1982. بينما بيّنت آزاده ثبوت في ورقتها تجربة الأطفال الفلسطينيين بعد الحرب في مخيم نهر البارد للاجئين وتدميرها له عام 2007، عن طريق رسوماتهم، معتمدةً على الكتابة النسوية الجغرافية. وفي السياق ذاته، استعرضت هبة يزبك تجربة الهجرة القسرية في أوساط المهجّرين الفلسطينيين الداخليين الذين هُجِّروا من مدنهم المختلفة في أعقاب النكبة، بالاعتماد على التاريخ الشفوي للمهجّرين أنفسهم حول ظروف التهجير.

وبرئاسة عماد قدورة، انعقد المسار الثالث بعنوان "المجتمع الفلسطيني: الانتماء والفاعلية". تحدثت فيه حنين مجادلة في ورقتها عن التطوّع بوصفه ممارسةً يقوم بها الفلسطيني على نحو واعٍ وغير واعٍ لتعميق ارتباطه بهويته ومجتمعه الفلسطيني، ويعزز من خلاله الشعور بالانتماء وتشكيل هوية جمعية عن طريق هذه الممارسة. ومن خلال بحث الأزمة البنيوية التي يواجهها المجتمع المدني الفلسطيني، رصد أيمن يوسف في ورقته المشتركة مع مصطفى شتا، التمويل المشروط للمنظمات المدنية وسياسات السلطة الفلسطينية تجاهها، وآراء القادة الدينيين حول مفهوم التحرير المستهدف من المنظمات المدنية. وأخيرًا، حاول بلال سلامة، تتبّع دور الفاعل الاجتماعي الفلسطيني في خضمّ التغيرات البنيوية التي أثّرت في تشكيل المشهد الفلسطيني، وكيفية انعكاس تلك التغيرات على بنية المجتمع الفلسطيني وتشظّيه، ممهدةً لتنامي فكرة الخلاص الفردي وتراجع قيمة التضامن الاجتماعي وتفكيك البنى الجمعية.

الصحة والاقتصاد وصراع الذاكرة في سياق الاستعمار

انعقدت الجلسة الثانية لليوم الثالث في أربعة مسارات فرعية متوازية. في الجلسة التي ترأسها محمد أبو زينة "أنظمة السيطرة الاستعمارية في غزة والضفة"، ناقشت صفاء جابر الوضع القانوني لقطاع غزة بوصفه أرضًا محتلة في القانون الدولي، بعد أن مكّنت الظروف السياسية والتاريخية والجغرافية للقطاع إسرائيل من إحكام سيطرتها عليه رغم انسحابها منه عام 2005 وسيطرة حماس السياسية عليه. وحللت غادة السمان في ورقتها النمط الاستعماري في مرحلة ما بعد أوسلو، التي أخذت فيها الهيمنة الاستعمارية تتطور بسرعة مع مرور الزمن نحو مزيد من السيطرة والمراقبة على السكان الفلسطينيين، وما نتج منها من قوة تجذير الاستعمار وتعميقه. أمّا نتالي سلامة، فجادلت في ورقتها أنّ هناك قدرًا من التناقض بين مصالح البرجوازية التجارية الفلسطينية والاحتلال، يتجلى في حقيقة أن ممثلي المصالح الاحتلالية يقتصون حصة من أرباح التجار الفلسطينيين المنتمين إلى الاقتصاد التابع، ومن ثمّ هناك مصلحة لدى الكثير من التجار الفلسطينيين في التخلص من "الشراكة الإجبارية" مع "نظرائهم/ أوصيائهم" الإسرائيليين.

وفي جلسة "الصحة والبيئة في سياق الاستعمار الاستيطاني"، التي ترأستها مروة فرج، استكشف أسامة طنّوس (وآخرون) معالم الفصل العنصري الطبي في فلسطين وإسرائيل، وتتبع تشكّل خدمات الرعاية الصحية في فلسطين - إسرائيل وتوسيعها، وما أوجدته من تفاوت في الحق في الرعاية الصحية وإمكانية الوصول إليها بين المجتمعات المختلفة. أمّا إشراق عثمان، فاستعرضت في ورقتها فضاءات الانتظار المكانية والزمانية للمرضى في غزة الذين ينتظرون السفر عبر حاجز بيت حانون "إيريز" للعلاج في مستشفيات الضفة الغربية والقدس، أو الداخل المحتل، مع الإضاءة على النظام الصحي في غزة، وما يتعرض له من حصار خانق يؤثر في رعاية المرضى. وقدم الورقة الأخيرة في هذه الجلسة، نور الدين أعرج، الذي درس مكبّات القمامة الإسرائيلية في الضفة الغربية باعتبارها جزءًا من سياق بنيوي واسع من العنف الشامل تجاه الإنسان الفلسطيني والبيئة الفلسطينية، وبيّنَ كيفية تطوّر الضفة الغربية لتكون حالة استثناء إيكولوجية في الخطاب البيئي الإسرائيلي.

أمّا جلسة "فلسطين وصراع الذاكرة: نماذج نصّية"، التي ترأسها حيدر سعيد، فضمّت ثلاث أوراق. حاولت إيمان بديوي، في الورقة الأولى، تكوين فهم سوسيولوجي عن مجموعة عرين الأسود بوصفها نمطًا مستجدّ السمات، وذلك اعتمادًا على تحليل نصوص وصايا شهدائها التي كان لها الدور المركزي في تكثيف التفاعل مع المجموعة وإثارة تخوّف الاحتلال من تنامي نشاط الكفاح المسلّح في الضفة الغربية. وجادلت مرح عبد الجابر في ورقتها، بأنّ الشعب الفلسطيني في سعيه للتحرر يحتاج إلى مشهد دولي يتجاوز الدولة القومية، آخذًا في الاعتبار السياقات المختلفة للاحتلال، حيث يُمكن تعريف هذا المشهد على أنّه المخيلة الفلسطينية، وهو مرتبط بالرواية الفلسطينية التي تطرح التنوع في الحالة الفلسطينية. وفي السياق ذاته، اقترح عماد موسى أنّ أساليب طمس الذاكرة الفلسطينية في الفكر الصهيوني تنقسم إلى نمط النسيان السلبي، والذي يرتكز على الانغماس المفرط في سرديات الضحية أو المظلومية التاريخية، ونمط النسيان النشط، وهو حالة واعية ومُتعمّدة يُعبَّر عنها عن طريق فرض حقائق على الأرض لطمس التاريخ الفلسطيني أو محوه أو إعادة تفسيره.

وبرئاسة طارق دعنا، انعقد المسار الرابع بعنوان "تحديات بناء الاقتصاد في ظل الاحتلال". استعرض ماهر الكرد في ورقته بعض البدائل المتداولة من حل الدولتين، مثل الاتحاد الاقتصادي، أو نموذج دولتين متوازيتين على أرضٍ واحدة، أو نموذج دولة ديمقراطية علمانية واحدة، وذلك بالتركيز على البُعد الاقتصادي لافتراض احتمال تطبيق أيّ من هذه البدائل. ومن خلال قراءة في ما واجهته صادرات الضفة الغربية إلى إسرائيل من تحديات كبيرة بسبب نظام السيطرة المكانية الإسرائيلي، درس وليد حبّاس التكتيكات التي يستخدمها الفاعلون الاقتصاديون الفلسطينيون لتجاوز هذه التحديات، بالتركيز على صادرات الأثاث الفلسطينية إلى إسرائيل. وفي سياق متصل، دعا محمد السمهوري إلى ضرورة إعادة النظر في نموذج أوسلو الاقتصادي، لا سيّما بعد فشله في تحقيق تنمية حقيقية مستدامة، والقيام بنقلة استراتيجية نوعية في النهج السياساتي التنموي الفلسطيني التي تقوم على أساس "الحقوق غير القابلة للتصرف التي أقرّتها الشرعية الدولية".