نظم المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الفترة 22-24 نيسان/أبريل 2016، في بيروت، مؤتمره السنوي الثالث للدراسات التاريخية بعنوان "التأريخ العربي وتاريخ العرب: كيف كُتب وكيف يُكتب؟ - الإجابات الممكنة".

تحدث في الجلسة الافتتاحية المدير العلمي لإصدارات المركز الدكتور وجيه كوثراني، متسائلاً: كيف نكتب التاريخ؟ مؤكدًا أن ليس من طريقة واحدة أو منظور واحد لكتابة التاريخ العربي، فالسؤال هو التاريخ العربي، وما المقصود بالعرب وقد بدّلوا تبديلًا، وتحوّلوا تحويلًا، أطوارًا وأحوالًا وأمصارًا؟

وأوضح أن الورقة الخلفية للمؤتمر، كانت تتوقع مساهمات من التاريخ التركيبي أو مساهمات نقدية لما أنتجه المؤرخون العرب المعاصرون في هذا المجال، لافتًا إلى كثرة مساهمات الكتابة في التواريخ الوطنية أو المتخصّصة في كل قطر عربي. مشيرًا إلى غياب التأريخ التركيبي أو التوليفي أو الشامل للأقاليم الواسعة كالجزيرة العربية أو بلاد الشام أو وادي النيل أو المغرب، عن الأوراق التي قدّمت للمؤتمر، ما يشكّل ظاهرة تستحق التوقّف عندها.

أما مدير مكتب المركز في بيروت الدكتور خالد زيادة فقد تحدث عن استخدام الوثائق في كتابة التاريخ العربي، فقال إن استخدامها في الكتابة التاريخية ليس بالأمر الجديد. ولا يتعلق الأمر بكتابة تاريخ العرب والدول العربية فحسب، ولكنه يشمل أيضًا تاريخ تركيا ما بعد العثمانية وإيران القاجارية والبهلوية، وكذلك مصر التي عرفت تجربةً مبكرة في مطلع القرن التاسع عشر في بناء الدولة.

وأوضح أن ما نطلق عليه اسم العمل الوثائقي لا يتعلق بوثيقة مفردة أو مجموعة من الوثائق المتعلقة بواقعة محدودة، لأن ما نعنيه بالوثائق هو أنها تتصف بالتكرار عبر مراحل زمنية طويلة، مثل الوثائق الحكومية والدبلوماسية والقنصلية والكنسية والمحاكم الشرعية والأوقاف أو الأحباس والدفاتر التجارية والحزبية والتي تمتد على عشرات، بل مئات السنين.

ورأى أن الوثائق تبدل جذريًا فهم التاريخ وكتابته، فلا يعود التاريخ مستندًا إلى الخبريات التي دونها الإخباريون أو أصحاب التراجم، وإنما تستند إلى تراكم المعطيات التي تنقل التاريخ من سرد للوقائع والأخبار، إلى مواجهة مع صفحات متحرّكة ومتطوّرة تتضافر فيها مجموعة من المعطيات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية فضلاً عن دور الدين وحركاته في تفسير علاقات السلطة بالفئات المجتمعية، إلى تطور الأسعار والغلاء وحركات العامة والثورات، ثم الانتقال من المؤسسات التقليدية إلى الحديثة.

وأكد أن الوثائق على اختلاف أنواعها (شرعية- حكومية- قنصلية- تجارية) تضع المؤرخ على تماس مع العلوم الانسانية والاجتماعية والاقتصادية والاحصائية. وخلص إلى القول إن كتابة تاريخية معاصرة لا يمكن أن يحدث من دون العودة إلى الوثائق والاستناد إليها واعتبارها مصدرًا رئيسًا في كل كتابة تاريخية اعتمادًا على منهجيات وتقنيات علوم الاجتماع والأنثروبولوجيا، من أجل تجاوز الكتابة التاريخية المؤسسة على فرضيات إيديولوجية.

الوحي السياسي في كتابة التاريخ العربي

تمحورت الجلسة الصباحية الأولى حول "كتابة التاريخ العربي مضمونًا وتحقيبًا ومنهجًا" وترأسها الدكتور أحمد بيضون، وقدم فيها الدكتور أحمد الشبول دراسة بعنوان "نحو مقاربة لدراسة التاريخ العربي من منظور التاريخ العالمي: مسألة النظر إلى الثقافات الأخرى" وطرح أسئلة حول مدى الاستفادة من الثقافات الأخرى ومن منهجيات بعض المؤرخين الغربيين.

وميز بعض المفاهيم المتصلة بتاريخ العالم، لافتًا إلى تأثير مسألة العولمة في كتابة التاريخ المعاصر، إلى مسألة صراع الحضارات وحوار الحضارات وحوار الأديان. وتوقف في مسألة المعرفة عند غير المسلمين في زمن ابن خلدون والمسعودي، وركز على كتاب "الفهرست" لابن النديم الذي احتوى عناوين الكتب عند العرب والعجم والأمم الأخرى. ورأى أن المؤرخ الناجح يجب أن يتحلّى بحس شعري.

أما الدكتور محمود حداد في دراسته عن "أحادية التأريخ للحركة القومية العربية المبكرة"، فعمد إلى نقد هذه الأحادية، قائلًا إن المثقفين العرب الذين عاشوا في أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر كانوا غير واعين، وإن الهم الأكبر للسلطان العثماني كان الحفاظ على التراب الإمبراطوري العثماني، لافتًا إلى تصادم الروايات العربية حول نشأة الحركة العربية.

وأضاف حدّاد أن الفكر القومي العربي نشأ في مواجهة اسطنبول ولكن هذه النشأة هي نصف الحقيقة، في حين أن نصفها الآخر كان في الغرب الذي كان مسيطرًا على اسطنبول والأطراف الأخرى.

وأشار إلى أن لكل مرحلة عوامل مختلفة تظهر فيها طريقتها المميزة في التأريخ، فأثناء وجود الدولة العثمانية كانت هنالك الأمم – الدولة في ظل دولة واحدة هي الدولة العثمانية. ونفى وجود الدولة – الأمة العربية، موضحًا أن القومية العربية بالمعنى الغربي ليست موجودة، إذ أنه أثناء وجود الدولة العثمانية كان يوجد الأمم - الدولة في ظل دولة واحدة هي الدولة العثمانية.

وتناول الدكتور عمار السمر في دراسته بعنوان "من المقاربات الرسمية لكتابة التاريخ العربي" تجربتين في كتابة التاريخ الرسمي العربي، نافيًا وجود الطابع العلمي في هذه الكتابة التي غلب عليها الجانب السياسي. أما التجربتان اللتان تناولهما السمر في مداخلته، فهما التجربة السورية وتجربة جامعة الدول العربية، لافتًا الى أن الاخيرة عمل فيها المئات من المؤرخين العرب وجرى تنفيذها بتمويل من الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي، وقد حظي المشروع باعتراض بعض الدول العربية وحصول خلافات بين المؤرخين الذين شاركوا في كتابة هذه التجربة، لكن المشروع خرج في النهاية وإن حمل ملاحظات سلبية في المضمون واختلاف صيغ المناهج وغير ذلك. 

وختم قائلًا إن البلدان العربية أوجدت لأنفسها تواريخ خلطت فيها الوطني بالقومي بالإسلامي، بما يلائم نظمها الحاكمة ويعزز شرعيتها التاريخية، ما أدى إلى الوقوع في التناقضات والاعتراضات والاختلافات.

التحقيب التاريخي: المغزى والجدوى

أما الجلسة الصباحية الثانية: "التحقيب التاريخي والربيع العربي"، فانعقدت برئاسة محمود سويد، وتحدث فيها الدكتور أحمد إبراهيم أبو شوك عن مشكلة "التحقيب: التاريخ العربي الإسلامي نموذجًا"، مركزًا على الأبعاد الفلسفية والفكرية التي استندت إليها الأطروحات التحقيبية والأطروحات التي قدمت بشأن تاريخ المسلمين والأطروحات الإسلامية المعاصرة البديلة. وقال إن المسائل الإجرائية للتحقيب ترتبط بمعرفة المؤرخ، وهذا ما خلق تناقضًا في التحقيب بسبب اختلاف المنطلقات الفكرية. وخلص إلى أن التحقيب الأوروبي في شكله التقليدي يؤدي إلى خمس معالم وتواريخ للشعوب، في حين أن عملية التحقيب نفسها هي من صنعة المؤرخ. لذلك لا تستقر التحقيبات على نسق واحد.

أما الدكتور إبراهيم بوتشيش فقد قدم بحثًا عن "الربيع العربي كحلقة جديدة في التحقيب التاريخي"، فتساءل حول ما إذا كان الربيع العربي يشكّل مرحلة في التاريخ العربي، موضحًا أن بنى بحثه على فرضيات تضم بعض الوقائع. ونأى عن تداعيات الربيع العربي السياسية وما آلت إليه. ورأى أن الربيع العربي ترك تأثيرًا ثقافيًا، وللمصطلح دلالة لغوية تدل على الانتقال من مرحلة إلى أخرى. وهو الابن الشرعي للتحوّلات العالمية، بناء على ثلاثة مؤشرات وهي: مقولة النهايات، والعصر الرقمي، إضافة إلى مسألة الهويات التي مرت بها الهوية المركبة أو الهجينة أو العابرة للقارات.

أما محمد عز الدين، فتحدث عن "الزمن الفائت – صراعات الثورة والذاكرة والعدالة في مصر"، فعرض لتاريخ الثورة المصرية منذ العام 2011، واصفًا الثورة بأنها حدث متفجر، متسائلًا عن معنى الثورة ومعنى الدولة. ورأى أن الثورة أدت إلى كسر حقبة الدكتاتورية، ومن هنا يمكننا العمل على تحقيبها كتاريخ جديد عمل على خلخلة الماضي عبر اليومي.

في الجلسة الثالثة التي ترأسها نصير الكعبي، تحدث فيها الدكتور محمد مرقطن عن "الحضارات القديمة في البلاد العربية ومسألة تكوين الهوية التاريخية لأمة العرب"، والدكتور أنور زناتي عن "كتب النوازل مصدراً للدراسات الاقتصادية والاجتماعية في المغرب والأندلس".

أشار المؤرخ مرقطن إلى دور الاستعمار في الاكتشافات الأثرية في بلادنا بهدف اقتنائها. لكنه نبّه إلى ما هو أخطر من الاقتناء يبقى الجانب التوراتي الديني. ولفت إلى نشوء علم آثار يحمل توجّهات قومية، إضافة إلى علم الآثار الاستعماري، مركزًا على أن هذا النموذج الأخير تم تطبيقه على فلسطين وجنوب أفريقيا. وشدد على أن المؤرخين العرب كانوا الأقل حضورًا من حيث الكتابة عن تاريخهم الذي كتب الغربيون أغلبيته. أما منهجية التأريخ العربي فكانت ضعيفة لغياب المؤسسات العلمية المماثلة لتلك الموجودة في الغرب.

بعده، تحدث محمد الأزهر الغربي عن "الاقتصاد الغربي الإسلامي من زاوية التاريخ الاقتصادي"، فأشار إلى الدراسات الأوروبية عن التاريخ العربي وما تخللها من جوانب اقتصادية، وإن بنسبة قليلة. وركز على المؤرخين العرب والتاريخ الاقتصادي الذي جاء متأخراً، أو ربما رد فعل على المستشرقين. فقسّم هذا التاريخ الى مرحلة الفتح، ومرحلة تكدس الثروات، ثم حركة التوسع الاقتصادي. وخلص إلى أن التأريخ الاقتصادي العربي لا يزال يشكّل ثغرة في ميدان التأريخ، كما أشار إلى غياب منهاج أو مقاربة موحّدة اعتمدها المؤرخون العرب، متسائلاً إن كان ذلك بسبب ندرة الوثائق.

وكان أنور زناتي المتحدث الأخير في الجلسة الثالثة، فتحدث عن "كتب النوازل مصدراً للدراسات الاقتصادية والاجتماعية في المغرب والاندلس" (النوازل تعني الفقهاء والقضاة في القضايا اليومية الحياتية)، فنفى عن كتابة التاريخ صفة الموضوعية لأن أي مؤرخ يرتبط بقناعاته وأفكاره، إضافة إلى أن الكتابة التاريخية كانت تتم تحت سلطة السلاطين والقادة، ما يعني أن التاريخ يكتبه القوي. أما المهزوم، فيتهم ويخضع لشتى أصناف التوبيخ. وختم قائلاً ان هذه الكتب قدّمت خدمة للمصادر التاريخية إذ اشتملت على أحداث وظواهر تاريخية قيّمة.

مساهمات شخصية في التاريخ العربي

وكانت الجلسة الرابعة هي الجلسة الأخيرة من المحور الأول "كتابة التاريخ العربي مضمونًا وتحقيبًا ومنهجًا" فترأسها سيار الجميل وشارك فيها كل من رشيد الخيون بمحاضرته "جواد علي، الريادة في تاريخ قبل الإسلام"، وعبد الرحمن شمس الدين في "منهجية كمال الصليبي: «التوراة جاءت من جزيرة العرب"، وإلياس قطار "التاريخ العربي بين مقاربتين: فيليب حتي وألبرت حوراني".

ذكر رشيد الخيون في كلمته أن المؤرخ جواد علي مِن طبقة المؤرخين المرموقين في تاريخ العرب قبل الإسلام، وقد أراد تغيير الفكرة التقليدية والدينية عن العرب في الجاهلية، أو تاريخ العرب قبل الإسلام. ولفت إلى أن كثيرين ينظرون إلى ذلك التاريخ على أنه ظلام وجهل. وتطرّق الخيون في ورقته على ردود جواد علي على بعض المستشرقين في تعصبهم ضد الاسلام، وليس كلهم لاعترافه بدورهم في مجال الاكتشافات العلمية في التاريخ وعلم الآثار في المنطقة. 

أما عبد الرحمن شمس الدين، فتحدث أن كمال صليبي قدَّم طرحًا جديدًا في جغرافيا التوراة، وادعى أن مسرح حوادث التوراة الأولى لم يكن فلسطين، كما هو سائد ومتداول وراسخ ومتجذر في خلفية الديانات الإبراهيمية. لقد اكتشف كمال الصليبي أرضًا جديدة للتوراة؛ وهو بذلك الاكتشاف يقدم حلولًا عظيمة لمشكلات جمة طالما اعترضت ولا تزال تعترض، علماء التوراة في رسم خريطة صحيحة لحوادث التوراة. ولفت شمس الدين الى أن "الصليبي اعتمد في عمله على جغرافية المواقع لنزول التوراة بسبب إتقانه اللغة العبرية، ولقناعته بأهمية أسماء الأماكن، ومنها ذكر اسم عدن في التوراة".

وكانت الورقة الختامية في اليوم الأول للمؤتمر، هي ورقة إلياس قطار التي قرأها جورج نصار، ذاكراً أن المؤرخ فيليب حتي ينتمي إلى المدرسة الأنكلو- أميركية الكلاسيكية، في حين أن ألبرت حوراني استقى أفكاره من مدرسة التأريخ الاقتصادي - الاجتماعي الفرنسية. أما مردّ الاختلاف بينهما فيعود إلى التحولات التي طرأت على علم التاريخ خلال نصف قرن من مدرسة التأريخ الكلاسيكية المتأثرة بالتأريخ الوضعي إلى مدرسة "الحوليات" والتوجهات الاقتصادية الاجتماعية في علم التاريخ. ولفت إلى "تأكيد حتي في محاضرة ألقاها في الكونغرس الاميركي عدم وجود آثار لليهود في فلسطين، وأشار أيضًا إلى مناظرة ثانية في الكونغرس الاميركي، تغلّب فيها حتي على أينشتاين".

ووضّح نصّار الجديد المنهجي الذي قدّمه حوراني في مجال البحث التاريخي العربي. ولفت إلى أن حتي يكتب عن العرب كأمة واحدة لا بالمعنى العرقي وإنما بالمعنى الثقافي، في حين أن حوراني يؤرخ لشعوب عربية وأن "الأمة العربية بالنسبة إليه تتألف من مجموعة شعوب".

"المذهبية" في كتابة التاريخ

تحت عنوان "مسائل واتجاهات في التواريخ الوطنية: إشكاليات الجزئي والعام والمقارن"، ترأس الدكتور فريدريك معتوق الجلسة الصباحية الأولى، فأشار إلى مؤسس علم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم الذي طُلب منه عند الانضمام إلى الأكاديمية الفرنسية إلقاء درس تأسيسي، فقدم في حينه دراسة بعنوان "علم الاجتماع والتاريخ"، رأى فيها أن أقرب العلوم إلى التاريخ هو علم الاجتماع.

ثم قدم الدكتور سيمون عبد المسيح بحثًا بعنوان "الكتابة التاريخية في لبنان في القرن العشرين"، تناول فيه كيفية تحقيب الكتابة التاريخية في لبنان، فلفت إلى اعتماده المراحل الآتية: الحرب العالمية الأولى، إعلان لبنان الكبير، الانتداب الفرنسي، استقلال لبنان، والحرب الأهلية في عام 1975، وأخيرًا فترة ما بعد الحرب، بحيث يمكن تصنيف هذه المراحل حقبًا سياسية. وتطرق إلى المدارس المعنية بتصنيف التحقيب والتي وضعها عدد من المؤرخين اللبنانيين والعرب، فرأى أن المدرسة العربية – الإسلامية سادت كتابة التاريخ في لبنان في مطلع القرن العشرين، تلتها نماذج جديدة في المدرسة الكلاسيكية للكتابة التاريخية، ثم مع بدايات النهضة التأريخية أدى الآباء اليسوعيون وعيسى اسكندر المعلوف ولاحقًا رجال الدين الموارنة دورهم في مجال الكتابة التاريخية.

كما أشار إلى العلاقة بين التاريخ وعلم الآثار، حيث عمد بعض المؤرخين إلى التركيز على الحقبة الفينيقية تأسيسًا لفكر قومي لبناني وقومي سوري، فنوّه بالمؤرخ أسد رستم في ابتكاره مصطلح منهج التاريخ، والجامعة الأميركية التي خرجت عددًا من المؤرخين.

وألمح عبد المسيح إلى انقلاب في الكتابة التاريخية منذ مطلع سبعينيات القرن الفائت، التي تمحورت حول تطور تاريخ لبنان منذ الحقبة العثمانية مرورًا بالانفجار في منتصف القرن التاسع عشر (حربا 1840 و1860) وانتهاء بالحرب الأهلية 1975 – 1990، وازدهرت فيها الأيديولوجيا التاريخية، مختتمًا بحثه بالحديث عن تطور العلاقة بين التاريخ والعلوم الاجتماعية.

ثم عرضت الدكتورة أمل غزال ورقتها عن "تاريخ العرب الحديث: بين التقسيم الإقليمي والتهميش المذهبي والإثني – الإباضية مثالًا"، فلفتت إلى أننا نفتقد إلى منهجية تربط المناطق بعضها ببعض. وتطرقت إلى تهميش المجتمعات الإباضية في الجزيرة العربية والشمال والشرق الأفريقيين، ولا سيما زنجبار.

كما أشارت إلى تغييب الإباضيين في ليبيا، مع فارق أن الإباضيين في سلطنة عمان هم من العرب، في حين أنهم في لبيبا من البربر.

وانتقدت تهميش مذهب الإباضية في كتابة السرد التاريخي العربي، على الرغم من دور هذه الشرائح الاجتماعية في بلورة التاريخ العربي. وطالبت بإيجاد بديل يوازي بين المناطق، كما لفتت إلى الحاجة إلى شبكة تتجاوز الإقليمية، لها أهداف واضحة ومصالح اجتماعية واقتصادية بأبعاد أيديولوجية سياسية.

واختتمت بأن الإباضيين عملوا في بداية القرن العشرين على نشر دراسات تلقي الضوء على تاريخ الأباضيين وعلاقته بمحيطه الإسلامي ودمجه بالتاريخ العربي، والسعي إلى بناء سردية تقوم على الترابط العربي.

وقدم الدكتور جمال باروت بحثه بعنوان "في إشكاليات وجهة النظر السردية الطائفية في التأريخ للحملات المملوكية على كسروان". أوضح بداية أن كسروان والجرد في التاريخ هي كسروان والمتن اليوم، وقد تعرضت هذه المنطقة بين عامي 1292 و1305م، أي في مرحلة التحول التاريخي من الصليبية إلى المملوكية، لثلاث حملات مملوكية كبيرة كان أكبرها الحملة الثالثة في عام 1305م، والتي يُنسب إلى ابن تيمية شرعنتها.

وأضاف أن هذه الحملة الثالثة قد شغلت بعض المؤرخين اللبنانيين لصلتها بالعامل الديمغرافي وتأثيراته الطائفية التي استمرت حتى اليوم. وتطرق إلى الجدل الذي رافق مصطلح "أصل الجبل" في السرد التاريخي، بسبب علاقة هذه الديمغرافيا التاريخية الطائفية ببناء الوطن اللبناني، في ضوء وجهات نظر سردية طائفية، درزية أو نصيرية أو مارونية أو شيعية أو سنية حديثة.

ورأى أخيرًا أن ابن تيمية ترك لنا وثائق وفتاوى صدرت عنه وليس عن السلطة المملوكية.

بحث في تاريخ لبنان وفلسطين والمغرب

ترأس الجلسة الثانية الدكتور عبد الحميد هنية، وافتتحها الدكتور عبد الرحيم بنحادة ببحثه الذي تناول "إنتاج المعرفة التاريخية في المغرب بعد الاستقلال عام 1956"، فذكر أن حصيلة المعرفة التاريخية في المغرب كانت بدفع الأبحاث والدراسات التي أكدت وجود طفرة سببها ارتفاع عدد الجامعات مع بداية الألفية الثالثة وإنشاء أقسام لدراسة التاريخ يتولى أكثر من 300 أستاذ جامعي التدريس فيها.

وأشار إلى إن في تاريخ المغرب اتجاهات متنوعة، مركزًا على المؤرخين المحترفين وعلى جيل الطفرة في إنتاج المعرفة بالتاريخ في الفترة ما بين بداية السبعينيات وأواسط الثمانينيات من القرن الماضي. ولفت إلى ما شهدته الجامعات المغربية من حصار أدى إلى توقف الدراسات العليا فيها.

وكان الدكتور محمد حبيدة ثاني المتحدثين في هذه الجلسة، وتطرّقت ورقته إلى موضوع "كتابة تاريخ المغرب وتحقيب الزمن الطويل". فلفت إلى إن قضية التحقيب تُعد إشكالية بالنسبة إلى التاريخ العربي والتاريخ في العالم بشكل عام، موضحًا أن التحقيب يرتبط بابتكار المؤرخ واطلاعه، مشيرًا إلى أن التحقيب يستجيب لمفاهيم سياسية. ورأى أن التاريخ الحديث يستلزم بنية حديثة في البحث.

وتناولت الدكتورة فاطمة بن سليمان "مسألة الدولة في الإستغرافيا التونسية الحديثة: سياقات ومقاربات"، ركزت فيها على الدولة وعلى قسم من المؤرخين الذين أرخوا لأواخر القرن التاسع عشر وبداية دخول الاستعمار الى المغرب.

وقالت إن الدولة لا تزال تشكل هاجسًا بحثيًا عربيًا لارتباطها بشكل الهويات الوطنية والمواطنة وسواها، وتساءلت: كيف بدت صورة الدولة لدى هؤلاء؟ لتجيب قائلة "بدت الدولة منظومة عنف على المجتمع، وهي بالنسبة إلى هؤلاء المؤرخين الأوائل حديثة وأجنبية".

ثم تحدث الدكتور حماه الله ولد السالم عن "أزمة كتابة التاريخ الوطني في موريتانيا"، فلفت إلى أن أسباب هذه الأزمة تتعلق بمواقف الإسلاميين من التأريخ الديني، ومواقف القوميين من الخلاف حول التاريخ الوطني، إضافة إلى سبب جوهري يتعلق بالقبائلية التي تسود المجتمع.

وفي العراق ومصر والأردن

عُقدت الجلسة الثالثة، برئاسة الدكتور أنطوان سيف، وتحدث فيها الدكتور نصير الكعبي عن "الكتابة التاريخية في العراق في السياقات المتحولة والمقاربات المنهجية" مركزًا على تأثير السياقات في عملية الكتابة التاريخية، لافتًا إلى عدد من الأنماط من الكتابات العربية المعاصرة، مميزًا معيارين في الكتابة العراقية جاءا ضمن السياقات السياسية المتغيرة. وحدد الأنماط الراسخة في الكتابة ومنها المتعلقة بالنمط الوطني، لكنها تتناول أيضًا بلدانًا عربية، نظرًا إلى ترابط الوطني بالقومي، ويعتبر المؤرخ صالح أحمد العلي أبرز الكاتبين في هذا المجال. وهناك النمط الماركسي وأنموذجه حسين قاسم العزيز.

وقد أشار إلى الأنماط الكتابية المتحولة، وضمنها نموذج الكتابة القومية الإسلامية، ورائدها المؤرخ جواد علي. ولفت إلى أن هناك نمطًا متحولًا في الكتابة ظهر بعد العام 2003 وتمثل بالتحول في الكتابة الوطنية إلى الكتابة الطائفية، وذكر أخيرًا أن هناك نمط الكتابة الاقتصادية القومية.

بعد ذلك، تحدثت الدكتورة نجلاء مكاوي عن "تحولات الكتابة التاريخية في مصر المعاصرة". وناقشت التحولات على مدى مئة عام، والتي شملت عناصر الاتجاه والنظرية ودور المؤرخ ودور السلطة في عملية الكتابة التاريخية.

وأوضحت أن بحثها تناول الأكاديمية الوطنية، لأن أساتذتها ومنهجها ومواد التدريس فيها صارت وطنية بعد أن كانت تحت إشراف الانتداب البريطاني.

وتوقفت أمام تركيز المؤرخين المصريين في كتابتهم على تمجيد البطل الفرد، وخاصة مرحلة محمد علي الكبير وعائلته. ولفتت إلى الأوضاع الذاتية التي حكمت عمل المؤرخين المصريين في كتاباتهم وتوظيفها في خدمة القضايا السياسية، بعيدًا من المسائل الاقتصادية والاجتماعية. وأضافت أن هذه المرحلة السابقة انتهت مع ثورة 1952، فقد نشأ في مصر خلال الخمسينيات والستينيات تاريخ مصر الاجتماعي، بتأثير من السياق السياسي الحاكم، مشيرةً إلى تغير السلطة وتوجه الدولة وصدور الميثاق الوطني الذي أعلنه جمال عبد الناصر. وكان ذلك إيذانًا بمرحلة متحولة في الكتابة التاريخية، تضمنت هوية مصر العربية بوصفها واحدةً من هذه الكتابات. إلا أن تحولًا آخر حصل مع بداية مرحلة السبعينيات بعد وفاة عبد الناصر، فتحول بعض المؤرخين من ماركسيين إلى إسلاميين في عهد السادات.

كما لفتت إلى أن ما حصل في أواخر القرن العشرين تمثل في دراسة مصر في المرحلة العثمانية، بما يدحض أنها كانت مرحلة انحدار ثقافي، كما ورد في دراسات المستشرقين. وخلصت إلى الإشارة إلى وجود أزمة في من هو المؤرخ، مطالبةً بإعادة كتابة تاريخ مصر في ظل هذا الفرق الحالي في كتابة تاريخها والذي يحمل شكوكًا وأسئلة.

بعد ذلك، تناول الدكتور مهند مبيضين عن "الأردن المعاصر: التاريخ الوطني واتجاهات التدوين"، فقال إن الأردن سيحتفل هذا العام بذكرى مرور مئة عام على الثورة العربية الكبرى، مشيرًا إلى أنه لم يحصل في الأردن تغييرات جذرية في السياق الرسمي، وهذا ما ألقى بظلاله على كتابة التاريخ فيه.

ولفت إلى أن أحداثًا لم تدوّن في تاريخ الأردن، متوقفًا أمام إشكاليات، أبرزها تعيين الدولة لعدد من المؤرخين في مناصب عليا في الدولة، وبذلك انتصر التاريخ الرسمي، وهيمنت الدولة على كتابة التاريخ.

واستثنى بعض الكتابات في الآونة الاخيرة من خلال الطفرة الوثائقية.

وحصر اتجاهات الكتابة التاريخية في الأردن تمثل في مرحلة اليقظة العربية وثورتها، ولم تقتصر على كتاب أردنيين. ثم مرحلة الكتابة عن تاريخ الأمير والإمارة، تلاها مرحلة الكتابة عن الأردن، وأخيرًا كان الاتجاه الخامس وأنموذجه في الجامعة الأردنية، منوهًا بدور المؤرخ ناصر الدين أسد.

الغرب يكتب تاريخ العرب

ناقش المؤتمر خلال اليوم الثاني من أعماله (السبت 23 نيسان / أبريل 2016) قضايا كتابة التاريخ والتاريخ العربي القطري، وكذا كتابة الغرب للتاريخ العربي.

ترأست اللجنة الرابعة محاسن عبد الجليل. وتنطرّق فيها بداية الدكتور عز الدين جسّوس حول "الغرب الإسلامي بين البحث التاريخي العربي والغربي"، وأشار إلى أن الدارسين الغربيين بدءًا من الثمانينيات لا يتقنون اللغة العربية، ووصفهم المفكر مكسيم رودنسون بأنهم يعيشون في غيتو.

ثم تحدث الدكتور صالح علواني عن "تاريخ أفريقيا الشمالية – بلاد المفارقة بين كتاب "العبر" والمدارس الفرنسية المعاصرة"، فطرح سؤال لماذا نكتب التاريخ وما هو موقفنا في المستقبل وقال إن للتاريخ وظائف معرفية عدة، اجتماعية وانتقادية ونسبية، مبديًا أسفه لأن التاريخ السياسي الرسمي هو الذي طغى على هذه النواحي.

ولفت إلى تعدد التسميات التي تطلق على المغرب العربي وأن وراء كل تسمية منها سبب تاريخي، الأمر الذي عقَّد مهمة المؤرخ المغاربي، معددًا بعض هذه التسميات المتراوحة ما بين التسميات التالية: شمال أفريقيا وأفريقيا الشمالية والمغرب العربي والمغرب الإسلامي وغيرها. وأشار إلى أن ابن خلدون وبلوخ لافتًا إلى أنه على المؤرخ أن ينفتح على الآخر ويسير في اتجاه العلوم الإنسانية ويهتم بكل ما هو جمْعي، ويلتزم الإيقاع البطيء على حساب الحدثي السريع، وشدّد على ضرورة طرح أسئلة كبرى، مع الإشارة إلى الفارق الزمني البالغ بنحو أربعمئة عام بين ابن خلدون والمؤرخ مارك بلوخ.

ثم تناول الدكتور محمد الطاهر المنصوري "صورة البيزنطيين في الحضارة العربية من خلال اللغة" وتساءل إن كان ي الإمكان كتابة تاريخ العرب بمعزل عن تاريخ الآخر وأشار إلى استعمال العرب كلمات من البيزنطيين، لافتًا إلى عدد من الاعتبارات التي ساهمت في تشكيل صورة البيزنطيين عند العرب ومنها الاعتبار الديني.

وأشار المنصوري إلى استخدام العرب كلمة الروم للدلالة على البيزنطيين في حين أن مصطلح البيزنطي كان يطلقه الغربيون على هؤلاء، ولفت إلى تقديم صورة إيجابية عن الروم في المصادر العربية التاريخية.

اليوم الثالث

تمحورت جلسات اليوم الثالث حول "الذاكرة والتاريخ وحقل المنبوذ والمطموس". وترأّس الدكتور ناصر الدين سعيدوني الجلسة الصباحية الأولى التي تحدّث فيها عبد العزيز الطاهري عن "الإستغرافيا العربية المعاصرة بين التاريخ والذاكرة – المغرب نموذجًا"، فأشار إلى أنّ هذه الجدلية تُعدّ حقلًا جديدًا، وأخذ هذا الموضوع يتسع في المغرب بعد بدء هيئة الإنصاف والمصالحة أعمالها في عام 2004 لطيّ ذاكرة الإساءات الفظيعة بحق المواطنين.

وقال إنّ هذا النوع من الكتابة التاريخية يهتم بالسرد والمجالس السياسية وتقديس الأسطورة والهوية ويعكس أيديولوجيا السلطة، لذا فإنّ أغلب هؤلاء المؤرخين فاعلون سياسيون، ويمكن القول إنّ هذا الصنف من التأريخ نوع من الأسطورة التربوية.

واستعرض الطاهري أنماط الكتابة التاريخية التي رافقت تاريخ المغرب منذ ما قبل الاستعمار الفرنسي له، وفي أثنائه وبعده، ومحاولة استعادة الهوية العربية والإسلامية للبلاد؛ أي إنّها كانت محاولة لاستعادة ذاكرة البلاد. وأشار إلى هيمنة الذاكرة على كتابة التاريخ بعد فيض الشهادات التي أدلى بها كلّ طرف، ما أنتج إشكالية بين الذاكرة والتاريخ وبين المؤرخ والحدث التاريخي، مشيرًا إلى صعوبة الكتابة الموضوعية في هذا المجال لأسباب منها استقصاء الذاكرة، وانتقائية الأحداث المروية، إضافةً إلى الفاعل التاريخي الذي يروي شهادته وطبيعة انتماءاته. ودعا إلى اعتماد مقاربة تصالحية بين الذاكرة والتاريخ.

ثم تحدّث الدكتور مسعود ديلمي عن "كتابة التاريخ في الجزائر بين إحياء الذاكرة والبحث الأكاديمي"، فوصف كتابة تاريخ الجزائر بـ "الشائك"، متسائلًا عمّا إذا كانت هناك مدرسة للكتابة التاريخية في الجزائر، ذلك أنّ السؤال والشكّ حولها يأتيان من أكثر من جهة في الجزائر.

ولفت إلى إشكالية الحدود بين الذاكرة والتاريخ، ورأى أنّهما يتكاملان ويتعارفان في آن. وقال إنّ الذاكرة تفرض المقدس، في حين أنّ التاريخ يحلل بمنهج علمي، ويدور في إطار نقد دائم ويعتمد على التحولات الزمنية في قراءته. وسأل: هل المؤرخ وحده هو من يكتب التاريخ؟ وقال إنّ الكتابة التاريخية في الجزائر قد مرّت بمراحل عدة.

بعد مداخلة الدكتور ديلمي، عرَض الدكتور يحيى بو لحية بحثه عن "الميثولوجيا (الأسطورة) والتاريخ: نماذج للتحليل والاختبار"، فقال إنّ موقع النص الميثولوجي غالبًا ما يكون هامشيًا في كتاباتنا التاريخية العربية. ورأى أنّ الإنتاج الميثولوجي هو التعبير الحقيقي عن خيال المجتمع.

ثم تحدّث الدكتور عمرو عبد العزيز منير عن "السير الشعبية العربية مصدرًا لقراءة تاريخ الفتح الإسلامي لمصر"، وسلّط الضوء على ما قدّمته السيرة في الحضارة العربية الإسلامية ومجال نظرتها إلى الآخر، وإذا ما كانت هذه السيرة تصلح لقراءة التاريخ.

وتساءل عن سبب الجهد الشعبي لكتابة السير عن الفتح الإسلامي في مصر عبر روايات متعددة ومتنوعة، معدّدًا عناوين بعضها. ووصف السيرة بأنّها هوية المجتمع، واستدعاء للذات الغائبة والمنسيّة، وشكل من أشكال الصراع مع الآخر.

أمّا الجلسة الثانية فترأّسها الدكتور محمد الطاهر المنصوري، وافتتحها الدكتور محمد حمزة بالحديث عن "تاريخ المهمشين في الإسلام المبكر: قراءة نقدية جديدة لسير بعض الصحابة"، وتساءل عن المشروعية ومقتضيات التاريخ ومركز الحماية في التأريخ للإسلام، فشهادتهم كانت بمنزلة شهود على الوحي والعاملين على النقل، ما أبعدهم عن المساءلة.

وركّز حمزة على تفعيل مركزية بعض الصحابة وتهميش آخرين ما أدّى إلى تغييب مساءلة التاريخ أيضًا. وخلص إلى أنّ السيرورة التاريخية في كتابة تاريخ الإسلام مثّلت سياجًا أدّى إلى تحصين عدد من الصحابة وتهميش آخرين.

ثم تحدّث الدكتور عبد الله علي إبراهيم عن "ابن خلدون في خطاب الهوية السودانية"، ولفت إلى السياسات والأمزجة التي ترتبت عليها اهتزازات وشرعيات خدمت السلطة في استفادة بعض أركانها من تفسير ابن خلدون.

وقدّم الدكتور عبد العزيز لبيب ورقة تحت عنوان "الواقعة في تقاطع المنظورات ودخول العرب إلى أفريقيا"، ركّز فيها على أنّ بحثه ليس لإعادة ترتيب القيم الأخلاقية والحضارية بل للتدقيق في السردية الجماعية. وقال إنّ بحثه ينقسم إلى جزأين؛ يرصد في الجزء الأول شهادات المؤرخين عن دخول العرب إلى أفريقيا والتخريب الذي رافقه كما ذكر بعضهم، في حين يرصد الجزء الثاني ميدان السردية الحكائية. وسأل لبيب: كيف كتب ابن خلدون في هذا الموضوع؟ وكيف قرأ الخراب الذي أحدثته القبائل العربية للعمران في القيروان؟

ثم قدّمت محاسن عبد الجليل بحثها "نحو مداخل منهجية وأدوات جديدة لتأرخة المطموس: تأريخ النبذ والإقصاء نموذجًا"، وأشارت فيه إلى تحديات الكتابة في تاريخ الحقل الاجتماعي، وإلى كيفية حصول عملية الطمس وتهميش الأخبار بأدوات تقوم بها إمّا الدولة أو الأوساط الأكاديمية أو من خلال السرد الشعبي، أو ما يسمّى الطمس الناعم الذي يقوم به المؤرخ، وفي عمل الأرشيفات التي تلجأ إلى تغييب أحداث لا تريدها، أو من خلال العبث بالوثائق الرسمية بشطب بعض الفقرات فيها.

وكان الدكتور أحمد دلال قد تحدّث عن "إشكالية التأريخ العربي لثقافة العلوم"، فقال إنّ الإنتاج الثقافي العلمي في المجتمعات العربية والإسلامية الكلاسيكية يشمل آلاف المخطوطات العلمية من مناطق جغرافية واسعة (من حدود الصين وحتى شواطئ الأطلسي)، في فترةٍ تقارب الثمانية قرون.

وذكر أنّ العقود الأربعة الأخيرة شهدت تزايدًا ملحوظا في الدراسات التفصيلية لمجموعة كبيرة من المخطوطات العلمية العربية، ما أدّى إلى زيادة نوعية في المعرفة المتوافرة حول فروع العلوم الإسلامية المختلفة، إلا أنّ التأريخ الثقافي الشامل لا يزال يعاني الكثير من التبسيط والتسطيح، وما زال ينهل من مقولات أسَّس لها الاستشراق من جهة، أو النزوع إلى التمجيد والتفخيم للإسهام العلمي العربي والإسلامي، من جهة أخرى.

وركّز دلال في بحثه على المقاربات التي تؤكّد التعارض بين الثقافة العلمية الخاصة والتيارات الثقافية العامة السائدة في المجتمعات العربية والإسلامية ولها صيغها المتعددة؛ ومنها أنّ إحدى الفرضيات الأساسية لهذه النظرية هي أنّ انحطاط ثقافة العلوم في المجتمعات الإسلامية (بغضّ النظر عن التاريخ المحدّد لهذا الانحطاط) ينبع من طبيعة العلوم الإسلامية ومن فقدان الدعم المؤسساتي.

ولفت إلى أنّ الكثير من الكتابات عن تاريخ العلوم العربية والإسلامية يقارب من زاوية غائبة؛ بحيث يهيمن سؤال الانحطاط أو الانحدار على سائر أسئلة التأريخ. وبذلك تؤول ثمانية قرون من الإنتاج العلمي بالنظر إليها حصرًا عبر عدسة الانحطاط الذي حلّ بها في محصلة سياقها التاريخي. ويكمن الخلل الرئيس في هذه المقاربة في ردّ الانحطاط إلى مزايا ثقافية ومعرفية ثابتة وقارّة، عوضًا عن تحليل الانحطاط نفسه بوصفه نتاجًا لعوامل تاريخية مختلفة، وظاهرة عرضية للتاريخ وليس بوصفه محركًا لهذا التاريخ ومسيّرًا له.

وأضاف دلال: "إنّ المشترك بين كلّ هذه المقاربات هو أنّها تؤكد أنّ الثقافة العلمية في المجتمعات الإسلامية ازدهرت لما يناهز الثمانية قرون بمعزلٍ عن، بل رغمًا عن التيارات الثقافية السائدة في هذه المجتمعات، وليس نتيجة لها. وفي مقابل هذه المقاربات التي تزعم التعارض والتهميش، هناك مدرسة أخرى على نقيض هذه المدارس تجزم بالتناغم والتلاؤم، بل والوحدة بين العلوم العقلية والعلوم الدينية في الثقافة العربية الإسلامية، هذه المدرسة متفشية في المجتمعات الإسلامية المعاصرة وتتمتع بشعبية كبيرة بين مثقفي المسلمين وعوامّهم على السواء".

هذا، إضافةً إلى جلسةٍ عقدت بعد الظهر سبقت الجلسة الختامية، ترأّستها الدكتورة زهيرة درويش، وتحدّث فيها الدكتور سامر عكاش عن "العلوم العربية والمركزية الأوروبية الجديدة: إشكاليات التأريخ العربي للعلوم في الحضارة الإسلامية". وأشار إلى هاجس المؤرخين العرب للردّ على آراء الأوروبيين، ما قاد إلى تهميشٍ أخرج العرب من دائرة التطورات العلمية. وسأل عكاش لماذا ظهرت الكتابة عن العلوم في الغرب وليس في الشرق على الرغم من دور المسلمين العرب في العصر الوسيط في النهضة العلمية. وأوضح أنّ مؤرخي العلوم العرب ركّزوا جهودهم على تبيان الدور العربي المحوري في صناعة النهضة الأوروبية بوصفه هدفًا أساسيًا لمشروعهم، وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل: لماذا ساهموا في صناعة النهضة الأوروبية ولم يساهموا في نهضتهم؟

ورأى عكاش أنّ تاريخ العلوم العربية يتطلب تجاوز التناقضات الدينية – العلمية. وأكّد أنّ إعادة كتابة تاريخ العلوم العربية على خطوط التماسّ مع المركزية الأوروبية.

ثم تحدّث الدكتور حسين بوجرة عن "كتابة الديموغرافيا التاريخية وتاريخ الأمراض والطب". وركّز على مسألة التصورات السائدة في الكتابة التاريخية، وعلى تغييب العديد من المصادر التاريخية، ما انعكس سلبيًا على هذه المسائل، مشيرًا إلى أنّ شحّ المصادر التاريخية يتعلق بالذين كتبوا تاريخ الدول والبلاط، عكس ما هو عليه أدب الرحلات، وعن الأمراض، والرسائل الفقهية والطبية التي استبعدت من الكتابة التاريخية.

وكانت المحاضرة الأخيرة في المؤتمر للدكتور عبد الحميد المكني تحت عنوان "منعطف الأنثروبولوجيا التاريخية في المغارب: المؤرخ ومساءلة المألوف".