Author Search
​باحث زائر في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
Author Search
الباحث المشارك في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
Author Search
عميد كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية بمعهد الدوحة للدراسات العليا

في إطار برنامج السيمنار العلمي الأسبوعي للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، استضاف مشروع التحول الديمقراطي ومراحل الانتقال في البلدان العربية يوم الأربعاء 11 تشرين الأول/ أكتوبر 2017 جلسة نقاشية حول المؤسسات الأمنية والعسكرية في المراحل الانتقالية. ضمت الجلسة التي أدارها الدكتور حيدر سعيد ثلاثة من الباحثين هم الدكتور عبد الوهاب الأفندي، عميد كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية بمعهد الدوحة للدراسات العليا، والدكتور عبد الفتاح ماضي، المنسق المشارك لمشروع التحول الديمقراطي، والدكتور عمر عاشور الباحث الزائر بالمركز العربي.

الشرعية مأزق مزدوج

تحت عنوان "بين شرعية الدولة وشرعية الجيش: ملاحظات أولية"، قدم الدكتور الأفندي لسؤال الشرعية بين الدولة والجيش، مبينًا أن ظاهرة التمرد على الدولة وتحدي احتكارها للعنف قد أصابت عديد البلدان العربية، إلى حال أدى في بعضها، مثل ليبيا واليمن، إلى تفتت الجيش الوطني، وتحوله إلى فصائل تقف في مواجهة فصائل مسلحة أخرى، في ما يدعي كل منها الشرعية. وقسم الأفندي تركيبة التسلح في الحالة السودانية إلى ثلاث فئات: أولاها فئة لا تعترف بشرعية الدولة القائمة أصلًا، وترى في جيشها ميليشيا تتبع لفصيل سياسي معين. وهذه الفئة تشمل كل الحركات المتمردة والقوى المنشقة عن مؤسسات القوة في الدولة. وثانيتها الميلشيات التي تتشكل قبليًا وبتسليح ذاتي، أو تلك التي تسلحها الحكومة لقتال المتمردين. وهناك فئة ثالثة لا تنتمي إلى أي من هاتين الفئتين، سلحت نفسها بنفسها على خلفية التنافس القبلي. رفضت هذه الفئات جميعها نزع سلاحها، إلا بعد زوال ما تراه سببًا لحملها السلاح، وتطبيق خطة لإصلاح الحكم، قوامها خلق جيش قادر على توفير الأمن للجميع.

تلخص مأزق شرعية الجيوش العربي في جيوش عاجزة عن حماية أرضها ومواطنيها، تتحول كذلك إلى مصدر التهديد الأول لأمنهما. وهو الأمر الذي وجده الأفندي منافيًا لنمط تطور الدولة الحديثة، خاصة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وقيام الأمم المتحدة، حيث الشرعية القانونية والتوافقية مقدمة على مشروعية القوة. وأكد أن مسألة احتكار شرعية القوة تظل جوهر هوية الدولة، والمميز لها عن مؤسسات المجتمع المدني والشركات وغيرها.

وفي معالجته لظاهرة انحدار الجيوش نحو طبيعة "ميليشياوية"، يؤكد الأفندي أن الجيوش، لكي تستحق الاسم، لا بد من أن تتحرر نسبيًا من التحزب والتطييف، وهو ما تحقق حتى في الدول التي كانت الجيوش فيها صنيعة الاستعمار، وهي غالبية الدول المستقلة. والمفارقة أن هذه العملية بدأت عادة بتدخل الجيوش في السياسة استنادًا إلى "شرعيتها" بصفتها جهة مستقلة ونزيهة، مقابل فساد الساسة المدنيين وتحزبهم، وإلى رصيدها التحديثي، وانضباطها. ولكنّ وصول الجيوش إلى الحكم جعلها أول ضحايا انقلابها.

دفعت أزمة الشرعية بالنظم الحاكمة إلى تبني نموذج "دولة الثقب الأسود" التي تنكمش على ذاتها من الحزب الأوحد، إلى الطائفة/ القبيلة، ثم العشيرة فالأسرة الممتدة، وأخيرًا الزعيم الأوحد وبطانته من المنتفعين؛ الأمر الذي يحيل الجيوش إلى ديكور، ومؤسسة تساق بعصاتي الرعب والمنافع، بينما تقوم الأجهزة الأمنية المتعددة أداة أساسية للحكم. وفي الوقت ذاته، يتمزق المجتمع ويجري سد سبل الحوار العام الحر، ومصادر الفاعلية الاجتماعية. نموذج انحدار الجيوش لصيغ ميليشياوية بدت أبلغ نماذجه في العراق الصدامي، وسورية الأسدية وليبيا، بينما احتلت مصر مكانة وسطًا.

العسكر والخروج من السلطة

وقدم الدكتور ماضي في ورقته "العسكريون والحكم: كيف يخرج العسكريون من السلطة؟ وكيف يُعالج نفوذهم في السياسة؟" معالجة بانورامية لمسألتي خروج العسكريين من السلطة، والحد من نفوذهم في السياسة وإقامة السيطرة المدنية - العسكرية على القوات المسلحة. وقد اعتمد ماضي منظورًا قارن فيه حالات دولية بالوضع العربي بعد ثورات العام 2011 بصفة عامة مع التركيز على الحالة المصرية. وتمثل ورقته الهيكل الأساسي لكتاب مزمع نشره في الموضوع، تضمن فصله التمهيدي تقدمة مفاهيمية ونظرية للموضوع، مايزت بين النواحي المعيارية والنواحي العملية لموقع العسكريين في السياسة، وبينت قيام العلاقة بين المؤسسات العسكرية والمؤسسات السياسية المنتخبة شعبيًّا في الدولة الديمقراطية المعاصرة على أساس خضوع الأولى للثانية. لكن من الوجهة العملية، فإن عالم السياسة عالم القوى المتفاعلة، وفيه يؤدي العسكريون والأجهزة العسكرية والأمنية أدوارًا متفاوتة حتى في الدول الديمقراطية. والحديث عن دور المجمع الصناعي العسكري، وأدوار الجنرالات في رسم إستراتيجيات الأمن القومي وحتى ظاهرة تحول الجنرالات المتقاعدين إلى سياسيين معروفة ومحل للجدال هناك.

ويشير ماضي إلى أن التمييز بين مفهومي "الانتقال إلى الديمقراطية" و"التحول الديمقراطي" يسهم في تحديد مجال عمليتين مختلفتين، هما خروج (أو إخراج) العسكريين من السلطة وهو سؤال في الانتقال، ومعالجة نفوذهم في السياسة وهو سؤال في التحول الديمقراطي. الانتقال هو حال اجتياز للمسافة الفاصلة بين نظم الحكم غير الديمقراطي ونظم الحكم الديمقراطي. لا يكفل بذاته تخلص النظام الديمقراطي الوليد - بمجرد نجاح الانتقال- من المشكلات التي كانت قائمة قبل الانتقال، ومنها ضعف الأحزاب السياسية، ومحدودية الوعي السياسي، وتمدد نفوذ المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية. تلك المشكلات يجري علاجها في خلال مرحلة "التحول الديمقراطي"، بصفتها عملية ممتدة زمنيًا، وذات مراحل متعددة تختلف من دولة إلى أخرى، وكما قد تنتهي بالنجاح وترسيخ قواعد النظام الديمقراطي، قد تقع في أطوار فشل يكون منتوجها في الاتجاه العكسي.

كما قدم ماضي لحالات من تنازل العسكريين عن السلطة وتسليمها إلى حكومة مدنية، تظهر أن تطور قوة/ حركة اجتماعية وسياسية معارضة ولها جذور شعبية، وقادرة على تشكيل بديل سياسي مدني هو العامل الأهم في إنجاز الانتقال إلى الديمقراطية. ويتطلب الأمر تحقيق قدر من الإجماع الوطني ووجود مرجعية فكرية ترسم المبادئ والأولويات، في إطار من الحوار البنّاء بين جميع القوى، وتوافر صيغ وبدائل للحكم العسكري، ومساندة رأي عام قوي لبرنامج الانتقال. هذه العوامل كفيلة بتحييد العقبات التي قد تأتي من الخارج، وتيسّر التعامل معها بقدر كبير من الحكمة والواقعية.

وحلل ماضي الظروف التي تمكن من فتح ملف العلاقات المدنية - العسكرية عبر ثمانية أسئلة تخص طبيعة المصالح العسكرية، والفاعلين الذين يديرون السيطرة المدنية، والسياق الداخلي والخارجي لها، والتوقيت الملائم لبدئها، والإستراتيجيات المستخدمة، وآليات فرضها وسبله، وكيفية التعبئة المجتمعية لدعمها، ونوعية المخاطر التي قد تهددها.

وانتهى باستعراض حالات عربية لتدخل العسكريون في السياسة، متناولًا عوامل ذلك التاريخية والسياسية. وعرج على كيفية إدارة نفوذ العسكريين في مجالات السياسة والاقتصاد، مركزًا على السمة المشتركة بين نظم الحكم العربية. كما تناول الظروف التي يمكن أن تُمهّد الطريق لظهور قوى التغيير الديمقراطي الشامل، بجانب متطلبات إنجاز الانتقال إلى نظم الحكم الديمقراطية في الدول العربية.  

تحديات إصلاح القطاع الأمني

تحدث عمر عاشور في ورقته عن التحديات التي تواجهها البلدان العربية في مجال إصلاح القطاع الأمني ومسؤولية السلوك الأمني القمعي في إطلاق شرارة ثورات الربيع العربي في مصر وسورية وليبيا واليمن والبحرين. وهو يرى أن أجهزة الأمن في دول الانتفاضات العربية كانت أقرب إلى عصابات الجريمة المنظمة منها إلى أجهزة أمن محترفة؛ بما دفع قوى الثورة إلى المطالبة بتغيير هذه الممارسات. لكن وباستثناء الحالة التونسية آلت الجهود والمبادرات في هذا الصدد كافة إلى فشل ونكوص عن إحداث تغيير، سواء بسقف ثوري أو إصلاحي. وشرع من هنا في محاولة تقديم إجابة عن هذا الوضع، وأسبابه، بادئًا من تعريف لعملية إصلاح القطاع الأمني بأنه تحول للنظام الأمني - يشمل جميع مؤسساته وأدوارها ومسؤولياتها وإجراءاتها وأهدافها - بحيث تتم إدارته وتشغيله على نحو أكثر اتساقًا مع معايير الديمقراطية ومبادئ الحكم الرشيد؛ ما يساهم في خلق جهاز أمني جيد الأداء. واستعرض مفهوم "الأمن الإنساني" أساسًا لهذا الإصلاح.

وبيّن عاشور شمول عملية الإصلاح لجميع أفرع قطاع الأمن، مبيّنًا أن التركيز الرئيس في مرحلة (2011-2013) كان على وزارات الداخلية وأجهزة الاستخبارات الداخلية التابعة لها، وغيرها من الأجهزة التابعة التي كانت تجري فيها الانتهاكات بحق المواطنين. وأظهر أن العملية قد تشكلت من ركنين، أولهما إنشاء أنظمة إدارة ورقابة ومساءلة فعالة للجهاز الأمني، وثانيهما الارتقاء بنوعية الخدمات الأمنية والعدلية. واستعرض عددًا من المبادرات، منها المحلي الذي قادته قوى اجتماعية، ومنها المدعوم من المنظمات الدولية، والتي حاولت تقديم خطط لتحسين وسائل الرقابة والمساءلة، وتعزيز المساءلة. ومنها جهود شارك فيها الباحث، قادتها اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) التابعة للأمم المتحدة، بغية وضع تصور لحالة قطاع الأمن وسبل إصلاحه في المراحل الانتقالية، انتهت إلى تقرير بعنوان "القطاع الأمني في المنطقة العربية في ظل عمليات التحول السياسي: الموروثات والمهام والتصورات".

وقدم عاشور نظرة مقارنة لنماذج من مختلف بلدان العالم التي مرت بتجربة إصلاح القطاع الأمني في إطار عمليات المقرطة، موضحًا الركائز التي اعتمدت عليها في حالات مثل إسبانيا وجنوب أفريقيا وإندونيسيا وتشيلي.

وأخيرًا قدم عاشور تحليلًا مقارنًا لجهود الإصلاح الأمني في البلدان العربية، ولماذا تعرقلت في غالبها، ربما باستثناء نسبي للحالة التونسية. وأكد أن هذه العملية مرهونة بتوافر عوامل مجتمعية وسياسية لتعزيزها وإنجاحها. وما أعاقها في الحالة العربية كان بسبب اشتداد حدة الاستقطاب السياسي الذي دفع إلى تسييس عملية إصلاح القطاع الأمني، وانهيار التوافق والإجماع على أهدافها، واشتداد مقاومة المعادين لعملية الإصلاح من داخل المنظومة الأمنية، وسعيهم لإفساد العملية من الداخل. وعجز الفكر القيادي في هذه المؤسسات عن إدراك نواحي الرقابة المدنية الفعالة، والتدابير المرتبطة بالشفافية، وضرورة تشكيل آليات المساءلة، وتجذير مبادئ الجدارة وليس الأقدمية، وتعديل مناهج التكوين والتعليم المهني. وهناك أيضًا سبب نابع من محدودية قدرات الحكومات المنتخبة حديثًا ومواردها، بسبب من تراكم آثار الفساد وسوء الإدارة التي ورثتها حكومات المنتخبة؛ ما أعاق الاستثمار في عملية معقدة وطويلة المدى كعملية إصلاح القطاع الأمني. وأضاف إلى الأسباب محدودية المعلومات والخبرات التي تتمتع بها الجهات المنوط بها قيادة عملية الإصلاح أو الضغط لتنفيذها، وضعف قدرة السياسيين والنواب المنتخبين على ترجمة المطالب الإصلاحية إلى إجراءات تنفيذية وتشريعية ملزمة. وبيّن دور العامل الخارجي إعاقةً أو دعمًا لعمليات إصلاح القطاع الأمني والعدالة الانتقالية والرقابة الديمقراطية على القوات المسلحة والتحول الديمقراطي. ففي الوقت الذي قدمت دول مثل قطر وتركيا وبريطانيا وسويسرا وكندا دعمًا تقنيًا فيما يخص عمليات الإصلاح في ليبيا ومصر وتونس، كانت دول إقليمية أخرى تستثمر بسخاء في إفساده. وأخيرًا أكد عاشور أن إنجاح مسارات دعم القطاع الأمني وإرساء الديمقراطية في البلدان التي تعسكرت فيها الثورات يتوقف على استكمال نزع السلاح وتطبيق قواعد التسريح وإعادة الدمج.

وقد شهدت المداخلات الثلاث نقاشات عديدة، ركزت على الحالة العربية ومركزية سؤال العلاقات المدنية - العسكرية في المراحل الانتقالية.