رئيس وحدة دراسات الخليج والجزيرة العربية في المركز العربي ورئيس تحرير دورية "سياسات عربية".
استضاف سيمنار المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالدوحة، الذي جرى استئنافه بصيغة عن بُعد ونقلٍ مباشر عبر وسائط التواصل الاجتماعي (فيسبوك، وتويتر، ويوتيوب)، الدكتور حيـدر سعيـد، مدير قسم الأبحاث في المركز، ورئيس تحرير دورية "سياسات عربية"، الذي قدّم محاضرةً بعنوان "المسألة الطائفية عند حنّا بطاطو"، وذلك، يوم الأربعاء 22 نيسان/ أبريل 2020.
بدأ الدكتور سعيد عرضه بطرح سؤال معضلة الاهتمام بالمؤرخ حنا بطاطو في الدراسات المعاصرة عن مجتمعات المشرق العربي الحديث، وذلك بالنظر إلى أنّ المؤرخ الفلسطيني وضع عددًا محدودًا جدًا من الأعمال، وفيها عملٌ مركزي أساسي واحد، محقّقًا في الآن ذاته حضورًا كبيرًا، وهذا فضلًا عن أنّ هذه الأعمال ليست أعمالًا نظرية عامة تعطي لواضعها مكانةً فريدة، كبعض المنظّرين الذين أطلقوا نظريةً عامة من خلال كتاب واحد فقط، عُدّ مفتتحًا لحقبة علمية جديدة.
وأبرز الباحث أنّ عمل بطاطو هو تأريخٌ تطبيقي لمنطقة محددة، وليس فيه (ولا لدى صاحبه) ادعاءٌ بأنّ تأريخه يحمل في باطنه نظريةً عامة، أو نموذجًا قابلًا للاستعارة والتطبيق وإعادة الإنتاج؛ وهو تأريخٌ فتَح جسورًا مع السوسيولوجيا والاقتصاد السياسي والسوسيولوجيا السياسية، في وقتٍ لم تكن فيه فكرةُ تنافذ المعارف فيما بينها حاضرةً في مسرح العلوم الاجتماعية والإنسانية، كما هي اليوم؛ ما جعل، في رأي سعيد، باحثين من حقول عدة في العلوم الاجتماعية ينسبون عملهم إليه.
ثم انتقل سعيد ليناقش كتاب بطاطو عن العراق الطبقات الاجتماعية القديمة والحركات الثورية في العراق الذي عدّه "إنجيل الدراسات العراقية"؛ على اعتبار أنه لا يمكن أن يكتب باحث أو باحثة عن العراق الحديث ومجتمعه من دون أن ينطلق من هذا الكتاب، وذلك على الرغم من توافر دراسات كثيرة عن العراق، في صدارتها أعمال علي الوردي. وقد كانت هذه مناسبة ليخوض الباحث نقديًا وبشكلٍ مستفيض في أعمال السوسيولوجي العراقي علي الوردي، وعلى نحوٍ مقارن بحنّا بطاطو.
وفي جوهر طرح أطروحته عن المسألة الطائفية عند حنّا بطاطو، عدّ سعيد عمل بطاطو نموذجًا للمختصين بدراسة مجتمعات المشرق العربي ما بعد الدولة الحديثة، ومحاولةً لصياغة نموذج تفسيري محلي؛ أي إنه ليس نظرية كونية، بل إنه يقتبس النظرية لبناء مقولات تفسيرية محلية الطابع. وفي هذا الصدد، أبرز الباحث أنّ بطاطو يتعامل مع الهويات الطائفية والإثنية باعتبارها بنى ما قبل حديثة. وقد كانت تشكّل، بالفعل، "مجتمعات أهلية"، أو ما يشبه ذلك، وبقيت، في رأي بطاطو، كما هي العصر الحديث الذي نشأ بسبب انخراط العراق في السوق الرأسمالية العالمية؛ بمعنى أنها لم تتطور، أو تكسب معنًى ومفهومًا جديدين. وفي حين يشير بطاطو إلى التداخل بينها وبين البنى الحديثة فقط، فإنّ سعيد يرى أنّ هذه البنى تفاعلت مع البنى الحديثة، وتطورت وأنتجت بنىً جديدة لم يعرفها العصر القديم؛ فبسبب الروابط والتقنيات الحديثة الناشئة، لم تعد هذه البنى مجرد انتماءات مذهبية، أو مجتمعات أهلية، بل أصبحت طوائف متخيلة، بتعبير عزمي بشارة، وهو منتج حديث؛ بمعنى أنه ما كان يمكن أن يكون موجودًا لولا الحداثة.
وفي الخلاصة، أكّد سعيد أنّ رؤية بطاطو لا تنفصل عن المركزية الغربية، في افتراض حتمية الحداثة، وفي العجز عن تقديم لغة جديدة لوصف التقدم الاجتماعي غير لغة الحداثة الغربية، وفي افتراض أنّ البنى القديمة تموت أمام الحداثة. وأبرز، أيضًا، أنّ بحثه يتعدّى مناقشة بطاطو وفهمَه، ليروم فحص التماسك المنهجي لمقاربتين مختلفتين في دراسة الطائفية والهويات الطائفية في المنطقة؛ ترى إحداهما فيها مجرد حامل قديم لصراعات ذات طابع حديث، وترى الأخرى كيف أنّ هذه الهويات تكيّفت مع التحديث، وأسّست لها بناها الخاصة التي ليست موجودة، بالضرورة، ما قبل عملية التحديث. وتنزع الأولى عنها أيّ وظيفة ذات صلة بمضمونها القديم، وتتابع الأخرى كيف خلقت من المضمون القديم رابطة متخيلة، تنافس الروابط الحديثة الناشئة، أو المستنبتة؛ فالأولى هي مقاربة صيرورة التلاشي، والأخرى هي مقاربة ديناميكية التكيف. ويرى سعيد أن بطاطو هو المثال الأبرز والأهم للمقاربة الأولى. ولذلك، فإنه يؤكّد أنّ مشروعه البحثي لا يسعى إلى أن يفهم جهود مؤرّخ رحل عن عالمنا قبل نحو عقدين، بل إنه يسعى إلى أن ينخرط عبره في النقاش المنهجي الراهن في كيفية دراسة الطائفية والهويات الطائفية والصراع الطائفي.
وأعقب المحاضرة نقاشٌ ثريّ، شارك فيه عن بُعد، عبر برنامج ويبيكس، الباحثون في المركز وأساتذة معهد الدوحة للدراسات العليا وطلبته، كما شارك فيه جمهور المتابعين عبر وسائط التواصل الاجتماعي.