Author Search
المحرّر العلمي في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. عمل مديرًا ومستشارًا في عدّة مشاريع لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في سوريا. له العديد من الدراسات والبحوث في مجالات التعليم، والتنمية البشرية، والتنمية والسكّان، والهجرة الخارجية السوريّة، والاستشراف المستقبلي لمسارات التنمية. وهو مختص بالتاريخ الاجتماعي والسياسي السوري الحديث. شارك في تأليف أكثر من ثلاثين كتابًا مؤلِّفًا، أو مؤلِّفًا أساسيًّا، أو مؤلِّفًا مشاركًا.

يستعرض محمد جمال باروت في هذا البحث الأصول التاريخية "المنظومية" للطائفتين السنيّة والشيعيّة في القرنين الهجريين الرابع والخامس، ويُقصد بالمنظومية هنا النسق المنهجي النظري الاعتقادي الفقهي الإثنو-رمزي الجماعاتي الذي تتشابك عناصره البنيوية وتتبادل التأثير فيما بينها. ويعيد هذا النسق بناء الجماعة وتخيلها من جديد، ويؤصّل أمشاجها وأفكارها ومفاهيمها وقيمها وتواريخها السابقة منظوميًا، أي في نسق يعيد إنتاجها، بوصفها الفرقة التي تمثل "الدين القويم" و"الصراط المستقيم"، والمقصودة بحديث "الافتراق" الذي صيغ، بحسب اجتهاد الباحث، في القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي بواسطة المجاميع الحديثية، التي اشتهر منها ما سيطلق عليه في مرحلة لاحقة اسم مجاميع "الصحاح"، والتي ستغدو في القرن السادس ستة مجاميع، بإضافة سنن ابن ماجه إليها، وهي المجاميع التي خرّج ثلاثة منها فحسب "حديث الافتراق" أو "الفرقة الناجية" أو ما نصفه بالفرقة "القويمة الاعتقاد" بصيغ لفظية مختلفة، واختلاف طفيف في عدد الفرق "الهالكة".

ويعدّ الباحث القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي قرن التأسيس الاعتقادي والفقهي المنظومي بالنسبة إلى الفرق والمذاهب الاعتقادية والفقهية الإسلامية السنية والشيعية التي نعرفها اليوم، وبروز دينامية "الاقتران" فيها بين الفقه والكلام، وتحول فرقها السنية والشيعية في مجرى الصراع الاعتقادي - السياسي في القرنين الرابع الهجري/ العاشر الميلادي والخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، من "فرق" يتمثل كل منها مفهوم "الفرقة الناجية" في ما يطلق عليه البعض اسم "حديث الافتراق"، وتكفير الفرق الأخرى ورميها في "النار"، إلى طوائف أو جماعات طائفية منظومية. والفرقة هنا بمعناها الاعتقادي الكلامي الإسلامي الكلاسيكي، من حيث هي صاحبة مقالة اعتقادية، هي عنصر من العناصر المنظومية الأساسية للطائفة، لكنها لا تساوي الطائفة؛ إذ يمكن الفرقة أن تبقى كذلك، من دون أن تتحول إلى طائفة مثل فرقة المعتزلة، وعديد من فرق" الشيعة" الثلاث عشرة التي انفرزت وانكشفت في أواخر القرن الرابع، على خلفية غياب الإمام الشيعي الثاني عشر (المهدي المنتظر)، وبدء ما يطلق عليه شيعيًا اسم "الغيبة الصغرى" التي امتدت ثمانيةً وستين أو تسعةً وستين عامًا تقريبًا، بين وفاة الإمام الحادي عشر ووفاة السفير الرابع السمري.

يدرس محمد جمال باروت في هذا البحث الديناميات الاعتقادية والفقهية والتاريخية الأساسية والمركّبة لعملية التحول المنظومي من "فرق" إلى "طوائف" في الاجتماع الإسلامي، على مستوى الفرقتين الأساسيتين؛ السنية والشيعية، وبناء منظوماتها الاعتقادية الفقهية الجماعاتية المميّزة. ويرى الباحث أنّ الفرقة لا تتحول إلى طائفة أو جماعة طائفية منظومية أو "أهل" أو "أصحاب آل" إلا بواسطة توافر مجمل عناصرها الأساسيّة المحدّدة، واشتغالها في بنية أو نسق واحد في سياق تاريخي - اجتماعي محدّد، حكمه في التاريخ الإسلامي ما يمكن وصفه، بلغة فهمي جدعان، بـ "جدلية الديني والسياسي" في الإسلام، والتي يجمع مؤرخو الفرق السنة والشيعة مثل النوبختي والأشعري والبغدادي ثم الإسفراييني ومن بعدهم، على أن عقدتها قد برزت مباشرة منذ الصراع حول من يخلف النبي بعد وفاته. ومن هنا يقوم مفهوم الطائفة على منظومة سوسيولوجية (الجماعة)، واعتقادية (مقالة اعتقادية ولا سيما منها مقالة الفرقة الناجية)، وتنظيمية مؤسسية للعبادات والمعاملات والنظم والطقوس والعادات الإثنو - رمزية التي تتولاها سلطة فقهية معترف بها من طرف الجماعة، وتحدّد هذه السلطة أحكامها الشرعية العمليّة الداخلية المتصلة بتفاصيل حياتها اليومية من أحكام "الطهارة"، حتى آخر كتب الموضوعات أو الكتب في كتب الفقه، وكذلك الأحكام الكلية والتفصيلية، الاعتقادية والعملية المتعلقة بعلاقاتها بغيرها من المخالفين لها في المذهب أو في أصول الدين. وتتميز هذه العناصر في ضوء المفهوم الكلاسيكي الحديث للبنية، بالتزامنية في بنية محددة، لكن بنيتها التزامنية تشرح نسقيّتها وليس تكونها المنظومي النظري والتاريخي؛ فهذا التكون يحيل دومًا إلى التاريخ - الاجتماعي أو إلى جدلية الديني والسياسي في تاريخ الإسلام، بحيث تمثّل هذه الجدليّة هنا "المتغيّر المستقل" الذي يؤثر في سائر المتغيّرات الأخرى التابعة ويحدّدها، ثم يتحول المتغيّر التابع بدوره مع البناء النسقي التدريجي للطائفة إلى متغيّر مستقل في عمله، يفرز بدوره متغيرات نسبية تابعة له، وتشتغل بينهما متغيرات وسطية معقدة، يتحول فيها المتغير التابع إلى متغير مستقل قادر على النمو ذاتيًا والتغذي على نفسه بواسطة عنصر أساسي هو عنصر التنظيم والمأسسة.